المركب الفارغ الجزء 4
تاليف
المفكر الهندي الكبير
اوشو
OSHO
يَقُولُ تشجوان تزي:
" الرجل الذي يعرف الداو يتصرف بدون اعاقات"
هو رجل غير منقسم فكيف يمكن أن يُعرقله أي شيء؟
ماذا هناك في داخله من شيء يمكن أن يؤثر كعائق؟
هو وحيد، يَتحرّك في كماله، هذه الحركةِ في الكمال هي الجمال الأعظم الذي يمكن أن يحدث في عالم الاحتمالات.
قد يحصل معك أحياناً لمحات من هذا الجمال عندما تصبح أحياناً كاملا، عندما يتوقف التفكير عن العمل.
الشمس تشرق . . . أنت تنظر، وفجأة يختفي المراقب. الشمس ليست هناك وأنت لست هناك، ليس هناك مراقب ولا موضوع للمراقبة. الشمس تشرق ببساطة، وتفكيرك الذي يمارس دور القيادة غير موجود، ولكنك لا تلاحظ ذلك وتقول: "الشمس رائعة"، في تلك اللحظة عندما تقول ذلك تضيع السعادة وتفقد. نعم السعادة لم تعد موجودة، لقد أصبحت في الماضي، لقد ذهبت واختفت.
عندما ترى شروق الشمس فجأة، ولكن من يرى ليس موجودا، الرائي لم يأت إلى الوجود حتى الآن، ولم تتم صياغة كل هذا في فكرة. أنت لم تنظر، ولم تحلل، ولم تراقب.
الشمس تشرق وليس هناك أحد، المركب فارغ، هناك سعادة ولمحات ربانية.ولكن على الفور يبدأ التفكير بالعمل ليعلن: "الشمس رائعة وجميلة، شروق الشمس ولا أحلى." لقد ظهرت المقارنة مما أدى لفقد الجمال وضياعه.
أولئك الذين يعرفون يقولون أنه عندما تخبر شخصا: "أنا أحبك" فإن هذا الحب قد ضاع بهذا القول.
لقد اختفى الحب عندما ظهر المحب، كيف يمكن أن يوجد الحب عندما يتولد الانقسام، وعندما يكون التفكير الذي يقوم بدور الموجه موجودا؟
نعم إن العقل هو الذي يقول: "أنا أحبك" ولكن في الحب حقيقة ليس هناك "أنا" ولا "أنت"، في الحب ليس هناك فردية.
الحبّ هو ذوبان, واندماج، في الحب هناك واحد وليس إثنان.
الحب موجود، ولكن المحبين غير موجودين.
في الحب الحقيقي يبقى الحب ويختفي المحبين، ولكن التفكير يظهر ليقول: "أنا واقع في الحب، أنا أحبك" عندما تظهر "الأنا" يبدأ الشك بالتأثير، وتتولد الانقسامات، ويختفي الحب.
أنت ستصل إلى مثل هذه اللمحات النورانية في تأملك في أزمنة كثيرة متباعدة.
ولكن تذكر، حينما تشعر بهذه اللمحات فلا تقول لنفسك: "يا له من أمر جميل! " لا تقول: "كم هو أمر رائع!" لأنك بذلك ستفقد هذا الأمر وستضيعه.
حينما تحصل على نفحة نورانية اترك الأمر ليكون كما هو. لا تفعل كما فعلت الدودة ذات المئة قدم، لا تحرض الأسئلة، ولا تثر المشاكل، ولا تبدأ بالبحث، ولا تبدي أي ملاحظة، لا تحلل، ولا تسمح للتفكير بالظهور والانطلاق. امش بمئة قدم، دون ان تفكر كيف أنت تمشي.
حينما تحصل في التأمل على لمحة نورانية فجائية، أو على شيء من النشوة الروحية، اتركه ليحدث، اتركه ليدخل إلى أعماقك، وادخل أنت لأعماقه، لا تُقسّمْ نفسك، ولا تسمح للتفكير أن يعطي أيّ تأكيد، لأنك عند ذلك ستضيع الإتصال الروحي الحاصل وستفقده.
كثيرا ماتحدث هذه اللمحات النورانية معك، ولكنك أصبحت متمرسا وماهرا في تضييع إتصالك مع تلك اللمحات، بحيث أصبحت لا تستطيع فهم كيف تحدث هذه اللمحات وكيف تضيع منك ثانيةً.
هذه اللمحات تأتي عندما لاتكون انت كأنا موجودا، وتضيع عندما تعود كأنا للظهور ثانيةً.
عندما يكون المركب فارغا، فإن السعادة تحدثُ دائماً.
السعادة والنشوة الروحية ليست صدفة، وإنما هي فطرة طبيعية لوجودنا، وهي لاتتعلق ولا تعتمد على أيّ شئ، لأنها مطر الحياة وتدفقها، وهي تنفس الحياة بحد ذاته.
نعم إنه لأمر عجيب أن تكون بائسا جداً، وان تتعذب من العطش، بينما توجد النعمة كالمطر في كل مكان حولك!
نعم لقد فعلت المستحيل حقاً! الضوء موجود في كل مكان، وأنت تعيش بشكل مباشر في الظلام، الموت ليس في أي مكان، ولكنك تموت وتجد الموت بشكل مستمر!
الحياة نعمة وبركة وأنت تعيش في الجحيم!
كيف استطعت فعل ذلك؟
لقد حصلت على كل هذا الشقاء من خلال انقسامك، من خلال تفكيرك.
التفكير يعتمد على الفصل والتقسيم والتحليل، أما التأمل فيحدث عندما لايكون هناك تحليل، ولا تقسيم، عندما يصبح كُلّ شيء مركبا، عندما تصبح كُلّ الأشياء شيئا واحدا.
يقول تشجوان تزي:
الرجل الذي يعرف الداو
يتصرف بدون اعاقات،
وهو بتصرفاته لايجلب الضررلأي مخلوق حي،
كيف يمكن أن يجلب الأذى؟
أنت يُمكن أن تؤذي الآخرين عندما تكون قد آذيت نفسك فقط. تذكّر هذا، فهنا يكمن السر.
عندما تؤذي نفسك، فستؤذي الآخرين. وستؤذي أكثر عندما تعتقد أنّك تفعلُ وتقدم الخير للآخرين. لا شيء يمكن أن يأتي منك او من خلالك ماعدا الأذى، لأن الإنسان الذي يعيش في داخلك انسان مجروح، كان ولا زال يعيش مع الألم والبؤس، هذا الإنسان مهما فعل فهو سيولد البؤس والألم فيما حوله بشكل أكثر. أنت يمكن أن تعطي الشيء الموجود عندك فقط.
يقال بأنه ذات مرة جاء شحاذ إلى المعبد اليهودي وأخبر الحبر: "أَنا موسيقار عظيم، ولقد سمعتُ أن الموسيقار الذي كان يخدم في المعبد عندكم قد مات، وأنكم تبحثون عن آخر، وأنا موافق أن أحل في مكانه."
كان الحبر والجماعة من حوله سعداء لأنهم فعلا كانوا مشتاقين إلى موسيقاهم حقاً.
وعندما بدأ هذا الرجل بالعزف ظهر على الفور كم كان الأمر فظيعا! لقد كان الجو أكثر نغما بدون عزفه، لقد كانت موسيقاه تنشأ جحيما حقيقيا. لقد كان من المستحيل الإحساس بأي سعادة روحية في المعبد في ذلك الصباح. لقد كان من المحتم أن يوقفوه، لأن أغلب جماعة المصلين بدأوا بترك المعبد والهروب منه بأسرع مايمكن، لأن عزفه كان فوضويا، ويشبه الجنون، ولكنه كان من الممكن ان يؤثر على الناس.
عندما رأى الحبر أنّ كُلّ الناس يغادرون من المعبد، ذهب إلى الرجل وأوقفه، فأجابه الرجل : "إذا كنت لا تُريدني أن أبقى كعازف عندك، فادفع لي ثمن عزفي هذا الصباح، ثم سأذهب."
صاح الحبر: " من المستحيل أن أدفع لك، لأننا لم نسمع في حياتنا مثل هذا الشيء المروّع الذي عزفته."
أجاب الموسيقار بعزة وافتخار: " أنا موافق، اعتبر هذه الموسيقى صدقة مني للمعبد."
قال الحبر معارضا: " ولكن كيف تضحي وتتصدق بما لاتملك؟ أنت لاتمت بصلة للموسيقى فكيف تتصدق بها؟ أَنت تستطيع أن تتقاسم مع غيرك ماتملكه فقط، ومامعك ليس موسيقى بل بالعكس ماعندك شيء يشبه اللاموسيقى، شيء ضد الموسيقى. فلذلك خذه معك رجاءً، ولا تقدم لنا أية صدقات او تضحيات مماثلة، لأنها ستستمرُّ بمطاردتنا."
أنت تَعطي ماعندكَ فقط، أنت تعطي من نفسك من الشيء الموجود في داخلك. ولكن إذا كنت ميتا في الداخل، فأنت لا تستطيعُ مساعدة الحياة، وحيثما ذهبت فسترتكب جريمة القتل، سواء عرفت ذلك مسبقا أم لم تعرف، هذا ليس شيئا مهما، نعم قد تعتقد أنّك تُساعدُ الآخرين للبقاء أحياء ولكنك في الحقيقة تقتلهم.
المحلل النفساني الكبير "ريخ ويلهيلم" الذي كان يدرسُ الأطفالَ ومشاكلَهم، سُأل مرّة: "ما الشيء الأساسي الذي يزعج ويؤذي الأطفال؟ ماالشيء الذي يعتبر جذرا لكُلّ تعاستهم، ومشاكلهم، وشذوذهم عن المعيارات الصحيحة؟ " فأجاب: "الأمهات."
قد لاتوجد ولا أم واحدة يمكن أن تُوافق على هذا، لأن كُلّ أمّ تَشْعرُ أنّها تُساعدُ أطفالها بدون أيّ أنانية من طرفها. هي تعيشُ وتَموتُ من أجل أطفالها. ولكن المحللون النفسانيون يقولون أن الأمهات هم المشكلة، وأنهم في اللاوعي بغير معرفة مسبّقة ولا قصد يقتلون، ويؤذون أطفالهم، مع أنهم في الظاهر يعتقدون أنهم يحبّونهم.
عندما تكون متشوها في داخلك، فأنت ستشوه أطفالك، ولايمكن أن يكون الأمر غير ذلك، ولايمكن مساعدتك، لأنك تغرف وتعطي من وجودك وعالمك الداخلي، وليس هنالك طريقة غير هذه للعطاء.
يقولُ تشجوان تزي: "الرجل الذي يعرف الداو ... بتصرفاته لايجلب الضرر لأي مخلوق حي" المسألة ليست أنّه ربى نفسه على اللاعنف، وليست أنه مندمج مع الشفقة على الناس، وليست انه يعيش حياة صالحة يتصرف فيها على أساس أنه متدين، لا، هو لا يستطيع ببساطة ان يؤذي أي أحد لأنه توقّف أولا عن إيذاء نفسه، وليس هنالك جروح في داخله. هو سعيد جداً بحيث أنه من عمله أَو عدم عمله تتدفق النعمة والسعادة. حتى عندما يظهر أحياناً بأنّه يعملُ شيئا خاطئا، فهو لا يستطيع ان يتصرف بشكل خاطئ.
الشيء الذي يحدث معك عكس مايحدث مع رجل الحكمة تماما، فأحياناً يظهر أَنك تفعل شيئا جيدا، ولكنك لا تستطيع فعل هذا الشيء الجيد فينقلب تشوها لمن حولك.
رجل الداو لا يستطيع أن يؤذي، لأن هذا شيء مستحيل. ليس هنالك عنده أي طريقة لفعل الأذى، هذا شيئ مستحيل لأنه بدون إنقسامات، وبدون أجزاء.
رجل الداو ليس مجموعة من الناس الذين يعيشون في الداخل، وهو لايعاني من تعدد الشخصيات وانفصامها كما يعاني أغلب الناس. هو الكون كله في هذه اللحظة الآن، وهو نغم يتولد في أعماق هذا الكون لينتشر ويستمر بصوته بشكل دائم.
الرجل الذي يعرف الداو ليس ذلك الرجل ذي المشاغل الكثيرة، وهو ليس رجل تأثير، ولايصدر منه إلا الحد الأصغري من الأعمال الضرورية. هذا الرجل رجل اللاعمل، وليس مولعا كثيرا بالنشاطات.
أما أنت فأنت مولع وشغوف بالنشاط والشغل للهروب فقط من نفسك. أنت لا تستطيعُ تحمُّل نفسك، ولا تستطيعُ تحمُّل الحديث والتخاطب مع ذاتك. أنت تتمسك بالبحث عن شخص ما كمخرج، كعمل ما تستطيع بمساعدته أن تنسى نفسك، لأنك ببساطة قد ضجرت من نفسك.
رجل الداو هو الرجل الذي وصل إلى طبيعته الداخلية, الرجل المتدين حقا، ومع ذلك فهو ليس رجلا فعالا، ولايحدث معه إلا الشيء الضروري جدا. الشيء الذي يمكن أن يحدث بدونه والشيء غير الضروري مرمي بالكامل، ولذلك نجد أنه يستطيع أن يستمتع بهدوء وراحة اللاعمل، حيث يمكن أن يكون في البيت بدون أن يعمل أيّ شئ، وهو يستطيع الاسترخاء، وان يكون مصاحبا لنفسه في جلسة لايكون فيها غيرهما، وهو يستطيع أن يكون مع نفسه وأن يكون نفسه.
أنت لا تستطيع أن تكون مع نفسك، وهذا هو مصدر حاجتك الدائمة للاجتماع والحديث مع الغير. انت لابد أن تذهب للنادي، او تذهب للإجتماع، أو لأمسية. أنت تسعى دائما لتكون وسط حشد ومجموعة من الناس، حيث تستطيع أن لاتكون لوحدك. أنت تخاف من نفسك بحيث انه لو تركوك لوحدك فستصاب بالجنون.
في فترة ثلاثة أسابيع، لو تركت لوحدك دون معاشرة الناس والحديث معهم فسوف تصاب بالجنون. هذه النتيجة ليست من أقوال رجال الدين فقط، وإنما يوافق عليها علماء النفس الآن.
في فترة ثلاثة أسابيع فقط، إذا أخذت منك كل فرص النشاط والعمل، وحجزت عن امكانية التخاطب والتحادث مع الناس، وأقفل عليك وتركت لوحدك في غرفة، فسوف تصاب بالجنون
خلال ثلاثة أسابيع، لأن كل عملك وما يشغلك موجه للتخلص من جنونك.
ماذا ستعمل عندما ستكون لوحدك؟ في الأيام الثلاثة أو الأربعة الأولى سوف تحلم وتتكلّم عن نفسك وتدردش مع داخلك. بعد ذلك سيصيبك الملل وسوف تبدأ بعد الإسبوعِ الأول بالكلام بصوت عال جهوري، لأنك على الأقل تستطيع بذلك أن تسمع صوت كلامك.
عندما تَمْشي في شارع مظلم ليلا أنت تبدأ بالصفير، لماذا؟ كيف يستطيع هذا الصفير أن يعطيك الشجاعة؟ كيف يستطيع هذا الصفير أن يساعدك؟ السر يكمن في أنك عندما تستمع لصوت صفيرك، فأنت تشعر أنّك لست لوحدك، هناك شخص ما يصفر، وهكذا تكون قد أنشأت الوهم بوجود شخص آخر!
بعد الإسبوع الأول ستبدأ بالكلام بصوت عال جهوري، لأنك تستطيع أن تستمع أيضاً، أنت لست لوحدك، أنت تتكلّم وتستمع كما لو أنَّ هناك شخص آخر يتكلّمُ معك.
بعد الإسبوع الثاني سوف تبدأ بإجابة نفسك، حيث ستتكلّم وتُجيب، أنت منقسم، وأنت الآن إثنان، واحد يسأل، وآخر يُجيب. هناك الآن حوار، نعم لقد فقدت عقلك بشكل كامل.
سأل رجل طبيبه النفساني: "أَنا قلق جداً، من انني أَتكلّم في كثير من الأحيان مع نفسي، ماذا علي أن أفعل؟ هل بالإمكان أن تُساعدني؟ "
أجابه الطبيب النفساني مهدئا: "ليس هنالك أسباب تستدعي القلق، كل الناس يتكلّمون مع أنفسهم، وليست هذه مشكلة كبيرة، أما عندما تبدأ بإجابة نفسك، فعليك فورا أن تأتي لعندي، لأنك ستكون فعلا بحاجة لمساعدتي."
الإختلاف بين الحالتين في مقدار نسبة الجنون وليس في نوعيته. عندما تبدأ بالكلام مع نفسك، فعاجلاً أم آجلاً ستبدأ بإجابة نفسك أيضاً، لأنه من غير الممكن أن يكتفي الإنسان بالكلام لوحده؟ الجواب مطلوب، ومن تحدثه مطلوب وإلا فستشعر بحماقة نفسك. في الأسبوع الثالث ستبدأ بالإجابة، لقد أصبت بالجنون.
هذا العالم، عالم النشاط والعمل والشغل هو الذي ينقذك من مستشفى المجانين. عندما تكون مشغولا فإن طاقتك موجهة للخارج، وعند ذلك أنت غير ملزم أن تعتني بالعالم الداخلي، انت تستطيع نسيانه بالكامل.
الرجل الذي يعرف الداو ليس رجل نشاط كثير، وإنما يقوم بالنشاط الضروري، وبالشيء الذي له قيمة فقط.
لقد كان الناس يقصون أن تشجوان تزي إذا كان يستطيع الوقوف فلم يكن يمشي، وإذا يستطيع الجلوس فلم يكن يقف، وإذا كان يستطيع الاضطجاع لم يكن يجلس. لقد كان يقوم بالشيء المهم، الأكثر ضرورةً، لأنه في مثل هذا النوع من العمل ليس هناك جنون.
أنت تفعل دائما الشيء غير الضروري، الشيء عديم الأهمية، ولتنظر إلى نشاطاتك: تسعة وتسعون بالمائة هي أفعال غير ضرورية، حيث أنه بامكانك أن ترميها، وتُوفّرَ بذلك طاقة كثيرة، ووقت كبير. ولكنَّك لا تريد رميها ولا تستطيعُ رميها بالأحرى لأنك خائف، وممتلئ بالرعب من نفسك. عندما لايكون هنالك راديو، ولا تلفزيون، ولا صحف،ولا جرائد، ولا أحد للتكلم معه، فماذا ستعمل؟
لقد سمعتُ أن رجل دين قد مات، وكان بالطبع، يعتقد جازما أنه سيذهب إلى الجنة، في السماء. عندما وصل إلى هناك، كان كل شيء جميل. كان البيت الذي يسكنه من أروع البيوت التي ماكان ليحلم بها، وفي اللحظة التي كانت تظهر لديه رغبة في شيء ما كان يظهر خادم فورا لتلبيتها وتنفيذها. إذا كان جائعا, ظهر الخادم وبيده طبق ملئ بالغذاءِ، الذي لم يكن ليحلم بتذوق مثله أبداً. إذا كان عطشانا، فحتى قبل تتحول رغبته لتصبح فكرة وبينما هي على مستوى الشعور, كان الخادم يظهر وبيده االمشروبات.
إستمرَّ النعيم وكان سعيدا جداً ليومين او ثلاثة، وبعد ذلك بدأ وبعد ذلك بدأَ يشعر بعدم الارتياح وبالقلق، لأنه على الإنسان أن يعمل شيئا، أنت لا تستطيع أن تجلس ببساطة في كرسي مريح.
رجل الداو يمكنه أن يجلس في كرسي مريح ويستمر بالجلوس والجلوس والجلوس. أنت لا تَستطيعُ فعل ذلك.
أصبح رجل الدين مضطرباً. لأنه تعود على الراحة في يومي عطلة أو ثلاثة أو الاستراحة في عطلة نهاية الأسبوع، هذا شيء رائع. لقد كان رجل الدين هذا في حياته نشيطا جداً، كان يقوم بالعديد من مجالس الوعظ والمهمات، وكان يقوم بعمل الكنيسة، وبالقاء الخطب في المناسبات العديدة، وكان منهمكا في خدمة مجتمع المصلين، لذلك كان يستمتع بالراحة بعد كل ذلك العناء والتعب. ولكن كم يمكن للإنسان أن يرتاح؟ الراحة ممكنة وممتعة مالم تنتهي العطلة، وعندها يجب أن تعود إلى العالم، إلى دائرة الأفعال التي كنت تدور فيها. لقد أصبح رجل الدين قلقا بشأن هذه المسألة، وبدأ يشعر بنوع من عدم الإرتياح، والضيق.
وفجأة ظهر الخادم وسأله: "ماذا تريد؟ شعورك الذي تشعر به ليس حاجة لك لكي ألبيها، أنت لست عطشانا ولا جائعا، أنت مضطرب فقط، فماذا يجب أن أفعل؟ "
قال رجل الدين: "أنا لا أَستطيعُ الجلوس هنا إلى الأبد، انا أريد أن أقوم ببعض الأعمال."
قاطعه الخادم وقال: "هذا شيء مستحيل، لأننا مكلفون هنا بتنفيذ كل رغباتك، ولست محتاجا لفعل أي شيء!؟ ليس هنالك حاجة للعمل، ولذلك هو غير موجود هنا."
أصبح رجل الدين مضطربا أكثر وصاح: " ماهذه الجنة اذن؟ "
فأجابه الخادم متعجبا: "ومن قال لك أن هذه الجنة؟من أخبرك أن هذه هي الجنة؟ هذا هو الجحيم. "
نعم لقد كان هذا هو الجحيم حقاً. لقد فهم الآن أنه بدون فعل وعمل قد وقع في الجحيم حقا، ولا بدَّ أنه عاجلاً أم آجلاً قد فقد عقله بعد ذلك. لقد كان هذا المكان بدون إتصال ولا كلام، ولا ضرورة فيه للقيام بمجالس الوعظ والمهمات، ولا وجود للخاطئين الذين لابد من اعادتهم لطريق الصواب، ولا وجود للناس الحمقى الذين لابد من تحويلهم لحكماء، ماذا يمكنه أن يفعل إذن؟
رجل الداو فقط هو الذي يستطيع أن يغير ذلك الجحيم إلى جنة، وهو حيثما كان يعيش بسلام، وفي راحة، ويفعل الشيء الضروري فقط، وإذا كان هنالك من يفعل هذا الضروري بالنيابة عنه، فسيكون سعيدا بذلك، وهو يرمي بكل الأشياء غير الضرورية وغير المهمة.
أنت لا تستطيعُ أن ترمي بكل الأشياء غير الضرورية وغير المهمة، وهذا يعني في الحقيقة أن تسعة وتسعون بالمائة من طاقتكَ ضائعة على الأشياء غير الضرورية.
الضروري غير كاف بالنسبة للعقل الذي يشتاق دائما بلهفة إلى غير الضروري أيضا، لأن الضروري صغير جداً، بحيث يمكن تنفيذه بسهولة، ثمّ ماذا عليك أن تعمل؟
الناس ليسوا مهتمّين كثيرا بإمتلاك الغذاء الجيد. وإنما هم أكثر إهتماماً بامتلاك السيارة الغالية، لأن الغذاء الجيد يمكن الحصول عليه بسهولة. ثمّ ماذا بعد ذلك؟ الناس لايريدون إمتلاك الأجسام الصحّية الجيدة. لأن ذلك يُمكنُ أن يُنجَزَ بسهولة شديدة.
الناس يهتمون بالشّيء الذي لا يُمْكن أن يحصل عليه بسهولة، الشيء المستحيل، ودائما تكون الأشياء غير الضرورية مستحيلة.
هناك بيوت أكبر من بيتك دائماً، وهناك سيارات أغلى، وهكذا يصبح البيت أكبر فأكبر، والسيارة أغلى فأغلى، بحيث لن تسنح لك فرصة للإرتياح.
العالم بأكمله مشغول بالأشياء غير الضرورية. تسعون بالمائة من الصناعة مهتم بالأشياء غير الضرورية. خمسون بالمائة مِنْ العملِ الإنسانيِ ضائعُ على الذي لَيسَ مفيدَ في أية حال. خمسون بالمائة من الجهد الإنساني ينفق لفعل الأشياء التي لايحتاجها أي أحد. نصف الصناعة العالمية مكرس لخدمة العقل الأنثوي، أو الجسم الأنثوي بالأحرى: تصميم الألبسة الجديدة كل ثلاثة شهور، تصميم البيوت الجديدة، الملابس، المساحيق، الصابون، المراهم، خمسون بالمائة من الصناعة مكرس لإنتاج مثل هذا الهراء. الإنسانية جائعة، وهناك أناس يموتون بدون غذاء، ونصف الإنسانية مشغول بالأشياء غير الضرورية.
لم يكن الوصول للقمر شيئا ضروريا جداً. ولو كنا أعقل وأكثر حكمة لما كنا لنفكر في الموضوع حتى. لأنه هدر لاطائل منه لأموال طائلة كان من الممكن أن يغذى سكان الأرض بكاملهم بها.
الحروب غير ضرورية، وعديمة الفائدة، ولكن الإنسانية مجنونة، وهي تحتاج للحروب أكثر من الغذاء! الإنسانية بحاجة للوصول إلى القمر أكثر من الغذاء! أكثر من الملابس، أكثر من الأشياء الضرورية، لأنها متوفرة وموجودة بوفرة!.
والآن أنشأ العلم الرعب الأكبر، وهو عبارة عن فكرة تقول: أن الأشياء الضرورية الآن يمكن أن تنجز بسهولة شديدة، وخلال عشر سنوات يمكن أن توفر كل حاجات الإنسانية الضرورية ثمّ ماذا؟ ماذا ستفعل الانسانية بعد ذلك؟ لابد أنها ستكون في وضعية مشابهة لرجل الدين في القصة السابقة. لقد كان يعتقد جازما أنه في الجنة، وبعد ذلك وجد أنّه كان في الجحيم. خلال عشرة سنوات كل الأرض يُمكن أن تُصبحَ جحيما.
الشيء غير الضروري مطلوب لكي تبقى مشغولا وتبعد عن الجنون. فلذلك كل الأقمار غير كافية، ويجب علينا أن نذهب أبعد، وأن نستمر بانشاء الأشياء عديمة الفائدة. هذا شيء مطلوب وضروري للناس لكي يبقوا مشغولين.
رجل الداو ليس رجل نشاط كثير، وأفعاله هي الشيء الأكثر ضرورة، التي لا يمكن تفاديها. هو سعيد بنفسه مما يجعله ليس بحاجة للتعبير عن نفسه في صيغة عمل. نشاط رجل الداو يشبه اللاعمل، لأنه يعمل بدون ان يصبح ذلك الذي يعمل، أي بدون أن يدخل في دور العامل.
رجل الداو مركب فارغ، يسبح بحرية في البحر، بدون وجهة أو مكان يذهب إليه.
ورغم ذلك فهو لا يظن أنه رحيم ولطيف.
إسمحْ لهذه الفكرة بالدخول إلى أعماقك قلبك: " هو لا يظن أنه رحيم ولطيف" لأنك عندما تعتقد نفسك رحيما ولطيفا، فقد ضيعت الجوهر الحقيقي، عندما تعرف أنك رجل بسيط، فأنت لست بسيطا حتما. هذه المعرفة هي التي تعقد المسألة. عندما تعرف أنك رجل متدين، فالوضع ليس كذلك، لأن العقل المخادع "الذي يعرف كل شيء" ما زال هناك.
عندما تكون لطيفا، ولكنك لا تعرف هذا، عندما تكون بسيطا، ولكنك لاتدرك هذا، عند ذلك يكون اللطف والبساطة قد أصبحا من طبيعتك الحقيقية. عندما يكون الشيء طبيعيا فأنت لاتدركه، أما عندما يكون الشيء مفروضا بشكل اصطناعي، فأنت ستعرفه.
عندما يصبح شخص ما غنياً ففي أول الأمر فهو يذكر دائما بيته الغني، ومسبحه، وثرواته، وأنت يمكن أن ترى أنّه ليس أرستوقراطياً وليس غنيا الأصل، لأنه يعجبه أن يفتخر ويعرض كل مايملك.
يقال أن رجلا غنيا اشترى ثلاثة مسابح لحديقته، وبعد أن تم صنعهم وتركيبهم، عرض الغني هذه المسابح على صديقه الذي كان متعجبا حيث قال: "ثلاثة مسابح؟ لأي غرض؟ كان يكفيك واحد."
فأجاب الرجل الغني: "لا، واحد لايكفي، لأنني أريد واحدا بماء ساخن والثاني للماء البارد." فسأله الصديق مهتما: "والثالث؟"
أجاب الغني موضحا: "الثالث لأولئك الذين لا يستطيعونَ السباحة. فلذلك سوف نبقيه فارغا دائما."
أنت يمكن أَن تلاحظ أنه حالما يُصبح الإنسان غنيا فهو يطمح لعرض ثروته والافتخار بها. الأرستقراطي الحقيقي هو الإنسان الذي نسي أنّه غني. رجل الداو أرستوقراطي العالم الداخلي.
عندما يعرض الأنسان تدينه فهو لم يصبح متدينا بشكل حقيقي بعد، وتدينه ما زال يشبه الشوك غير الطبيعي، الذي يؤذي، لأنه متلهف لعرض تدينه. إذا كنت تريد عرض بساطتك فأي نوع من البساطة هذه؟ إذا كنت تعرض لطافتك وتحاول اظهارها، فهذا خداع ببساطة، ولا شيء لطيف فيك أبدا.
رجل الداو أرستقراطي العالم الداخلي، حيث أنه متوافق ومنسجم معه بحيث أن ذلك غير ملاحظ لا من جهتك ولا من جهته حتى، هو لايعرف ولا يتذكر أنّه حكيم، هو لايعتقد أنّ فيه من براءة الطفولة الشيء الكثير، وكيف لك أن تعرف أنك بريء؟ معارفك ومعلوماتك ستلوث هذه البراءة.
سمعت أن تلميذ حضرة الشيخ محمد ذهب معه إلى المسجد لأداء صلاة الفجر. كان الوقت صيفا، وفي طريق العودة رأوا العديد من الناس الذين ما زالوا نائمين في بيوتهم أَو على الشارع. قال التلميذ بشكل متغطرس جداً لشيخه: "ماذا سيحدث لهؤلاء المذنبين؟ لقد ضيعوا صلاة الفجر."
اليوم كانت هي المرة الأولى التي يذهب فيها هو نفسه للصلاة. بالأمس فقط كان نائما أيضاً مثل هؤلاء المذنبين. ولكنه أراد التباهي أمام الشيخ: " سيدي محمد، ماذا سيحدث لهؤلاء المذنبين؟ فهم مازالوا نائمين وعدم قدومهم لصلاة الفجر دليل على كسلهم."
توقف الشيخ محمد وقال: "اذهب إلى البيت، اما أنا فعلي أن أعود إلى المسجد ثانيةً."
تعجب التلميذ وقال: "لماذا؟ "
أجاب الشيخ: "لقد أصبحت صلاة فجري ضائعة بسببك، والحديث معك حطم كُلّ شيء. يجب أن أعيد صلاتي ثانية. أما بالنسبة لك، فتذكر رجاءً لا تأتي للقائي ثانية، فمن الأفضل لك أن تكون نائما مثل الآخرين، وعندها على الأقل لن يكونوا مذنبين في نظرك، لقد أفادتك صلاتك بشيء واحد فقط، وهو أنها أعطتك المفتاح لإدانة الآخرين."
الشخص المتدين يتمسك بدينه لكي ينظر للآخرين نظرة إدانة، لأنه يمكن أن يعلن أنهم مذنبون. إذهب إلى رجال الدين، أو مايسمون برجال الدين وإنظر في عيونهم.
أنت لن تجدَ البراءة التي كانت يجبُ أن تكون هناك. أنت ستجد العقل الذي يحسب ويقلب الاحتمالات وينظر إليك وهو يفكر بالجحيم: "أنت ستكون في الجحيم وأنا سأكون في الجنة، لأنني أصلّي كثيراً، خمس مرات كل يوم، وأصومُ كثيراً" المسألة كما لو أنك يمكن أن تشتري مكانا في الجنة! وكما لو ان الصوم، والصلاة، عملات معدنية يمكن بها اجراء مساومة أو بيع او شراء.
عندما ترى الإدانة في نظر رجل الدين، فاعلم أنه يشبه الأغنياء الجدد، وأنه لم يصبح حتى الآن أرستوقراطيا في عالمه الداخلي، فهو منفصل عنه ولاينتمي إليه إلى الآن. هو قد يعرفه، ولكنك تعرف الشيء عندما يكون منفصلا عنك فقط.
هنا يجب أن نتذكر شيء آخر: لهذا السبب، المعرفة الذاتية مستحيلة. أنت لا تستطيع معرفة نفسك، لأنك حينما تعرف، فأنت لا تعرف نفسك الحقيقة، وإنما تعرف شيء آخر منفصل عنك. أنت – كنفس- تقوم بدور المتعرف ولا تتحول لتكون موضوعا للمعرفة، فكيف تستطيع أن تعرف هذا المتعرف؟ أنت لا تستطيع انقاصه أو تقليصه لكي تقدر على تحويله إلى موضوع للبحث والاستطلاع.
أنا يمكن أن أَراك، ولكن كيف يمكن أن أرى نفسي؟ من سيكون الناظر ومن سيكون الناظر إليه؟ لا، لا يمكن معرفة النفس الذاتية بنفس الطريقة التي نعرف بها كل الأشياء الأخرى.
المعرفة الذاتية مستحيلة حسب المفهوم الاعتياديَ، لأن المتعرف دائما يتحول ويخرج عن الحدود المرسومة، فمهما وصلت بمعرفتك فلن تصل إليه.
في كتاب "أوبانيشاد" يقولون عبارة ليس هذا ولا ذاك. أنت ذلك الذي يعرف وهذا الذي يحاول التعرف لا يمكن أن يقلص ليتحول إلى جسم أو موضوع يتعرف عليه.
المعرفة الذاتية مستحيلة. إذا كانت براءتك تنشأ من منبعك الداخلي فلن تستطيع معرفتها. أما عندما تسميها وتلبسها لنفسك كقناع من الخارج فأنت يمكن أن تعرفها، إذا كان ذلك كقطعة الملابس التي تلبسها، فانت تعرف ذلك، ولكن ذلك بعيد عن تنفس حياتك الحقيقة، هذه البراءة هي ثمرة للتربية، وليس هنالك أقبح من البراءة المزروعة.
انتهى
رابط الموضوع
التعليقات (0)