مواضيع اليوم

المسافر 1

sameer mahmoud

2009-10-04 18:12:07

0


المسافر


الزائر القادم من عاصمة الضباب , بصخبها و ايقاعها السريع , يجد مطار الملكة علياء الدولي , صغيرا و جميلا , تستقبلك وجوه جميلة رجال و نساء من شتى الاعمار بابتسامات يعلوها حزن .
قالها البعض لي .. الحمد لله على السلامة . لكنها كانت بشكل سريع لا اعرف فيها تلك الحيوية التي اعتدتها في زياراتي السابقة .بداية ظننت ان الامر يتعلق بما جرى على الطائرة من خلل فني نبهنا طاقم الطائرة بحدوثه اثناء عبورنا لمنخفض جوي . الا ان الرحلة الجوية كانت ممتعة و تميزت هذة المرة عن غيرها من الرحلات السابقة بمقعدي الذي ساقني اليه قدري بجانب صديق قديم لم اشاهده منذ ايام الدراسة . ضحكنا كثيرا من ذكريات الطفولة و من معلمي المرحلة الثانوية و الاحداث التي مرت بنا سوية . و انتهى الوقت سريعا . افترقنا على وعود بالزيارة العاجلة .
لم اتعود في زياراتي و تنقلاتي ان اخبر اصدقائي و لا الاقارب عن مواعيد زياراتي و اجازاتي , لعلمي ان لكل منهم اشغاله و متاعبه في الحياة و انني استطيع تدبر اموري اثناء تنقلاتي و رحلاتي العديدة الى اماكن متنوعة .
في سيارة الاجرة التي راحت تسرق مني منظر الاشجار التي تحيط شارع المطار كاسوار في معصم حسناء فلم اتمكن من رؤية جمالها الا انني كنت اشاهد تلك المباني الرابضة على التلال القريبة او البعيدة عن الناظر اليها من الشارع و قد اكتسى بعضها بالوان ناصعة بيضاء يعلوها سقوف و ارفف من القرميد الاحمر .
سرح خيالي لوهلة في الماضي القريب القريب حيث كانت تلك المنطقة التي تسمى بالقسطل و من بعدها اليادودة بيوتا طينية فتبسمت على صوت قادم من اعماقي شاكرا و حامدا على تلك النعم التي يمن الله بها على عباده
سمعت صوت سائق السيارة الذي نبهني من نومي الذي اعتدت عليه اثناء ركوبي سيارات الاجرة و هي العادة السيئة التي تلازمني في اغلب الاحيان .
- لقد وصلنا الدوار السابع .
شكرته و تمنيت له السلامة .
هنا على الدوار السابع اعتدت ان اغير سيارة الاجرة لاستقل سيارة اجرة اخرى , غير سيارات المطار لغاية في نفس يعقوب .. ببساطة اريد زيارة مكتبي الحبيب و التسليم على العم ابو عايش , ذلك الرجل الذي اكن له في
نفسي احتراما وغبطة ليست لاحد مثله , فهو عصامي عزيز النفس و امين
و يؤمن بالله و بقدره اعجب الايمان .
هذا هو مكتب الذكريات , المكان الذي يعود اليه الفضل في تعريفي على بقية عواصم العالم الاسرع حركة و الاكثر انشطة , انه مكان مبارك و له قدسية خاصة في نفسي ..
كانت الساعة تجاوز السادسة مساءا , و صوت المؤذن يعلو من على ماذنة المسجد , طرقت باب المكتب .
يا عمي يا هوو
ابو عايش ..
فتحت الباب و دخلت , كان يتوضأ .. ترك الوضوء و اقبل علي مهللا و مرحبا و لمعة فرح صادق في عينيه .. طوقني بذراعيه و هي لا زالت تقطر الماء , لم ينتظر ان ينشف نفسه من ماء الوضوء , هكذا هو , ينسى نفسه امامي ..
مع انني كنت احذره دائما من تسرعه و اندفاع عواطفه , الا انه كان يضحك مني و كنت اضحك مثله من تلك المواقف .
صلينا المغرب سوية و بعد الصلاة , سالته عن ابنائه و عن زوجته الجديدة التي اضطر الى الزواج منها بعد موت زوجته الاولى و التي تركت له خمسة ابناء ذكور كبار و بنتا وحيدة صغيرة . صوت هاتفه يقطع حديثنا , يعتذر مني و يتكلم ..
هللو ...
من الاشياء المحببة الى نفسي و افتخر فيها , انني الغي كل الاصوات المحيطة بي , و اعيش عالمي بنفسي فلا اعود لا في المكان و لا في الزمان . حتى لا ارى و لا اسمع شيئا مما يدور حولي , و كانني في غيبوبة او في عالم اخر . لكني سريعا ما اعود الى المكان و الزمان عند حدوث توقف مفاجيء لما يدور او اي تغيير اخر .
صدقا لم اسمع اي كلام حولي الا و هو يمسك بكتفي و يبتسم .
اوجز مكالمته لي بكلمة منه
- عندنا ضيوف , تعال معي .
لا شكليات و لا تكليف بيننا فالصداقة التي تجمعنا قديمة و عميقة , ندرك ما في نفسينا .اعتذرت منه , و دعني وذهب .
تنتهي ساعات عمل المكتب في الساعة الخامسة مساءا و يبقى ابو عايش بعد الموظفين ساعة اخرى لتجهيز المكتب و اعداده بعد خروجهم منه , ثم يغلقه . و عمله يكون بعد الثالثة ظهرا , فهو يشرف على بريدي الخاص و حل اية مشكلات طارئة بالتعاون مع مدير المكتب . و يزودني بتقرير عن سيرالعمل في المكتب و اية مشاكل تتطلب حلا سريعا .
انه هو من اسس المكتب و جهزه بيديه و عمل فيه اجمل ايام عمره , و كنت موظفا تحت يديه , الا انه تعرض لازمة مالية عصيبة اجبرته على تركه , وسجن على ذنب لم يرتكبه , فباعه الي باعلى سعر عرضه عليه غيري الا انه فضلني عليهم . وعندما قضى مدة السجن , حاولت ان اعيد اليه مكتبه , لكنه رفض ذلك متعللا باسبابه , و عمل في عدة امكنة الا انه لم يتوفق فيها , و كنت على اتصال دائم به و اعرف ظروفه المالية و النفسية فعرضت عليه ان يعمل معي في نفس المكتب فوافق ان يكون ما هو عليه الان , و كان لزاما علي قبول شروطه .ان يعمل اربع ساعات في اليوم و ان ينظف المكتب الذي احبه .. ما اصعبها من شروط , لكنني لا املك الا القبول , لكني فرضت عليه قبول 40% من دخل المكتب .
بعد ان امتلكت المكتب , عملت على تغيير الموظفين , فلقد كنت اعرف خباياهم و اعرف المجد من غير المجد , من يريد العمل حبا و اخلاصا و من يريد العمل لتمضية يومه و منهم من يعمل امام مسؤوليه و منهم من ينافق رب العمل . خلال اقل من عام لم يبق احد منهم , لم اضغط عليهم و لم اهدد ايا منهم , لكنهم ادركوا انني اريد الموظف الجاد الصادق الامين . لم ارفض استقالة احد منهم , كل من تشغر وظيفته كنت اعلن عن شواغر و كان يتقدم الكثير من الشباب و الفتيات الباحثين عن عمل , طبعت مجموعة من طلبات التوظيف فيها كل البيانات عن المتقدم و حتى ادق التفاصيل بما يؤيدها من وثائق او صور لها . حتى تجمع لدي الاف الطلبات , كنت انضدها و ارتبها حسب الوظائف و على الاحرف الابجدية لاسماء المتقدمين . تراكم العمل كثيرا فقررت ان اعين سكرتيرة للقيام بنفس العمل , و كان ايضا اعلانا عن موظفة تجيد اعمال السكرتارية و الطباعه و حفظ الملفات و الاعمال المكتبية الاخرى .اخترت فتاة من اللواتي تقدمن الى تلك الوظيفه , و وكلتها بالمهمة و دربتها على اعمالها الى ان اتقنتها , كانت تلك الفتاة في الرابعة و العشرين من عمرها تصغرني بعامين . شيء ما كان يدور بين الموظفين , حينما كنت اجلس بجانبها , و ذات مرة , لاحظت انهم زادوا من حدة نظراتهم تجاهنا . في اجتماع صباح اليوم التالي تطرقت الى ما يدور في ظنهم .. بصراحة و وضوح اخبرتهم انني لا اكن لتلك الفتاة باية مشاعر عاطفية و انما هي واحدة منا و اعتبرها فقط موظفة كاي واحد منهم . لكنني اميزها في التعامل لانها الانثى الوحيدة فيما بيننا . لم اكن انظر اليها و انا اتحدث , لكنني عندما نظرت اليها وجدت شيئا غريبا على وجهها , فقد تغيرت ملامحه , و انقلب الى الاصفرار و عيناها ترمشان باسرع من المعتاد . و رجفة مع اهتزاز في شفتيها .. امعنت فيها النظر , لعلها تتكلم بشيء . و طلبت منها الكلام , و لم تنبس بكلمة . ظننت انها متلعثمة او تستجمع كلماتها , لكن صمتها طال .. حثثتها و شجعتها على الكلام . لكنها تمتمت بكلمات هي اقرب الى الهمس من الكلام و قامت من غير استئذان , الا من اشارة من يدها اليمنى و بحركة من اصابع يديها .
كان الموقف لا يحتاج الى تفسيرات عديدة , ادركتها كما ادركها بقية الموظفين . اعتذرت لهم بالنيابة عنها , و كنت صريحا معهم حينما اخبرتهم , ان ينصحوها و يقنعوها بتقديم استقالتها .
لم يمض على عملها في المكتب الا عشرة ايام , صرفت لها راتب شهر و اكرامية . مع شهادة من المكتب بحسن اخلاقها و حسن تعاملها , اعترافا مني برد الجميل على ذلك الحب الذي لا استحقه منها .
تاكد الموظفون انني لست من الذين تتلاعب به العواطف , من خلال مواقف عديدة مماثلة . فكانوا يثقون بحسن تصرفي مع اي فتاة تاتي الى المكتب ..
في اعماق كل منا طفل يتحرق شوقا الى الابتهاج باللعب و المرح و التسلية , الا انني كنت امنع نفسي من ذلك اثناء العمل , و احرمه على الموظفين ايضا . لكني استبدلته بالدماثة و العلاقات الانسانية و الاجتماعية و التعاطف الشديد فيما بيننا , فكنا اخوة في العمل و خارج العمل , تربطنا صداقات حميمة . نعمل من اجل العمل . و لم ابخل عليهم مطلقا , فكنت في نهاية كل عام اوزع عليهم عشر الارباح السنوية و لا احرمهم من زياداتهم التي يستحقونها كل حسب انجازاته و مواظبته و ادائه . لا افرق بين احد منهم , و كانوا هم يدركون ذلك جيدا . فلم خمس سنوات , الا و كنا فريق واحد , لا يعرف احد من المتعاملين معنا اينا المدير و اينا الموظف .
من خلال تجاربنا و حسن تعاملنا توسعت انشطتنا و كثرت ارباحنا , فكان بامكاني افتتاح فروع اخرى تخدم نشاط مكتبنا في مدن اخرى .و تم الاتفاق على ذلك في الاجتماع السنوي . على ان نباشر به خلال النصف الثاني من العام القادم . الا ان ذلك لم يتحقق .
حين تقودك الاقدار الى اي بقعة من بقاع الارض .. اقليم او دولة من الدول , شمال الكرة الارضية او جنوبها .. لن تتفاجا اذا رايت ان لكل دولة او منطقة علم و نشيد وطني و لغة غير لغتك , حتى و لو كنت ممن يتقنون عدة لغات غير لغتك الام . فهم لهم لكنات و لهجات و مصطلحات متداولة . لن تتفاجا ايضا اذا رايت ازياءا محلية
باشكال و الوان مميزة . تقودك خطاك الى عنوان معين , منزلا, فندقا او شارعا كمقرلبعض الوقت , طال او قصر .. تتحسس من حولك الخدمات و التجهيزات و سبل راحتك . من طعام و فراش و ملابس . تشعر بالغربة و الوحدة و بشيء من التيه .الا انك جئت و وصلت الى هنا و تقرر انه لا بد من التضحية . و قبول الجديد بما فيه من اختلافات عما اعتدت عليه في مكان تواجدك السابق . الفضول و الحاجة يدفعان بك الى الاتصال بالمجتمع الجديد , بكل فئاته .للوهلة الاولى , تظن انك الغريب الوحيد
بينهم . فهم الاسرع اتصالا و الاكثر تفهما فيما بينهم , فهم لا يبذلون الجهد الذي تتحمله و تعانيه . و هم لا يعرفون من انت .. شيئا فشيئا تتلاشى الاشياء والاختلافات بين ما كنت معتادا عليه في محيطك السابق و البيئة الجديدة بكل ما فيهما من تنوعات و تتعود او تتكيف نفسيا و عقليا لقبول الحياة الجديدة بما فيها من تناقض .

 

 


 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات