إن الحديث عن المسألة الزراعية بالمغرب يجرنا بإلحاح إلى الحديث عن مكونات البنيات الزراعية ومشاكلها ومعوقات تطورها.
فمن المعلوم أن بلادنا لا تزال بلدا فلاحيا بامتياز إلا أن الفلاحة به تحولت منذ عهد الحماية إلى زراعة تنتج بالأساس من أجل سد حاجيات الأسواق الخارجية وخاصة سوق الدولة المستعمرة آنذاك: فرنسا عوض إدخال حاجيات السوق الداخلية في اهتمامها. وبعد الاستقلال ظلت أحسن الأراضي وأخصبها في يد المعمرين، ظلوا يتحكمون في أخصب الأراضي وأكثرها إنتاجية علما أنهم كانوا قد استحوذوا عليها في فترة الحماية بعد سلبها من أصحابها الأصليين، وبذلك كان من المنتظر أن تعود هذه الأراضي إلى أصحابها الأصليين بعد أن كافحوا وضحوا بالغالي والنفيس من أجل طرد المستعمر وتخليص البلاد من براثين الذل والاحتلال، إلا أنه وبجرة قلم أصبحت تلك الأراضي الخصبة بيد زمرة قليلة لا كاد تبين، وبعضها منحت لمؤسسات شبه عمومية أقيمت لهذا الغرض بالذات تتحكم فيها تلك الزمرة القليلة. وتجدر الإشارة إلى أنه منذ استقلال في عام 1956 وحتى فجر ستينات القرن الماضي، كان عدد من المعمرين الذين اضطروا لمغادرة المغرب لأسباب سياسية يفوتون أراضيهم للخواص لبعض الأعيان والمحظوظين بثمن بخس بمباركة وتواطؤ الإدارة المغربية لاسيما مديرية الأملاك المخزنية المسؤولة عن تدبير وتسيير أراضي الدولة بالمغرب.
ورغم إصدار قانون يمنع تفويت تلك الأراضي إلا بالحصول على رخصة خاصة من دوائر عليا بالبلاد فإن ذلك لم يمنع البعض من الزمرة من الحصول على تلك الرخصة بطريقة أو بأخرى بتفعيل الوساطة والمحسوبية والرشوة، إذن كل تلك الأراضي والتي هي أخصب الأراضي الزراعية بالمغرب، كان المعمرون الفرنسيون والإسبان قد سلبوها بقوة الحديد والنار من مالكيها الأصليين سواء كانوا أفراد وجماعات. وبعد الاستقلال استرجعتها الدولة المغربية وفوتتها لزمرة من المحظوظين دون مقابل يذكر، وهي قلة لا تكاد تبين وسط عرمرم الفلاحين الذين لا أرض لهم كما أن القائمين على أمور الشركات الفلاحية العمومية وشبه العمومية والمتصرفين فيها عتوا فيها فسادا إلى أن أوصلوها إلى مشارف الجرف الهاري وأسقطوها في الهاوية بعد أن أنفقت عليها الدولة من مال الشعب الملايين من الدولارات، هذه الملايين كانت في واقع الأمر تقتطع من جوع الفئات الواسعة من الشعب المغربي ومن قوتهم اليومي، كانت توظف توظيفا لخدمة وتنمية المصالح الخاصة والفئوية الضيقة على حساب الصالح العام وضد مصلحة الأجيال القادمة.
وحتى تلك الأراضي التي كانت تشرف عليها الشركات بعد أن صرفت عليها أموال الشعب تم تفويتها بأثمنة رمزية بواسطة الخوصصة لكمشة من المحظوظين وكلهم بدون استثناء في غير حاجة لها، في حين يحتضن فيه المغرب فئات واسعة من الفلاحين الفقراء ذوي العائلات المتعددة الأفراد لا يملكون أرضا يحرثونها ويرتبطون بها، ومن ضمنهم ذوي الحقوق المشروعة في تلك الأراضي ما دام آباءهم وأجدادهم أصحاب الأراضي الأصليين قبل الاستحواذ عليها من طرف المستعمر.
وما دام الأمر كذلك فإنهم يرون فيهم أناسا استولوا على أراضي أجدادهم أهديت لهم بجرة قلم أو بأوامر وتعليمات وهكذا ذهب الاستعمار وظلت أراضيهم مغتصبة على مرأى أعينهم لا يستفيد منها ذوي الحق الشرعي الأكيد فيها. وهذا في وقت كثر فيه اللغط عن التنمية الاقتصادية والاجتماعية للعالم القروي بالمغرب واعتبار البادية من أولوية الأولويات، علما أن هذه التنمية مرتبطة بالأرض ومن يحرثها، وتنمية العالم القروي لها سبيل واحد لا ثاني له وهو ربط الفلاح بالأرض التي يحرثها ورغم هذا فإن أغلب الأحزاب السياسية أصبحت لا تلي هذه الإشكالية الأهمية التي تستحقها إذ لم تعد فعلا تطالب باعتماد مبدأ الإنصاف بإرجاع الأرض لذويها الحقيقيين.
ويزداد الطين بلة إذ علمنا أن المعمرين الذين استولوا على تلك الأراضي بالقوة والسلاح استفادوا من تعويضات مالية مهمة سلمتها لهم الدولة المغربية أما أصحاب الأرض الأصليين فظلوا محرومين من أراضيهم حتى بعد خروج الاستعمار.
وكانت أحزاب اليسار والتنظيمات الممنوعة في السبعينات والثمانيات من القرن الماضي تنادي بإلحاح بإصلاح زراعي وتطالب بقوة بتوزيع الأراضي على الفلاحين الصغار. وعندما قامت الدولة بتوزيع بعض الأراضي كانت قد فعلت ذلك لإخماد الغضب العارم. وفي هذا الصدد كانت هناك دراسة خلصت إلى ضرورة تحديد سقف للملكية وقد أجريت في عام 1963 بعد انتفاضة قبيلة أولاد خليفة احتجاجا على حرمانهم من أراضيهم، وكان وراء تلك الدراسة أحد صناديق الأمم المتحدة. وقد تضمنت اقتراح توزيع الأراضي على الفلاحين الصغار بعد انتظامهم في شكل شركات تتولى تسيير تلك الأراضي. إلا أن هذا المشروع رفض تحت ضغط الجهات التي لم ترقها مسألة تحديد سقف الملكية لاسيما من طرف الزمرة التي استفادت من الأراضي المسترجعة بسخاء، وبذلك تظل المسألة الزراعية بالمغرب ليست مجرد مسألة قطاعية أو اقتصادية وإنما هي مسألة سياسية بامتياز ولن تستقيم الأمور فعلا بالبلاد إلا باعتبار كذلك مادامت أنها مؤسسة على أساس ظلم اجتماعي مفضوح.
علاقة المصالح الدولتية بالفلاح في أفق التنمية
هل السياسات الفلاحية المعتمدة بالمغرب حققت فعلا الأهداف التي رسمت لها، علما أن الفلاحة كانت دائما تعتبر من أولويات الأولويات؟
إنه سؤال شغل جميع المهتمين بشؤون التنمية ببلادنا، لقد كان على الفلاحة أن تشكل قاطرة السيرورة التنموية للبلاد، فإذا كان الجفاف له تأثير على مسار الفلاحة المغربية، فإن هناك عوامل أخرى تكمن وراء الوضع الذي آلت إليه فلاحتنا وباديتنا عموما، ولعل من أهم هذه العوامل سياسات التعامل مع الفلاح والعالم القروي.
لقد اهتمت الدولة بمجموعة من الأحواض والسهول اعتبارا للمساحات المهمة القابلة للسقي وأهمية المخزون المائي بها وضرورة حماية بعضها من الفيضانات، الشيء الذي تطلب تجهيزها على امتداد أربعة عقود تحت إشراف المكاتب الجهوية للاستثمار الفلاحي والمحافظة العامة على الأملاك العقارية والرهون وبتنسيق مع بعض الجمعيات المهنية، إلا أنه ظلت هناك جملة من معوقات التنمية الفلاحية والقروية الحقة...ظلت فاعلة على أكثر من مستوى، سواء عل مستوى الأراضي المعدة أو على مستوى المصالح الدولتية أو على مستوى المعني بالأمر الأول: الفلاح.
وما أصبحنا نلاحظه بجلاء حاليا هو محاولة المصالح الدولتية للتخلص من مختلف المهام على عاتقها، وذلك منذ التسعينات من القرن الماضي، قصد إشراك السكان في التنمية المحلية اعتمادا على الشراكة و " الحوار البناء " وتحسيس السكان بالمسؤوليات المنوطة بهم. لكن هل تم فعلا تأهل السكان للقيام بهذه المهمة ف ظل سيادة عقلية الاتكالية على الدولة منذ أمد طويل ؟
هذا في وقت أصبحت فيه الأوضاع متردية بالبوادي من جراء تمركز الملكية العقارية وصيرورة " بلطرة " الفلاح والقروي واستفحال الهجرة القروية ".
ولقد أكد أكثر من بحث ميداني أن الخلل يكمن في انعدام الثقة بين المصالح الدولتية والفلاحين وفي انعدام التواصل التشاركي الديمقراطي، وفي هذا الصدد ركز بعض الباحثين عن دور الوسيط الاجتماعي والاقتصادي والإداري وأهمية تمكين الأطر والفعاليات التقنية التابعة للمصالح الدولتية من توظيف خبراتهم العلمية والمعرفية على أرض الواقع مدعمة بتجارب وخبرات الفلاحين وذلك بهدف ضمان استمرارية بقاء أهل البادية بأرضهم في إطار تصور جديد لهيكلة السكان في أفق استراتيجية تنموية جهوية لرفع الرهانات المستقبلية.
التعليقات (0)