المسألة الشيعية..
كلما كانت المخاطر قاتلة كانت أقل ظهورا للعيان ..
سجل مطلع القرن الهجري الحالي بالنسبة للمجتمع الإحسائي ، الانتقال من مرحلة تاريخية مولية ، وبداية مرحلة مقبلة ، تتداخل نهاية المرحلة السابقة ببداية المرحلة اللاحقة. مطبوعة في الغالب الأعم، بطبائع العقلية الصارمة إلى حدود الجفاف. فزخم تلك التحولات الاجتماعية ، أدى إلى توتر العلاقة بين السنة والشيعة، وتقهقر في حركة التعايش المتوارثة بينهما، وظهور وقائع تناقض الوضع السائد دون القدرة على التعايش معه. سوف أكرر مرارا وتكرارا، بأن موضوعي هنا سوف يتناول الحاضر وليس الماضي ، وبشكل أساس علاقة السني بالشيعي على المستوى الاجتماعي. أي قبول واحترام الطرف الآخر كما هو , ليس قولا بل عملا وهو الأهم والأصعب. أيضا يلح علينا المقام هنا , استبعاد فكرة التقريب بين المذهبين لعدم جدواها والتركيز على ممارسة التعايش عوضا عنها. مع ذلك فأنا أعترف أن القارئ لن يقتنع بكل ما أقوله، ربما بسبب المبالغة في تضخيم أشياء وإهمال أخرى.
لكنني لا أدعي بأن ما سأكتبه هو بحث علمي أو أكاديمي ، بل هو مجرد أفكار لا ترفض أنصاف الحقائق إذا كانت تساعد على توليد أفكار جديدة. كما أن الطائفية آلة معقدة لا يمكن تفكيكها بسهولة، ولكن هذا يجب ان لا يمنعنا من المراقبة ومحاولة الفهم والافتراض والمناقشة ، واقتراح هذا المنحنى التحليلي أو ذاك.
أيضا حرصت على أن أبقى بعيدا كل البعد، عن الحديث عن الماضي بكل أبعاده السياسية والدينية نقلا أو عقلا. بل إنني شديد الحذر من كل حافز أو منبه للعودة إلى رصد ومتابعة بداية الهوه التي نشأت بين الطائفتين، لكونها تعتمد على معايير معرفية صارت ملزمة لكل طائفة، ولا تتحرك إلا في إطار أحكام موروثة ، ساهمت على الدوام في تأجيج الخلاف، كلما وجدته نائماً في دهاليز النسيان،من خلال استرجاع رموز ومواقف تاريخية طارئة باتت اليوم تشكل عقليتنا ! وكأن الجزأ المتبقي لنا في الحياة متوقف عليها؟ لذا فلا يمكن لنا أن نخرج من هذا الانغلاق الطائفي ونتقدم، بينما مازلنا لا نكف عن استرجاع رواسب تاريخية تصطدم بواقعنا من حين إلى اّخر.
فنحن أبناء هذا العصر وعلينا أن نرمي بثقلنا وبإلحاح على الحاضر الذي جبلنا على احتقاره باستمرار، لصالح المبالغة بشأن خلافات الماضي ، التي يفترض أنّ الزمن قد تجاوزها. بالطبع هذا لا يعني التخلي عن الماضي فهذا أمر غير مقبول فضلا ًعن كونه مستحيل ، لكن الهوس بالماضي وحروبه الكلامية، قد يسلب الحاضر حقيقته. فالأشياء الواقعية والعملية والممكنة هي جزء من الحاضر، أي إن الحاضر وليد شرعي للماضي ينمو ويتطور بإستمرار ليصبح مستقبل واعد .
إن التعويل على الصمت الدائم وعلى محاولة الضبط النفسي والاجتماعي تجاه هذه القضية ، عوضا عن التفكير وبجدية في ممارسة التعايش، هو عمل منجرف وراء أمل خاطئ . فالزمن قد يسهم في تضميد الجراح، لكن من المؤكد أن ترحيل المشاكل إلى الأمام هو في الحقيقة تجميع لها لكي تدق أعناقنا فيما بعد. لذا ينبغي أن نشير هنا وبإصرار، بأن التعايش لم يعد خيارا بل هو ضرورة قصوى. أي يجب علينا ( سنة وشيعة ) أن نتعلم كيف نقوم بتصنيف الأفكار، ليس وفقا لصحتها، بل وفقا لتبعاتها و لدرجة الأذى الذي ممكن أن تجره تلك الأفكار علينا . فانتقاد نمط معين خارج قواعد الأدب الاجتماعي ، عن طريق وصم الاّخرين بألقاب استفزازية ، هو نوع من العته الذي يجلب الشرور، فالّرّافضة والنّاصبة مصطلحات متحجرة وأيضا لها مدلولات قاتلة ، مع أن كلتا العبارتين ليس لهما أصل لا في المذهب السني ولا الشيعي ! أي أن مصدرهما أتباع هذا المذهب أو ذاك. فلو استدركنا قليلا لوجدنا أننا غالبا ما نهول من تأثير المذاهب على سلوكياتنا بينما نهمل تأثير الناس أنفسهم على المذاهب ! وهنا الأمر ربما يستدعي نقطة نظام : ماهي الدوافع الحقيقية التي تغذي هذا التضاد المذهبي العنيف ؟ فلو افترضنا جدلاً أنّ الدافع الحقيقي من وراء هذا التناحر هو الغيرة على عقيدة ومباديء المذهب وليس هوية الطائفة ! فلماذا إذن تختفي معالم هذه الغيرة لدى أتباع تلك المذاهب خصوصا عندما يتعلق الأمر بالصدق والنزاهة، والموقف من الفساد المادي والأخلاقي المنتشر هذه الأيام بين الطائفتين؟ وكيف نفسر التعصب المذهبي لدى أشخاص من الطائفتين التديّن بالنسبة لهم ليس من ضمن هموم الدنيا فضلا عن الآخرة ؟ لي قريب متفتح له أصدقاء سنة وشيعة يحضرون مجلسه ، فوجئ ذات يوم عندما دعا أحد أولئك لحضور مجلسه ، فرد عليه قائلا : كيف أحضر مجلسك وهؤلاء الشيعة يرتادونه ! وأنا لا يسعني إلا أن أشعر بالانزعاج الشديد عندما أستعرض تلك المواقف، وأيضا بالتشكيك في صحة الداوافع الحقيقية للتعصب المذهبي .
إن حالة عدم التوافق لا تتعلق بنوعية المذهب الذي نبشر به بل بالكراهية غير المنطقية التي نود تعميمها ، حتى أن البعض يشفق على فقراء الطائفة الأخرى وفي نفس الوقت يكرههم . عندما قدمت إلى الرياض قبل ست سنوات، تعرف أبني تميم على أصدقاء . وعندما قال لهم أنه من الإحساء توجسوا منه ريبة ! فلما عرفوا أنه ليس شيعيا تنفسوا الصعداء. حين سألهم : ما ذا تعرفون عن الشيعة ؟ قالوا : لا شيء سوى أننا لا نحبهم ! هؤلاء الشباب يلبسون جينز وتي شيرت ويستمعون إلى مايكل جاكسون وإم إن إم وجيمس براون ويتفنون في قصات الشعر مثل قصة الديك وفيرساتشي، ويجهلون كل شيء عن الشيعة ومع ذلك لم تسلم نفوسهم من الكراهيه العمياء !
الطائفة أم المجتمع ..؟
من ناحية أخرى أجد نفسي مضطرا إلى أن أجازف بطرح هذا التساؤل ، هل الأولوية بالنسبة لنا لصالح الطائفة أم المجتمع ؟ سؤال افتراضي يجبرنا على البت في الاختيار بين جوابين، أحدهما يعني الإصلاح والآخر الهدم ! وهذا لا يعني تجاوز الانتماء المذهبي وإن كنت أميل إليه ! فلدي قناعة شخصية بالإسلام في بعده الإنساني لا المذهبي، و بضرورة الفصل بين المذهبية والانتماء، فالمؤمن له الحق في التمسك بمعتقداته من دون الحاجة إلى الذوبان في جمهرة الطائفة . فالفرد الذي بداخله بذور شخصية مستقلة هو القادر على النظر إلى العالم بعقلانية وبلا انفعال أو غضب، فيسيء الظن في الآخرين احياننا أو يكتفي بردود الفعل الطائشة احيان اخرى.
فثمة فرق هائل بين أن تُلحق نفسك بطائفتك وتترعرع داخل سياج عقائدي مغلق ومنعزل فكريا وثقافيا، وبالتالي تغرق في هيمنتها، أو أن تبقى منتميا لها وتتحرك من خلالها بذهنية متفتحة وفي نفس الوقت متحررا من التبعية المطلقة لها . بيد أن الانتماء الطائفي بالتحديد هو مجرد عنصر واحد من عدة عناصر، يساهم في تشكيل هويتنا ، تقلبهما الظروف المحيطة، أيهم يبرز وأيهم يختفي ؟ فعندما يستثار أي من تلك العناصر يثور الإنسان بكامل مكوناته في مواجه مصدر الخطر.
ففي فترة الخمسينيات من القرن الماضي ، عندما لم يكن الجدل المذهبي يتربع في قلب الأحداث كما هو الحال اليوم، كان الاتنماء إلى التيارات القومية واليسارية هو السائد آنذاك، جاءت ردة فعل الحركة العمالية تجاه ارامكو من قبل العمال السنة والشيعة على حد سواء مطالبة بتحسين المعيشة، حيث تراجع حينها البعد الطائفي إلى حد كبير لحساب المصالح المشتركة للجميع. لذا ليس من الاستحالة أن يجد الفرد الشيعي قواسم مشتركه مع آخر سني، بحيث تتقاطع المصالح بينهما . ربما لم تسمح له الظروف أن يجدها في أبناء جلدته من الشيعة ، وقد يحدث نفس الشيء لو كان سنيا. فالفروقات الهائلة التي نراها بيننا اليوم، لم تكن شيء ذات أهمية في ما مضى. كما أن ما نفكر فيه اليوم لن يكون نفس الشيء بعد عشرين عاما أو أكثر، فلو تبدلت الصورة الحالية باتجاه الإسلام في بعده الإنساني، وتضاءل التأثير المذهبي على حياتنا، فصار عاملا محفزا على العدل والمساواة ، لا على التقوقع والتعصب ، فمن المؤكد أن جميع خلافاتنا سوف ندفنها في مقابر التاريخ، كما فعلت معظم الشعوب المتقدمة.
الشيعة فوبيا ..
لا بد من التنويه هنا، على أن الغالبية العظمى من السنة ، يصنفون جميع الشيعة بكافة اختلافاتهم في خانة واحدة ! ثم يصدرون عليهم الأحكام المسبقة، والتي تسيء إلى الأغلبية المعتدلة، وتستغلها الأقلية المتعصبة . أي كمن يقول أن جميع السنة لا يختلفون عن القاعدة ! فهناك إن صح التعبير " الشيعة فوبيا" دأب البعض على التسليم بها، من خلال مجالسهم التي أشبه ما تكون "بمحافل ماسونية" عذراً مع فارق التشبيه! يتحدثون فيها عن خطر شيعي واقع لا محالة ! فيروجون خطابا مرجفا يبلسم جراح الناس، ويحملهم على سرعة التصديق، بتكهنات تنبأ عن وقوع أخطار مستقبلية، اعتادوا على ترديدها منذ أربعة عقود، ولم يحدث منها شيء ! قد أكون قد وقعت في فخ الاستنتاج المبكر ؟ ولكن من السهل على المرء التنبؤ بالخطر ولن يلومه أحد إن لم يحدث! بينما لو حدث سوف يعده إنجازا يتباهى به عند الآخرين. في المقابل فقد جاء الخطر الحقيقي من جهة محسوبة على السنة ! الأمر الذي سفه بجميع تلك التكهنات.
المشهد الشيعي ..
دعونا الآن نعود إلى المشهد الشيعي ، الذي يتميز بالتعددية والتنوع من حيث المرجعية الفقهية وأيضا في التوجهات الفكرية والسياسية . هناك التيار الإصلاحي واليساري وأيضا المتطرف. أي أن الواقع السني كما هو الواقع الشيعي من حيث التعددية ، كما أن الوسط الشيعي لديه ذات الرؤى والآمال الوطنية التي تحرك الإصلاحيين في الوسط السني. فعلى الرغم من أن الشيعة في الآونة الأخيرة وجدوا أنفسهم في دائرة الاتهام، لأسباب من أهمها التطاول على الرموز والتقيه والولاء لإيران. حيث لم تفلح الأغلبية الشيعية في إقناع السنة بأن شتم الرموز التاريخية هي تهمة محصورة في أقلية متعصبة من أبناء جلدتهم، من منطلق أنه لا يوجد مذهب معصوم من التعصب . على الطرف الآخر يحاول السنة إثبات أن حبهم لآل البيت لا يقل عن حب الشيعة لهم على الرغم من أن كتبهم لا تسهب في الحديث عنهم.
لكن المضحك والمحزن معا، أن أتباع الطائفتين نفر من الأحياء منشغلين بالتناحر حول أموات! فلو كان من اختلفوا حولهم على قيد الحياة لما جرى بينهم خلاف بهذه الحدة التي نحن عليها اليوم ! ومن المؤكد أنهم سوف ينبذوننا جميعا سنة وشيعة ، والسبب أن الاختلافات التي بيننا تقتصر على مكانة أشخاص، وليست حول المبادئ السامية التي كانوا يبشرون بها، بل تركنا مبادئهم وراء ظهورنا.
أما التقية فأنا لا أدري أصلا ما الحكمة من وراء التحري عن ما في قلوب الناس؟ فالإنسان لم يبتكر مكيدة أبشع من مكيدة الحكم على النوايا لا على الأفعال. مع العلم أننا جميعا سنة وشيعة نمارس التقية إلا من رحم ربك ! نمارسها مع الرئيس في العمل، والحاكم والصديق ، وفي أسفارنا مع الأجانب، وما إلى ذلك من شتى أنواع النفاق الاجتماعي .
إلا أنني أزعم ومن خلال مشاهداتي المتأنية ، بأن الشيعة وعلى وجه الخصوص في الإحساء، أكثر استعدادا للانفتاح والتواصل، من خلال حضورهم وحرصهم على أداء الواجبات الاجتماعية تجاه السنة ، بينما تخيم على المجتمع السني حالة من الحذر وردود فعل تدل على صراع داخلي ونقص في الثقة . صحيح أن التيار الإصلاحي الشيعي الذي يتزعمه الشيخ حسن الصفار، قد لجأ إلى إيران في فترة كان التيار فيها يتأرجح بين التهميش الداخلي والاستغلال الخارجي، إلا أنه اتخذ موقفا وطنيا مشرفا عندما طُلب منه اتخاذ موقفا محددا مع أو ضد الوطن ؟ وهذا ينفي الإدعاء الشائع بأن عقول الشيعة مفتوحة على الدوام أمام التأثير الخارجي. لذا فالمصلحة الوطنية تملي على السنة الوقوف مع هذا التيار ومد جسور التعاون معه. في المقابل فالسنة تستفزهم التقاليد المتبعة في المناسبات، من هتافات تأنيب الضمير والمطالبة بالثأر التي يعبر عنها الشيعة في مسيرات عاشوراء وغيرها، يستقبلها السنة كنوع من الكراهية الموجه ضدهم. وأنا أرى أن في ذلك نوع من المنطق، وعلى المعتدلين من الشيعة إعادة النظر في مضمون تلك الصيحات العدائية التي تلهب الجماهير، والعمل بجدية على درأ مخاوف السنة. وأنا أعلم جيدا أن بعض الحكماء من الشيعة ينادون بإعادة النظر في تلك التقاليد وفي طريقة التعاطي مع هذه المسيرات، لإخضاعها للتكييف ولإعادتها للتوازن العقلاني و تهذيبها من النفس الطائفي.
فليس من باب التجني على الحقيقة، لو قلنا أن المذهب الشيعي متطور إلى حد ملحوظ في النواحي التنظيمية المتعلقة بالعمل الجماعي بحكم طبيعة المذهب، فتنظيم تلك المسيرات ما هو إلا دليلا حيويا على ذلك، فلو شاع التوافق في المجتمع، لأمكن توظيف هذا الموروث الثقافي في الأعمال الخيرية، وعند حدوث الكوارث وفي العمل الجماعي الذي يعود على المجتمع والوطن بالخير. أما الفرد فقد يتخلى أحيانا عن ذاته و خصائصه وأرائه الفردية بالذوبان في حركة الجماهير، خصوصا عندما يشعر باليأس والإحباط والتفرقة، وأيضا الحرمان من اختراق دوائر النجاح المغلقة من قبل الأغلبية. كما أن على السني والشيعي أيضا أن يعي جيدا، بأنه إذا أظهر لأحد العداء والجفاء، سواء كان ذلك مبرر أم لا، فسوف يحمله على التشنج . بينما لو أعرب له عن الصداقة والتعاطف والاحترام، ليس في الظاهر فحسب، بل من خلال موقف صادق يُعبر عنه في السر والعلن،عندها سوف تتراجع وتيرة الاستفزاز،لأن المرء عندما يجد أن معتقداته مستهدفة تجده يبالغ إلى حد كبير في استعراض الطقوس والعلامات الفارقة، وعندما يشعر بالتعاطف والاحترام تختلف ردة الفعل لديه.
لقد عشت أكثر من ست سنوات في بريطانيا وجاري الإنجليزي الملحد الذي كان يتعاطف مع أكثر الأحزاب تعصبا ضد الأجانب في بريطانيا BNP - الحزب القومي البريطاني - الذي يُفترض أن نكون نحن المستهدفون من قبله! إلا أن ذلك الجار لم يخل يوما من الأيام بقواعد الأدب والتعامل الإنساني، على الرغم من اختلافه معي في كل شيء! فلو تصرف بشكل مغاير، فلن تكون ردة فعلي سوى التشنج ومحاولة استفزازه، عن طريق استعراض هويتي الوطنية والدينية، وبالتالي يتأزم الموقف، وينتهي بخسارة فادحة لي وله. وأنا لا أدري ! ما بال السنة والشيعة لا يأخذون العبرة من عجوز بريطاني؟!
الفضائيات ..
أعلم بأننا جميعا لسنا محصنين من ما يقذف به المتشددون تجاهنا من منغصات ومصطلحات، بها الكثير من اللبس والجهل المتراكم، تطل برأسها علينا بين الحين والآخر، بحيث تصعد المواقف وتجعل الأمور تجرنا إلى أماكن لا يمكن فيها تدبر أي شيء. مصدرها حوارات فضائية من ناحية، وفتاوى وآراء منفرة تصدر من هنا وهناك، تعاني من عجز في العقلانية وفائض في الأفكار الخطيرة والغير فعالة. فالوضع الراهن يتطلب منا قدر عالي من الهيمنة على ردود أفعالنا، والتأقلم مع كل الرياح للوصول لما نصبو إليه، لذا لا يتوجب علينا دق نواقيس الخطر كلما واجهنا أي من هذه الصعوبات أو المنغصات، أو استغلال لحظات التأزم من أجل إعادة التأكيد على صحة آرائنا عن طريق المواجهات الغير محسوبة . بل ينبغي أن نقبل هذه التحديات الجديدة بصدر رحب وعقل نير، وثقة في النفس وجرأة في العمل. فمن الضرورة بمكان في هذا السياق، أن نلجأ إلى التأكيد على أن الاختلاف والتعدد هما الأصل في الحياة، وبدونهما يصبح التطور بعيد المنال. أما السكون والاتفاق فهما أمران طارئان يقودان المجتمع إلى الجمود. وإن ما يميز الشعوب الواعية هو قدرتها على الخروج من الأزمات لتتقدم ثم تصدم بعائق آخر لتستمر...
إن العديد من الحوارات الفضائية، التي تتغذى على الدلائل التاريخية والنصوص القديمة، بمزاج غاضب وجدلي، تحت تأثير الانحياز الطائفي، ونيل إعجاب مشاهد هو أصلا متفق معهم في الرأي، هي بالتأكيد لا تخلو من المصالح ومن المنافسة ذات الطابع الشخصي . تلك الحوارات قد استقطبت بشكل عبثي عددا كبيرا ممن راهنوا على منهج الحوار عن طريق دحر الطرف المقابل، تحت ستار تصفية خلافات الماضي. على أمل أن الراية البيضاء سوف ترفرف عالية معلنة اندحار الطرف الآخر! على اعتبار أن هذا الأسلوب له فعالية أكبر وأسرع في الخروج من المأزق الاجتماعي، مقارنة بالمنهج العقلاني الدؤوب والمتسامح ! إلا أن تلك اللعبة وأيا كانت نهايتها، سوف ترجع في نهاية المطاف إلى إعمال العقل. ولكن للأسف، إما بعد فوات الاوان أو على الأقل تكبد خسائر فادحة، كما يحدث دائما في بؤر النزاع الطائفي. كما حدث ولا يزال يحدث بين الطوائف في لبنان. فأعداء الأمس قد أصبحوا حلفاء اليوم. ولربما يحدث العكس عما قريب ويظل المجتمع هو الخاسر الوحيد.
تلك البرامج الفضائية والمناظرات تذكرني أيضا بالشيخ أحمد ديدات الذي كان يناظر المسيحيين على أمل أن يهديهم إلى الإسلام عن طريق إثبات أن هذا الإنجيل الذي بين أيديهم ليس كلام الله! أي ببساطة إزاحة المسيحية من الوجود ليحل محلها الإسلام ! ابتهج المسلمون حينها وأنا كنت واحدا من هؤلاء .. لكن المسيحيون المراد تحويلهم إلى الإسلام، استقبلوه كعمل عدائي واستفزازي، وبالتالي أدى إلى ردة فعل سلبيه تجاه المسلمين . الأمر الذي جعل نتائج تلك المناظرات مخيبة للآمال بالنسبة للطرفين! فالعقيدة التي يسهل مهاجمة شرعيتها، تجد اصحابها أكثر حرصا على التمسك والتبشير بها. والتاريخ تعيده تلك الحوارات الفضائية اليوم، بالطبع مع فارق التشبيه.
فعندما يرد الشيخ العرور على الشيخ الكوراني أو العكس، في قناة صفا وعلى الهواء مباشرة ، تجد كل منهما قد بدأ بمقدمة ظاهرها التسامح والعقلانية، لكن سرعان ما يبدأ الواحد منهم ، في التشدد والتعصب لأفكاره، ولا هم له إلا انتزاع الاعتراف والتقاط مثالب الآخر للتشهير به على الملأ ، كل طرف ينسب لخصمه المكابرة والعناد والمغالطة، بحيث لا يستطيع أي من الطرفين التخلص من الضغوط التي يفرضها عليه الطرف الآخر. فالإنسان بطبيعته لا يعجز عن إيجاد جواب يتحجج به في سبيل ثبات صحة أفكاره، بل أن الناس أحيانا يقاومون الحقيقة بالحقيقة بقدر ما يقاومون الحقيقة بالكذب والبهتان! بعبارة أخرى، منطق هؤلاء يصلح للدفاع والهجوم فقط ، ولا يقدم حلا لقبول الآخر والتعايش معه. أما المنطق العقلاني فيصف هذا النوع من الحوارات بالخرافة والثرثرة، التي لا تُفيدنا في حياتنا اليومية ولا تزيد مستقبلنا إلا غموضا. فلقد دلت التجارب عبر التاريخ، أن الجدل المذهبي السني الشيعي،عبث ضائع لا طائل من وراءه، ربما يُفحم أحدهم الآخر لكنه لا يُقنعه . فالمرء لا يرى الحقيقة إلا من خلال مصلحته وبيئته التي نشأ فيها. أما إذا حصل أن أحدا قد بدل رأيه فهذا استثناء صارخ. بسبب أن مجتمعاتنا لم تعتنق تلك المذاهب كنتيجة رحلة في البحث عن الحقيقة ! بل هي مستمدة من البيئة التي نشأوا فيها، ثم تحولت إلى قناعات لدى الأغلبية بفعل السنين. فلو تخيلنا أن طفلاً رضيعاً نُقل من محيطه السني من بلد مثل الدرعية ونشأ في بيئة شيعية في بلد مثل القطيف، فلربما تجده اليوم في أحد الفضائيات يشن هجوما على السنة ، الذي يفترض أن يكونوا أهله ! وسوف يحدث نفس الشيء لو كان الطفل شيعيا.
الكتب الصفراء ..
ومما يثير الدهشة والاستغراب، أن تلك الفضائيات تقوم وعلى الهواء مباشرة، باستعراض وتقليب صفحات الكتب الصفراء، والتدقيق فيها كمن يدقق في عمله ! ليس لفهم الماضي لصالح الحاضر، بل من أجل البحث عن نص يدين الآخر ! يزعمون بعملهم هذا، أن إعادة النظر في النصوص أو تأويل الوقائع التاريخية بالطريقة التي تتلائم مع أفكارهم، سوف يؤدي إلى النتيجة التي يتمنونها بغض النظر عن تبعاتها الفادحة. بينما في حقيقة الأمر، النص لا يتغير بل نظرتنا هي التي تتغير. علما بأن تلك النصوص والروايات، ليست وليدة اليوم أو الأمس! بل قد مضى عليها مئات من السنين، و ما هو قابع بين دفتي تلك الكتب، هو نفسه لم يتغير! ولعمري ما الذي استجد اليوم لتصبح مثار جدل وخصام؟! لذلك ينبغي أن نكون حذرين عندما نتناول الماضي، وأن أي محاولة لتجميله ليست سوى محاولة لتشويهه.
العمل أولا ثم الكلام ..
هذا المشهد المعقد المحبط والواعد في الوقت نفسه ، قد أبعدنا إلى حد كبير عن أفق التفاؤل ، الذي تم حجبه بفعل تضاد طائفي لم ينجح العقل ولا الدين في تجاوزه منذ قرون عديدة . وهكذا تحول المجتمع إلى فريسة الجدل والإقصاء المتبادل. يعتقد البعض بأن الحل يكمن في الدعوة إلى التسامح من خلال المنتديات والحوارات والكتابات المتخصصة، ولكن هذا الرأي النبيل، يهمل الجانب الأهم الذي لم يقع التفكير فيه، ألا وهو البدء والشروع بخطوات عملية تجاه ممارسة التعايش كحقيقة وواقع ملموس، من خلال رصد الحالات الايجابية، بغرض تشجيعها وتوسيع نطاقها أكثر فأكثر. لذا لا بد من مواجهة أنفسنا أولا، بوجود حقيقة في دواخلنا، مفادها أننا نحبذ التعايش بألسنتا وننفر منه بأعمالنا. فالعناية بجوهر العقيدة وحده لا يكفي، بل يجب على من يدينون بها المحافظة على سلوكياتها أيضا. ولكن من جهة أخرى، ثمة آفاق واسعة خارج هذا النطاق الضيق الجدلي العقيم من الممكن للسنة والشيعة التحاور فيه ، وبمنأى عن الانشقاق الأيديولوجي المترسخ في الذاكرة . هناك مجالات حيوية لا تنهض المجتمعات ما لم يكن بينها تفاعل مشترك لسد الفراغات المنتشرة فيها ، كالبيئة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية بما في ذلك الفن والأدب والرياضة.
الجوال الوسيلة الغائبة..!
قد يأخذك العجب كأحد أبناء هذا المجتمع السعودي أو الإحسائي على وجه الخصوص، سواء كنت سنيا أم شيعيا ، أن تكتشف بأن جوالك يحتوي على مئات من الأرقام ليس من بينها واحد من غير طائفتك ! هذا ربما يكون كافيا لتقف بنفسك على حجم الانقسام والعزلة بين الطائفتين. قد يرى البعض أن من السذاجة استخدام الجوال كمثال للتدليل على هذه القضية الشائكة، ولكنه أصبح اليوم الوسيلة الأقوى للتعبير عن التواصل، على اعتبار أن التواصل هو أحد الركائز الأساسية لتحقيق التعايش، كما أنه أيضا يجسد الحل الذي ننوي نحن هنا التركيز عليه.
على صهوات الخيل..
هنالك مجموعة في الإحساء سنة وشيعة، شباب متفتح يمتلك قدرا ملحوظا من اللياقة العقلية والنفسية ، أيضا يتمتعون بدرجة عالية من الزهد الفكري والتواضع والثقة بالنفس. شاءت الأقدار أن تجمعهم هواية ركوب الخيل. هذه الهواية كسرت الحاجز النفسي وصنعت ما عجز عنه الكتّاب والمحاضرون. علما بأنها مجرد هواية واحدة وقد لعبت دورا فعالا في هذه المسألة، ناهيك عن العديد من الهوايات الأخرى التي من الممكن أن تلعب الدور نفسه. لقد أفلح النادي الأدبي في الإحساء في خلق روح التفاعل بين السنة والشيعه، في المقابل قد أخفقت الأندية الرياضية عن تحقيق أي شيء يذكر، مع أن شعارهم الذي يرفعونه هو رياضي ثقافي اجتماعي ! بينما هناك نادي لسنة وآخر لشيعة ! يا ترى من يعلق الجرس؟
التعليقات (0)