osho
أوشو راجدينش
محاضرات عن أقوال الحكيم تشجوان تزي
المحاضرات ألقيت في 1974 وترجمت إلى الروسية عام 1994
ترجمة: د. محمد ياسر حسكي
لغة الفيلسوف أوشو لغة لا يمكن تكرارها، ومع أن محاضراته كانت بسيطة وقليلة الكلمات، ولكنها كانت مليئة بالمعاني العميقة البعيدة الحدود. لهذا السبب قد لا نستطيع أن ننقل بترجمتنا كل الموسيقى التي كانت تملأ كلماته، ولكن هذا لم يمنعنا من الحفاظ على المعاني الخارجية بحذافيرها، وعلى الفكرة بسطحها الظاهر، مما أدى أحيانا إلى تهديم ذلك العمق الكبير للمعنى الروحي الذي كان يُعبر عنه الفيلسوف أوشو بكلمات قليلة جدا. وهذا يضطرني للاعتذار من القارئ الكريم عن أي فشل في التعبير عن تلك الأفكار العميقة في روحانيتها، والتي كانت تنبع من قلب ملئ بالنور. لقد كان أوشو يتكلم في عمق صمته بالكثير، مما لا يمكن صياغته في كلمات كما كان يتحدث طلابه.
كيف يمكن حقيقة للكلمات أن توصل تلك الرسالة التي لا يمكن التعبير عنها بكلمات؟ ما الذي نستطيع أن نقوله عن المعلم الروحاني العرفاني؟؟ لقد كان محتوى الرسالة التي كان يريد هذا المعلم إيصالها فوق مستوى الكلمات، وكانت تستدعي لفهمها أن يترك الإنسان تفكيره والأمور المنطقية ليصبح فارغا من الداخل، وهذا يسمح للإنسان أن يتخلص من الشروط التي يضعها هو أو يضعها غيره لحياته، ويسمح له أن يتخلص من الانتظار والتمني الأمر المرتبط بالأنا المزيفة، ويجعل العرفان الذي يحاول المعلم الروحي أن يوصله شيئا قريبا وملموسا لنا.
أوشو وكل المعلمين الروحيين قبله يريدون جعلنا أواني فارغة قادرة على قبول تلك الأبدية الروحية، التي لا يمكن التعبير عنها بكلمات والتي يستمتعون بها هم أنفسهم.
في هذه المحاضرات يوضح أوشو الفكرة القائلة بأنه مادمنا في حالتنا الروتينية الحياتية الراهنة فليس هنالك مكان للشيء الروحي الذي لا يعبر عنه بكلمات في داخلنا، نعم لا يمكن للبذرة الروحية أن تجد فسحة في تربتنا غير الصالحة، وهي مازالت في حالة من الانتظار في داخلنا تتأمل فسحة أو زاوية فارغة من عالمنا الداخلي الذي تملؤه الهموم، وخطط المستقبل الأمر الذي يقفل الباب أمام أي شيء روحي. ولكن هذا لا يعني أن نبذل الجهد لنصل إلى هذا الفراغ وإلا اصطدمنا مع المفارقة بأن اشتداد الجهد والعزم يغذي الأنا المزيفة، مما يجعلنا فاشلين بشكل كامل، إذن ماذا يمكن أن نفعل؟؟
أوشو يقول لنا أنه علينا أن لا نفعل شيئا لأن الفعل يصدر من الأنا المزيفة، وأنه علينا أن نكون منفتحين وأن نقبل كل الوجود حولنا، وكل ما يجري فيه، متجاوزين بذلك تفكيرنا الذي يحب التقييم. كلمات أوشو ترشح إلى داخلنا، إلى أعماق وجودنا وروحنا لنصبح أشبه ما نكون بالمركب الفارغ.
عندما نتأمل هذه الكلمات بمعانيها العميقة، فسوف نفهم أنها قد تكون طريقا إلى الجنون، ولكن أوشو يستعمل هذا التناقض كتقنية يستطيع بمساعدتها أن يصل إلى كل أنواع الشخصيات المحيطة به.
أوشو يعلم كل خدع الأنا المزيفة وحيلها، ويعلم كل أساليب تفكيرنا، لأنه قد مشى في هذا الطريق وتجاوز هذه المرحلة ليكون أمامنا، دليلا لنا.
أوشو لا يحاول أن يجعلنا عبيدا لقواعده الخاصة فهو ليس عدوا لنا، ولأنه يمتلك الكثير من الحب لفطرتنا الداخلية، نراه يُوجه كل جهوده لمساعدتنا في أن نعي عبوديتنا لكثير من الأشياء والأشخاص، ونراه يُحاول مساعدتنا في التخلص من هذه العبودية وسيطرتها على حياتنا.
أوشو يقوم بمفاجأتنا بمبدأ الصدمة الذي يستعمله كثيرا، وهو بذلك ينفضنا من قلب الخلايا المغلقة والقوالب التي وضعنا أنفسنا فيها، لكي نستطيع من خلال الصحو الناشئ والوعي أن نفهم ونغير من وضعنا.
أوشو يقول إن الناس حوله يشكّون فيه ولكنهم لا يشكّون في أنفسهم أبدا، لأنه في تلك اللحظة التي يبدأ فيها التفكير بالشك في نفسه يتوقف عن الوجود. ظهور الشك يعتبر تربة خصبة لكي يُضيع التفكير ثقته بنفسه، وسوف يؤدي ذلك آجلا أو عاجلا إلى السقوط في هاوية التأمل.
عندما نقرأ أفكار أوشو فإن أكثر شيء نستطيع أن نفعله هو أن نفتح أبوابنا للسماح لتلك الرسالة التي لا يمكن صياغتها في قالب الكلمات والتي تختبئ بين الكلمات بأن تخترقنا وتصل إلى أعماقنا.
أوشو يقول:" ولكنِي أَقولُ مقتنعا إنني يمكن أن أساعدك لا بصفتي خبيراً ولا مختصا، ولا إنسانا غريباً عنك، بل لأنني كنت مسافرا على نفس الطريق الذي تسلكه، ومررت بنفس الجنون الذي تمر به، ومررتُ من خلال نفس البؤس والألم والعذاب الذي تُعاني منه الآن، لقد مررت بنفس الكوابيس الليلية، ومهما فعلت معك فإن ذلك لإقناعك بالتخلص من جنونك".
ويقول أيضا:" حيثما كنتَ أو ستكون فقد كنتُ أنا هناك، وحيثما كنتُ أَنا فيُمكنُ لك أن تَكُون. انظر إلي بعمق قدر الإمكان وستشعر بي بشكل عميق وستشعر أنني مستقبلك وفرصتك المتاحة".
الكثير منا يعيش في عالم الزمن، في ذكريات الماضي أو أمنيات المستقبل، وقد نلمس أحيانا ذلك التدفق اللازمني الذي نسميه تدفق الحاضر: في لحظات الجمال المفاجئة أو في لحظات الخطر المباغتة أو عند لقاء من نحب أو مشاهدة الشئ غير المنتظر.
لقد استطاع القليل من الناس أن يغادروا عالم الزمن والتفكير، عالم المنافسة والنزوات، وحاول عدد لا يتجاوز أصابع اليد من هؤلاء أن يشاركوا غيرهم في خبرتهم الروحية هذه. الناس المعاصرون كانوا يعدون هؤلاء الروحانيون مجانين، وبعد موتهم كانوا يطلقون عليهم الفلاسفة. ولكن مع مضي الوقت أصبح هؤلاء الفلاسفة أسطورة، حيث استطاع هؤلاء البشر المخلوقون من لحم ودم أن يكونوا انعكاسا لأمانينا في الخروج من حدود هذا الجسد، وهذا التفكير، وهذه الحياة المليئة بالروتين عديم المعنى.
لقد كان أوشو واحدا من هؤلاء حيث فتح بابه الموصل إلى التدفق اللازمني للحاضر، وقد وهب هذا الإنسان الذي كان يسمي نفسه (الإنسان الذي يحيا بشكل حقيقي) حياته لإيقاظ الآخرين للبحث عن هذا الباب حيث لا نعيش في الماضي ولا في المستقبل ونفتح في أنفسنا عالم الأبدية.
ولد أوشو 11-12-1931 في قرية كوتشافادا من مقاطعة ماديا براديش في الهند. أظهر أوشو منذ نعومة أظافره روحا ثائرة تحب الاستقلال، وتفضل المعاناة الخاصة والبحث الذاتي عن الحقيقة، وقد وضع هذه المعاناة أعلى بكثير من المعلومات النظرية والمعتقدات التي كان المجتمع المحيط يحاول أن يفرضها عليه.
أصبح أوشو عارفا روحانيا أو متنورا في سن الحادية والعشرين، ثم أنهى دراسته الأكاديمية، ثم مارس مهنة التعليم لعدة سنوات في قسم الفلسفة في جامعة مدينة جبالبور، في هذه الفترة كان يسافر كثيرا في كل أنحاء الهند، ليُحاضر ويُناقش ويُناظر الكثيرين من رجال الدين حيث كان يضع الكثير من المعتقدات المسلم بها تحت الشك، وكان يتصل بكل طبقات المجتمع المختلفة. لقد قرأ أوشو في هذه الفترة الكثير مما ساعد على توسيع فهمه لأنظمة المعتقدات ونفسية الإنسان المعاصر. في نهاية الستينيات بدأ أوشو بتطوير طرقه الخاصة للتأمل الحركي حيث كان يقول: الإنسان المعاصر يحمل الكثير من التقاليد المتخلفة المتجمدة، إضافة إلى ثقل الروتين الحياتي اليومي، ولذلك عليه أن يمر خلال عملية التنظيف الداخلي العميق قبل أن يكون عنده أمل بدخول ذلك العالم المتحرر من الأفكار والذي نسميه بعالم التأمل والاسترخاء.
في بداية السبعينيات بدأ أوائل الغربيين بالسفر إلى أوشو وفي عام 1974 تكوّن حوله في مدينة بونا مجتمع بسيط مما حول ذلك النهر الصغير من الناس القادمين للاستفادة من هذا المعلم الروحي إلى طوفان. كان أوشو من خلال عمله مع الناس المحيطين به يمس كل اتجاهات تطور الوعي البشري، ويستخلص ويعطي لمن حوله جوهر البحث الروحي للإنسان المعاصر، وكان يعتمد ليس على فهمه الفكري وإنما على خبرته الوجدانية الخاصة.
لم يكن أوشو تابعا لأي من التقاليد الموجودة وكان يردد دائما (أنا بداية لوعي ديني جديد بشكل مطلق). وقد جمعت محاضرات الفيلسوف أوشو التي ألقاها على طلابه وعلى الباحثين عن الحقيقة من كل أنحاء العالم في أكثر من ستمائة مجلد وقد ترجم معظمها إلى أكثر من ثلاثمائة لغة.
كان أوشو يقول: "رسالتي ليست فلسفة معينة وإنما كيمياء معينة، علم لتحويل الإنسان إلى إنسان آخر، حيث يستطيع الإنسان الجاهز للموت أن يولد بشكل جديد لا يمكن حتى أن يتصوره في الوقت الحاضر، ولكن هذا يحتاج لشجاعة لأنها مخاطرة عظيمة ومغامرة لا يقدم عليها إلا القلائل. إن من يسمعني يقوم بالخطوة الأولى للولادة من جديد، فلذلك لا تستخدموا كلماتي كفلسفة تقوم بحمايتكم بشكل آمن أو تستعملونها للتفاخر على غيركم. كلماتي ليست قواعد معينة تعطيكم الأجوبة الجاهزة على الأسئلة الملحة التي تقلقكم... رسالتي ليست نوعا من التخاطب الكلامي المعروف، وإنما هي أخطر من ذلك بكثير فهي موت للولادة في حياة جديدة ".
توفي أوشو في 19-1-1990، وبقي المجتمع المحيط به من أكبر المراكز العالمية التي تساعد على النمو الروحي لكل المهتمين والباحثين عن الحقيقة من كل أنحاء العالم، الذين يأتون للمشاركة في طرق التأمل، مجموعات علاج الجسد، مجموعات البرامج الإبداعية حيث يجربون بأنفسهم ماذا يعني أن يعيش الإنسان في العالم الروحي.
الفصل الأول
الحلاوة المالحة
الذي يَحْكمُ الناس يعيش دائما حياة مليئة بالاضطرابات
الذي يحكم الناس يعيش في الحُزن.
لأن الداو لا تريد
أن نؤثر على الآخرين
ولا أن نصبح متأثرين بسلطتهم.
إن الطريق للتخلص من الاضطرابات والحزن
أن نعيشَ مع الداو في عالم الفراغ.
إذا كان الرجل يَعْبرُ النهر
وهو سيّئ الطباع
واصطدم مركب فارغ بزورقه الصغير الخاص
فهو لَنْ يكون غاضبا جداً.
ولكنه لو رأى رجلا في ذلك المركب،
فسيصرخ حتما عليه بأن يقود بشكل أحسن
وإذا لم يكن صياحه مسموعا فسيصرخ من جديد
وسيصرخ ثانية ثم يبدأ بإمطار ذاك الرجل باللعنات
وكُلّ ذلك لأنه هناك شخص ما في ذلك المركب.
فيما لو كان المركب فارغا،
لم يكن ليصيح،
ولم يكن ليغضب.
إذا استطعت أَنْ تُفرغَ مركبَكَ الخاصَ
وأنت تعبر خلال نهر الحياة،
فلن يعارضك أي أحد،
ولن يجلب لك الأذى أي أحد.
الشجرةَ المستقيمةَ تقطع أولا،
الجداول العالية تجف أولا
عندما تريد مضاعفة حكمتك
فستجلب العار للجهل،
وتتمكن من الحصول على سمعة جيدة، وتتمكن من تجاوز الآخرين،
وسيشرق النور حولك
كما لو أنك ابتلعت الشمسَ والقمر-
ولنْ تَتفادى المصائب.
الرجل الحكيم قالَ:
وهو راض عن نفسه
لقد قمت بعمل عديم القيمةَ.
لأن الإنجاز هو بِداية الفشل،
والشهرة هي بداية الفضيحة
مَنْ يَسْتَطيع تَحرير نفسه من الإنجاز والشهرة
وأن ينزل بعد ذلك ليصبح مفقوداً
وسط جماهير الناس
فسوف يستطيع السباحة مثل الداو بشكل غير مرئي،
وسيمشي بحرية في كل مكان كما هي الحياة بحد ذاتها
بدون اسم ولا بيت.
هو إنسان بسيط وبدون علامات،
وكيفما نظرت إليه فستقول إنه أحمق.
ولن يبقى وراءه أي أثر. فهو لا يملك السلطة.
ولا يريد إنجاز أي شيء، ويعبر المجد من فوقه دون أن يلتفت إليه.
ولأنه لا يحْكم على أحد، فلا أحد يَحْكمُ عليه.
هذا هو الإنسان الكامل
مركبه فارغ.
عندما أتيت إلي، قمت بخطوة خطيرة، فيها من المجازفة الشيء الكبير، لأنك بقربي يمكنُ أَنْ تُفقدَ إلى الأبد. إن الاقتراب مني يمكن أن يعني الموتَ وليس أي شيء آخر، لأنني أُشبه الهاوية. اقتربْ مني أكثر وستَسقطُ في أعماقي. لقد حضرت لهنا بمجرد سماعك لصوتك الداخلي الذي كان وما يزال يدعوك لذلك.
يجب أن تعلم وتدرك أنك من خلالي لنْ تنجز أو تحصل على أي شيء، بالعكس يُمْكنُ أَنْ تَفقد كُل شيء، وما لم تفقد كل شيء فلن تنمو بذرة الربانية عندك، وما لم تَختف كلياً، فلا يمكن أن يظهر في داخلك أي شيء حقيقي. الأنا تُشكل مانعا وحاجزا أمام كل ذلك.
الحقيقة أنك مليء بشكل كبير، وعنادك يزيدك امتلاء، الأنا تملؤك بشكل لا يُمْكنُ معه أن يخترقَك أو يدخل إليك أي شيء! نعم إن أبوابك مغلقة، ولا يمكن فتحها إلا عندما تَختفي أناك المزيفة، وعندما تفتح أبواب عالمك الداخلي لتُصبح مثل السماء اللانهائية الواسعة. هذه هي طبيعتك وهذا هو عالم الداو.
قَبْلَ أَنْ نبدأ بالحديث عن الحكم الرائعة الموجودة في المركبِ الفارغ للحكيم تشجوان تزي ، أوَدُّ أَنْ أَرْوي لكم قصّةَ أخرى، لأنها ستَضعُ اتجاها لمعسكر التأمل الذي تشاركون فيه.
يقولون أنه في يوم من الأيام في قديم الزمان، في بَعْض البلادِ المجهولةِ البعيدة، فقد الأمير عقله فجأة، وكان أبوه الملك متضايقا جدا وحزينا عليه، فقد كان الأمير ابنه الوحيد، ولذلك استدعى كل السحرة، وصناع الخوارق والأطباء الذين حاولوا فعل كل الأشياء الممكنة، ولكن كل جهودهم كانت دون جدوى وباءت بالفشل. لم يستطع أحد أَنْ يُساعدَ الأميرَ الشابَ الذي بقي مجنوناً.
في ذلك اليوم الذي فقد الأمير فيه عقله، طرح ملابسه وبقي عاريا، واستلقى تحت منضدة كبيرة وأعلن أنه يريد العَيْش هناك. لقد كان يعتقد بأنه ديك، وفي النهاية كان لا بُدَّ للملك من أنْ يَقْبلَ حقيقة أنه لا يمكن تطبيب الأمير وأنه لا أمل في شفائه، وأنه سيبقى مجنوناً بشكل دائم، وأن محاولات كل الخبراء فاشلة.
ولكن في يوم مشرق انبعث الأمل من جديد، حيث طرق أبواب القصر الملكي شيخ متصوف، وقال: "أعطوني فرصة واحدة لمُعَالَجَة الأمير."
كان الملك يشك في الأمر ويشتم منه شيئا مريبا، لأن هذا الشيخ في ظاهره كان يشبه المجانين، بل إنه ليظهر أكثر جنوناً مِنْ الأمير. لكن الحكيم الصوفي قال، "أنا فقط يُمْكِنُ أَنْ أُعالجَه. لأنه لمُعَالَجَة مجنون نحتاج لمجنون أكثر منه. وكل الشخصيات المهمة، وصناع الخوارق والأطباء فشلوا لأنهم لا يَعْرفون ألف باء الجنون، ولأنهم لم يقوموا أبدا بأية خطوة على طريقه.
كان هذا الأمر منطقيا ففكر الملك: "ليس هناك أذى ولن يصبح الأمر أكثر سوءا مما هو عليه الآن فلم لا نقوم بالمحاولة؟ " وهكذا أُعطي الحكيم الصوفي فرصة للتجربة، وفي تلك اللحظة التي قال فيها الملك: "موافق، عليك بالمحاولة " طرح الصوفي ملابسه، وقَفزَ تحت المنضدة وبدأ يصيح مثل الديك.
استغرب الأمير وسأله: "مَنْ أنت؟ ولماذا تصيح مثل الديك؟ "
فأجاب الرجل العجوز: "أَنا ديك، وبالمناسبة أنا أكثر تجربة منك. أنت لا شيء في الحقيقة، وجديد على هذه الصنعة، وربما تصبح في أحسن أحوالك تلميذ لي." فقال الأمير: " الأمور بخير إذا كنت أنت أيضاً ديك، ولَكنَك تَبْدو مثل الناس!."
فأجابه الرجل العجوز: "لا تلق بالا للمظاهر الخارجية، انظر إلى روحي وداخليتي، أَنا ديك مثلك."
أصبح الحكيم الصوفي والأمير أصدقاء. وأقسموا لبعضهم بعضا أن يعيشوا سويا ويقاوموا هذا العالم الذي لا يحب الديوك.
وبعد مضي عدة أيام، بدأ الرجل العجوز فجأة باللِبس،وبعد أن لبس القميص سأله الأمير متعجبا: "ما الذي تفعله؟ هل جننت، الديك يُحاولُ اللباس كالناس؟"
فأجاب الرجل العجوز مقاطعا: "أَنا أُحاولُ فقط أن أخدع هؤلاء الحمقى، الذين يسمون أنفسهم بشرا. وتذكر بأنه إذا كنت في ثيابي أو بدونها فهذا لايغير أي شيء، لأن الديك الذي في داخلي سيبقى دائما معي ولن يستطيع أي أحد أَنْ يُغيّرَه. هل تظن أنني عندما ألبس مثل الإنسان فسأتغير؟" وافق الأمير على ذلك.
بعد بضعة أيام أقنع الرجل العجوز الأمير بأن يلبس لأن الشتاءَ كَانَ يَقتربُ وأصبح الجو أكثر برودةَ.
ثمّ بعد فترة فجأة طلبَ الحكيم الصوفي غذاءاً مِنْ القصر. فارتعب الأميرُ جداً وصاح به: "ماذا تفعل أيها التعيس؟ هَلْ تريد ان تَأكل مثل المخلوقات البشرية؟ نحن ديكةَ ويَجِبُ أَنْ نَأْكلَ مثل الديكةِ."
فأجاب الرجل العجوز: "بالنسبة إلي لافارق ولا إختلاف، أنت يُمْكِنُ أَنْ تَأْكلَ أيّ شئَ، ويُمْكِنُ أَنْ تفعل أي شيء يعجبك، حتى إنه يمكنك أَن تَعِيشَ مثل الناس وتَبقى وفيا لطبيعة الديك الموجودة في داخلك."
وهكذا خطوة خطوة أقنعَ الرجل العجوزُ الأميرَ بالرُجُوع إلى عالمِ الإنسانيةِ. حيث أصبحَ وضعه طبيعي بشكل مطلق.
هذه نفس الحالة بيني وبينكم. تذكروا أنكم مبتدئون فقط وجدد في هذا الطريق. أنت قَدْ تَعتقدُ بأنّك ديك لكنَك تَتعلمُ عندي الأبجديةَ. أَنا خبير، وأنا فقط يُمْكِنُ أَنْ أُساعدَك. كُل الخبراء فَشلوا في علاجك، فلذلك أنت هنا. لقد طرقت الكثير من الأبوابِ في حياتك، لقد قضيت الكثير من الوقت في البحث ولم يستطع أي أحد مساعدتك.
ولكنِي أَقولُ مقتنعا أنني يُمْكِنُ أَنْ أُساعدَك لأنني لستُ خبيراً ولا مختصا، ولا انسانا غريباً عنك. لقد كنت مسافرا على نفس الطريق الذي تسلكه، ومررت بنفس طريق الجنون الذي تمر به، لقد مررتُ من خلال نفس البؤس والألم والعذاب الذي تعاني منه الآن لقد مررت بنفس الكوابيس الليلية. ومهما فعلت معك فإن ذلك لإقناعك بالتخلص مِنْ جنونِكَ.
عندما تعتقد أنك ديك فهذا جنون؛ وعندما تعتقد أنك جسد فهذا جنون أيضاً وبشكل أشد وأقوى من الاعتقاد الأول. عندما تعتقد أنك ديك فهذا جنون؛ ولكن اعتقادك بأنك إنسان (كجسد فحسب) جنون أعظم، لأنك لا تتنتمي للشكل الخارجي. فليس هنالك فارق أن تكون ديكا أَو إنسانا بالشكل، هذا كله دون معنى لأنك تنتمي إلى عالم الحقيقة الكاملة الواحدة حيث لا شكل ولا مادة ولا مظاهر خارجية. وعندما تصر أن تكون أي شكل خارجي فهذا سيؤدي بك إلى الجنون. أنت لاتنتمي لعالم الجسد ولاتنتمي إلى عرق معين ولا إلى مذهب معين، أنت لا تَنتمي إلى أيّ اسم. ومالم تُصبحُ بلا اسم وبلا شكل، فلنْ تَكُونَ صحيحا من الناحية النفسية.
الصحة النفسية تعني التحرك إلى الشيء الطبيعي، التحرك إلى أهم شيء فيك، إلى الشيء المختفي داخلك وراء شكلك الخارجي. هذا الأمر يتطلب جهدا كثيرا لأن قطع الصلة مع الشكل الخارجي ورميها شيء صعب جداً، لأنك متعلق جداً بهذا الشكل الخارجي ومتحد بشكل شبه كامل معه.
معسكر التأملِ هذا موجود لإقناعك بأن تسعى إلى عالم اللا شكل، لتعليمك أن تكون خارج الصيغ المختلفة، لأن أي صيغة تعني الأنا المزيفة: حتى الديك يملك أنا مزيفة، والإنسان عنْدهُ أنا مزيفة. فكل صيغة أو شكل تتمركز في الأنا، أما العالم الذي يفتقد الصيغة والشكل فهو يعني اختفاء الأنا، وهذا يعني أن مركزك ونقطتك الوسطى الأساسية في كل مكان أَولا تنتمي لعالم المكان. هذا محتمل مع انه يبدو شبه المستحيل ولكن هذا ماحدثَ لي. وعندما أَتكلمُ عن ذلك فأنا أَتكلّمُ من خلال تجربتي.
حيثما كنت أو ستكون فقد كنت أنا هناك، وحيثما كنت أَنا فأنت يُمكنُ أَنْ تَكُونَ هناك. انظر إلي بعمق قدر الإمكان وستشعر بي بشكل عميق وستشعر أنني مستقبلك وفرصتك المتاحة.
حينما أَقولُ إستسلم لي، فهذا يعني الإستسلام لهذه الإمكانية واستخدام هذه الفرصة حيث يُمْكِنُ أَنْ تُعالجَ، لأن مرضَكَ هو مجرد فكرة. الأمير أصيب بالجنون لأنه وحد نفسه مع فكرة أنه ديك. كُل شخص منا مجنون، مالم يفهم بأنّه ليس متحدا مع أيّ شكل أو صيغة، وعند ذلك يصبح الشفاء النفسي أمرا ممكنا.
لذلك الشخص العاقل لنْ يَكُونَ أي أحد بشكل خاص، ولن يملك أي شكل او صيغة، ولا يُمكنُ أَنْ يكُون أو يملك. الشخص المجنون يُمكنُ أَنْ يَكُونَ أحدا ما - سواء ديكا أَو إنسانا أو رئيسا لشركة، أَو أي أحد آخرمطلقاً. الشخص العاقل يشعر باللاجسدية وهنا يكمن الخطر الرئيس.
لقد أتيت لعندي كأحد ما، أو لاأحد ولكن إذا سمحت لي وأعطيتني فرصة، فستصبح لاأحد أو سيختفي هذا اللاأحد. كل الجهود موجهة لجعلك لاأحد، ولكن لماذا؟ لماذا الطموح بان تصبح لا أحد؟ لأنه مالم تُصبحُ لا أحد، فلن تستطيع الاستمتاع بالسعادة الروحية، مالم تحصل على ذلك فلن تذوق النشوة الحقيقية، مالم تُصبحُ لا أحد فالبركة ليستْ لك- أنت تَستمربانفاق عمرك الغالي هباء.
في الحقيقة انت لاتحيا، أنت تَجر نفسك ببساطة، أنت تَحْملُ نفسك كعبء ثقيل وتتجه نحو القبر، معانيا من لحظات الألم الكثيرة، ولحظات اليأس والحزن الأكثر، وليسَ هناك ولو شعاع واحد منْ نعمة السعادة، ليس لشيء إلا لأن هذا الشعاع لايَستطيعُ العبور إليك. إذا كنت أحدا ما، فأنت مثل كتلة صلبة مِنْ الحجارةِ، لايُمْكِنُ أَنْ يَخترقها أي شيء ليدخل فيها. عندما تكون لاأحد فستبدأ ثقوب صغيرة بالظهور لتكبر فيما بعد وتسمح للنور بالعبور إلى عالمك الداخلي. عندما تكون لاأحد، فأنت فارغ، شفاف، ويمكن لكُل شيء أَنْ يعْبرمن خلالك، لأنه ليس هنالك عائق يمانع ذلك وليس هنالك مقاومة.
أنت الآن تشبه الحائط، والحائط في داخلك يعْني هذا ال (أحد)، أما عندما تصبح بابا مفتوحا فأنت لاأحد. الباب يعني الفراغ، حيث يمكن لأي شخص أو شيء أن يَعْبر، بدون ان يشعر بالمقاومة، أو الموانع، او بوجود شخص ما. أنت مجنون، أنت لا أحد. وهكذا ستُصبحُ صحيحا من الناحية النفسية للمرة الأولى.
ولكن المجتمع المحيط بنا وأنظمة التعليم والحضارة والثقافة، كلها تزرع في داخلك هذا (الأحد) وتساعدك أَنْ تصبح أحدا ما من الشخصيات المهمة. فلذلك أنا أَقول: أن الدين ضد الحضارة، والتعليم، والثقافة، لأن الدين مع الفطرة ومع عالم الداو.
كُلّ الحضارات ضد الفطرة الطبيعية للإنسان، لأنها تطمح أن تجعل منك إنسانا مهما بشكل خاص. وكلما تبلورت شخصيتك في هذه الشخصية المهمة كلما تناقص قسط الربانية الذي يمكن أنْ يمر إليك.
أنت تَذْهبُ إلى المعابد، والكنائس، وإلى رجال الدين، ولكنك هناك أيضاً تبحث عن طريقة لتصبح شخصا ما مهما في العالم الآخر، إن التفكير الغارق في دوامة الطموحات وتحقيق النجاح يمشي في أثرك ويتبعك كظلك. وحيثما تذهب فسيكون تفكيرك حائما حول فكرة الربح والنجاح، والحصول على شيء ما. إذا جاء أحد منك إلى هنا ليحقق واحد من هذه الأهداف فليسافر وكلما كان سفره أسرع كلما كان أفضل له، عليه أن يهرب مني بأسرع ما يمكن، لأنني لا أَستطيعُ مُسَاعَدَتك لتصبحَ شخص ما.
أنا لستُ عدوكَ. ولكن أنا يمْكنني أن أُساعدُك لكي تصبح لاأحد. أنا أستطيع دفعك للسقوط في الهاوية، في واد بلا قعر. أنت لن تحصل معي على أي شيء، أنت ستذوب ببساطة. أنت ستسقطُ وتَسقط وتذوب، وفي تلك اللحظة عندما تذوب بشكل كامل فسيشعر كل وجودك الدااخلي بالنشوة، وسيحتفل الوجود كله بهذا الحدث.
بوذا وصل إلى هذا، وأنا أستعمل فعل "وصل" لغويا، لأنه ليس هنالك كلمة تعبر عن الفعل بشكل أحسن، ومع ذلك فهي كلمة غير جيدة ولا تعبر عن الشيء الحقيقي، لأنه لم يكن هناك وصول ولا حصول على شيء ما، ولكنك توصلك لفهم ماذا أقول. نعم لقد وصل بوذا إلى هذا الفراغ، هذا العدم. لقد جلس بوذا صامتا لإسبوعين، لأربعة عشر يوم بشكل مستمر، لايتحرك، لا يقول أي شيء، ولا يعْمل أي شئ
يقال بأن العالم العلوي قد فرح بهذا الحدث، فمن النادر أن يحدث لشخص ما أن يصبح فراغا كليا، لقد شعر كل وجوده بالسعادة والفرح وعند ذلك أتته الملائكة الربانية وسجدوا له وقالوا: "عليك أن تقطع صمتك وتحدث من حولك عن الشيء الذي وصلت إليه. ضحك بوذا وأجاب: "أنا لم أصل إلى أي شئ، بالعكس لقد أضعت "بسبب هذا التفكير الذي يحاول دائماً أَن يصل لشيء" كل شيء.
أنا لم أصل إلى أي شئ، ولم أحصل على أي شيء بل بالعكس، لقد اختفى من كان يريد الوصول. لقد اختفيت للأبد ولاحظوا كم من الجمال يحتوي اختفائي، لقد كنت بائسا عندما كنت موجودا، وعندما اختفيت وفنيت، غمرت السعادة كل شيء وفاضت النشوة واستمرت تنهمر بشكل غير منقطع عليّ، وعلى كل شيء حولي. لقد اختفى البؤس والعذاب إلى الأبد."
قبل ذلك كان بوذا يقول: الحياة بؤس وعذاب، الولادة بؤس، والموت شقاء وكلّ شيء يمتلئ بالبؤس. نعم هكذا كان لأن الأنا المزيفة كانت مازالت موجودة، ولأن مركبه لم يكن فارغا. أما الآن فالمركب فارغ، ولم يعد هناك بؤس ولا حزن ولا عذاب، وأصبح الوجود كله كما لو أنه يحتفل بالعيد احتفالا لانهائيا إلى الأبد.
لذلك أنا أَقولُ أن قدومك إلي شيء فيه خطر، وأنك قمت بخطوة مليئة بالمغامرة. إذا كنت شجاعا، فستكون جاهزا للقفز في الهاوية.
كل الجهود موجهة لقتلك، كل الجهود موجهة لتهديمك وتحطيمك. وعندما تتهدم فسيظهر الشيء الداخلي الذي لا يمكن هدمه، هذا الشيء موجود الآن في داخلك بشكل مختف. عندما نقتلع جذور الأشياء غير المهمة في عالمك ونفسيتك فستعود للحياة وتعود شعلتك للتوقد واصلا إلى الاحتفال المطلق.
هذه حكمة رائعة للحكيم تشوجوان تسزي، فهو يشبه الرجل الحكيم بالمركب الفارغ.
هكذا يكون الرجلُ الكامل، مركبه فارغ، حيث لاأحد في الداخل
عندما يصادفك الحظ وتجتمع مع إنسان رباني كالحكيم تشجوان تزي، أو الحكيم لاو تزي، أو حتى معي، فسترى أن هناك مركب، ولكنه فارغ ولا أحد فيه. إذا نظرت ببساطة إلى السطح، فسيخيل إليك أنه هناك شخص ما، لأن المركب موجود ولابد من وجود من يقوده. ولكن إذا نظرت بانتباه أكبر، واقتربت بشكل حقيقي إلي، ناسيا عالم الجسد، وأن هناك مركب، فستقترب للقاء العدم.
الحكيم تشجوان تزي ازدهار نادر، لأنه من الصعب أَنْ يُصبحَ الإنسان "لا أحد"، ومع ذلك فهو شيء ممكن ومن أكثر الأشياء العجيبة في العالم.
التفكير العادي يريد بنهم أن يكون شيئا استثنائيا، هذه الأمنية هي جزء من بساطته ودليل على عموميته. نعم أنت تستطيع أن تُصبح الكسندرالمقدوني، ولَكنك ستَبقى انسانا عاديا مشوها، فمن سيكون غير عادي إذن؟ إن الشيء غير العادي والروعة تَبدأ فقط عندما لا تريد ولا تتمنى أن تصبح انسانا غير عادي، هنا تبدأ الرحلة وتبدأ البذور الجديدة بالعطاء والتفتح على شكل نبات جديد.
هذا الذي يعنيه الحكيم تشجوان تزي عندما يقول أن الرجل الكامل يشبه المركب الفارغ، وهذه الكلمات تحمل أوجها عديدة ومعاني كثيرة: فالمركب الفارغ أولا، لا يطمح للوصول إلى أي مكان، وهو لا يملك هدفا، لأنه ليس هناك من يوجهه أو يقوده للتوجه إلى مكان ما. المركب الفارغ موجود ببساطة دون أن يتوجه إلى أي مكان، وحتى عندما يَتحرك فحركته غير موجهة إلى أيّ مكان.
عندما يختفي التفكير تبقى الحركة، ولَكنها لَنْ تكون موجهة. أنت تتحرّكُ، وتَتغيّرُ، وتَكُونُ شبيها بتدفق النهر، ولكن لا تطمح للذهاب إلى أيّ مكان، ولا يكون لك أي هدف منظور. الرجل الكامل يعيش بدون أمنيات، ويتحرك ولكن بدون أيّ غرض، وبدون أي دافع. إذا سألت الرجل الكامل: "ماذا تفعل؟ " فسيهز كتفيه ويجيبك: "لا أَعْرفُ، لكن هناك شيء ما يحدث." إذا سألتني لماذا أَتحدث معكم الآن فسأجيب : "اسأل الزهرةَ لماذا تُزهر وتتفتح." هذا يَحْدثُ، وهو شيء لا يمكن توجيهه، لأنه ليس هناك من يؤثر على الوضع، لأن المركب فارغ. عندما يكون لك غرض أو هدف فسَتَكونُ بائسا بشكل دائم، هل تعرف لماذا؟
عندما سَألَ الناس ذات مرة رجلا بخيلا بشكل لا يوصف: "كيفَ نَجحتَ في تَجميع هذه الثروة الكبيرة؟ " أجاب موضحا: "بفضل شعاري: كل شيء يمكن أن يُفعل غداً افعله اليوم، وأجل متعة اليوم إلى الغد. هذا كانَ شعارَي." هذا الإنسان كان ناجحا في تَجميع ثروة طائلة، والناس جميعا هكذا ينجحون في تَجميع كل أنواع الهراء!
لقد كان البخيل بائسا أيضا، لأنه من جهة نجح في تجميع الثروة والنقود، ولكنه من ناحية أخرى نجحَ في تَجميع البؤس. إن الشعار الذي استخدمه لتَجميع المال، يُستخدم أيضا لتَجميع الشقاء: "كل شيء يمكن عمله غدا،ً اعمله اليوم، الآن مباشرة، لا تؤجله. وكل شيء يعطي السرور والسعادة الآن لا تفعله، لا تتمتع أبدا الآن، وأجل ذلك ليوم غد".
هذه طريقة رائعة للدخُول في الجحيم، مع أنها طريقة توصل الإنسان للنجاح دائماً، ولم يسبق أَن فشلت. نعم بامكانك أن تحاول تطبيق هذه الطريقة وستصل إلى النجاح، بل ربما كنت تستعملها دون أن تعي ذلك فوصلت إلى النجاح بعد أن أجلت كل ما يمْكِن أن يُشعرك بالسعادة والمتعة إلى الغد.
لهذا السبب أراد اليهود صلب عيسى وليس لسبب آخر، فالمسألة لم تكن أنهم ضده، فقد كان السيد المسيح رجلا كاملا رائعا، فلماذا كان على اليهود أن يفكروا بصلبه ويكونوا ضدّه؟ بالعكس، لقد كانوا ينتظرونَ هذا الرجل. لقد كانوا يأملون لقرون وينتظرون، متى يجئ المسيح المنتظر؟
وبعد ذلك كله فجأة هذا المسيح يعلن: "أَنا المسيح المنتظر الذي تنتظرونه، لقد أتيت الآن، انظروا إلي."
لقد انزعج القوم، لأن التفكير يُمْكِنُ أَنْ يَنتظرَ، وهو يستمتعُ بالانتظار دائماً، ولكنه لا يَستطيعُ مُوَاجَهَة الحقيقةِ وجها لوجه، ولا يَستطيعُ مقابلة اللحظة الراهنة.
لقد كان من الممكن أن يُؤجّلَ هذا الأمر دائماً وبكل سهولة، المسيح المنتظر سَيأتي قريباً، نعم لقد أصبح موعد قدومه قريبا. لقد انشغل تفكير اليهود لقرون عديدة بذلك وكانوا يَعتقدونَ بذلك ويُؤجّلون، وفجأة أتى هذا الرجل ليُحطمَ كُل آمالهم ويُعلن: "أَنا هنا" لقد تزعزع تفكيرهم وكان لابد أن يفكروا بقتله، لكي يستطيعوا متابعة العيش مع الأمل في يوم غد.
لقد أعلن الكثيرون ولَيس فقط السيد المسيح منذ ذلك الحين: "أَنا هنا، أَنا صاحب رسالة " وكان اليهود دائماً ينكرونه، لأنهم لو اعترفوا به فلن يقدروا على الأمل بيوم غد ولن يتمكنوا من التأجيل! لقد كانوا يعيشون مع هذا الأمل الذي كان يتوهج في تفكيرهم، وكانوا يعتقدون بإيمان عميق يصعب تصديقه! لقد كان من اليهود من يَنَام في الليل وكله أمل بأن هذه هي الليلة الأخيرة، وفي الصباح سيأتي المسيح المنتظر!. . . .
لقد سمعتُ عن حبر كان يقول لزوجته: " إذا ظهر المسيح المنتظر في الليل فلا تنتظري ولا ثانية وأيقظيني مباشرة، المسيح يقترب أكثر فأكثر ويمكن أن يظهر في أي لحظة".
وسمعتُ عن حبر آخر كان ابنه يزمع على الزواج، فأرسلوا الدعوات إلى الأصدقاء، وكَتبوا عليها: "ابني سَيُتزوّجُ في القدس في هذا التاريخ وهذه الساعة، ولكن إذا لم يظهر المسيح المنتظر حتى ذلك الوقت فإن ابني سيتزوج في هذه القرية." من يَعْرف؟ ربما ريثما يأتي يوم العرس يظهر المسيح المنتظر وعند ذلك لن نكون هنا وإنما نكونُ في القدس للاحتفال بقدومه!. وإذا لم يظهر حتى ذلك الوقت فعند ذلك سنكون هنا في هذه القرية.
لقد كانوا يَنتظرونَ ويَنتظرونَ وكلهم أحلام مليئة بالأمل. لقد كان تفكير اليهود مشغولا دائما بالفكرة المتكررة عن قدوم المسيح المنتظر. ولكن عند قدوم المسيح، "أي مسيح على مرور التاريخ" كانوا ينكرونه على الفور. عليكم فهَمَ ذلك جيدا. هكذا يعمل التفكير: أنتم تعيشون في انتظار السعادة والسرور وعندما تأتي تنكرونها وتديرون ظهوركم إليها!!.
التفكير يستطيع أَنْ يَعِيشَ في المستقبلِ، ولكنه لا يَستطيعُ أن يعيش في الحاضر، نحن نستخدم الحاضر لكي نتمنى ونأمل، مما يجعل بؤسنا مستمرا. عندما نبدأ بالعَيْش في هذه اللحظة بالذات، الآن – هنا، فسوف يَختفي البؤس من حياتنا.
ولكن هل يناسب ذلك الأنا؟ الأنا هي التراكمات الموجودة من الماضي، وهي كل ما عرفناه وعشناه وقرأناه وهي كل ما حدثَ معنا في الماضي، كل هذا متراكم في الأنا المزيفة التي تعتبرونها شخصيتكم.
الماضي يُمْكِنُ أَنْ ينعكس في المستقبل، لأن المستقبل ما هو إلا امتداد للماضي ولكن الماضي لا يملك القوة لمُواجهة الحاضر. الحاضر شيء مختلف كلياً، فهو يملك نوعية التواجد في حالة "الآن – هنا"، أما الماضي فهو ميت دائما. الحاضر شيء حي، بل هو منبع الحياة لكُل شيء حي. الماضي والمستقبل لا يَستطيعان مواجهة الحاضر وجها لوجه وهما في الحقيقة ميتان وغير موجودان.
إن أناكَ المزيفة، هي ماضيك، وما لم تُصبح فارغا منها فلن تستطيع أن تَكون "هنا"، وما لم تكن "هنا" فلن تستطيع أن تكون حيا.
كيف تَعرف نعمةَ الحياة وسعادتها التي تنساب عليك في كل لحظة وأنت تَتجاوز كل ذلك وتمر دون الشعور به؟.
يقول تشجوان تزي: الإنسان الكامل - مركبه فارغ.
ولكن السؤال المركب فارغ من ماذا؟ فارغ من الأنا المزيفة، فارغ من أي شخص في الداخل.
الذي يَحْكمُ الناس يعيش دائما حياة مليئة بالإضطرابات ؛
الذي يحكم الناس يعيش في الحُزن.
لماذا يعيش الذي يَحْكمُ الناس دائما حياة مليئة بالإضطرابات؟ الرغبة بالسيطرة تَجيء من الأنا المزيفة؛ الرغبة بالإمتلاك، وبأن تكون قويا، وأن تؤثر على من حولك تجيء من الأنا. كلما كانت المملكة التي تسيطر عليها وتملكها أكبر كلما كانت الأنا التي تسمح بنموها أكبر. مع ازدياد أملاكك يصبح ال "لاأحد" الداخلي أكبر وأكبر وأكبر. حتى ان المركب كثيرا مايصبح صغيرا جداً لأن الأنا المزيفة تصبح كبيرة لدرجة مخيفة.
هذا هو الشيء الذي يحدث مع السياسيين، ومع الناس المهوسون بالثروة، والسمعة، والسلطة. لقد أصبحت الأنا المزيفة عندهم نامية بشكل كبير، بحيث أن مراكبهم لم تعد تَستطيع حملهم. هؤلاء الناس يعيشون دائما على وشك الغرق، وهم دائما خائفون ويملؤهم الرعب لدرجة مميتة. الحقيقة أنه كلما خاف الإنسان أكثر، كلما أصبح يعتني بالخصوصيات أكثر، لأنه يظن أنه بمساعدة الأملاك أو السلطة يستطيع أن يصل لحالة من الأمن. كلما خاف الإنسان أكثر، كلما أعتقد أن اتساع مملكته يمكنُ أَن يجلب إليه الأمن أكثر وأكثر.
الذي يَحْكمُ الناس يعيش دائما حياة مليئة بالإضطرابات
الحقيقة أن الرغبة في السلطة وأن تكون زعيما للناس تنبع من الاضطراب الداخلي، لأنك عندما تقود الناس، فسيساعدك ذلك على نسيان الاضطراب الداخلي، نعم هذا نوع من الهروب, والخداع، لأن المريض عندما يعتني بمريض آخر فهو ينسي مرضه الخاص.
يقولون أن بيرناردشو اتصل بطبيبه الخاص وقال: "أنا في حالة سيئة لأنني أشعر أن قلبي سيتوقف، تعال فوراً! "
ركض الطبيب وكان لا بد له أن يَصْعدَ الثلاثة سلالم لعند مريضه بشكل سريع مما أدى لتعرقه وتسرع نبض قلبه وفور دخوله لعند المريض ودون أن يتكلم ولا بكلمة سقط على أول كرسي وجده وأغلقَ عينيه. قَفز بيرناردشو من سريره وسأل برعب: "ماذا يحْدث معك؟ " فأجاب الطبيب: "لا شيء لاشيء، يبدو أنني أَموت، وأنني أعاني من نوبة قلبية."
بدأ بيرناردشو بمُسَاعَدَته، وجلب له كأس من الشاي، وبضعة حبوب من الأسبيرين، وفعل كل مافي وسعه أن يفعل. وبعد مضي نصف ساعة، عاد الطبيب لوعيه، وقال فجأة: "الآن علي المغادرة، أرجو أن تعطيني أجري!"
فصاح بيرناردشو: "ياللهول! أنت يجب أَن تَدفع لي! لقد كنت أَركضُ حولك لمدة نصف ساعة، ثم إنك لم تسألني حتى عن صحتي وبماذا أشعر!"
لكن الطبيبَ قال: "لقد عالجتك، هذا هو علاجي لك وعليك أن تَدفع لي أجرتي."
عندما يكون الإنسان مهتماً بمرض شخص آخر فهو ينسى مرضه الخاص، فلذلك نجد هذا العدد الكبير من الزعماء، والمسؤولين والمعلمين الروحيين. لأن ذلك يشغلهم عن مشاكلهم الخاصة. عندما تكون حياتك مليئة بالعناية بالناس الآخرين، وبخدمة الشعب, عندما تكون موظفا للخدمات الإجتماعية، وتكون تساعد الآخرين، فستنسى اضطرابك الداخلي الخاص، وستصبح مشغولا عن عدم الترتيب والفوضى الداخلية في عالمك الروحي.
الأطباء النفسانيون لايصابون بالجنون أبداً، لا لأنهم محصنون ضدّه، ولكن لأنهم مشغولون كثيراً بجنون الآخرين وبمُعالجتهم ومساعدتهم على تجاوز المرض، مما يجعلهم ينسون بالكامل أنهم أيضاً يُمْكِنُ أَنْ يصابوا بالجنون.
لقد تَعرّفتُ على العديد من موظفي الخدمات الاجتماعية، ومع الزعماء، والسياسيون، والمعلمون الروحيون، ووجدت أنهم يبقون أصحاء لأنهم مليئون بالاهتمام بالآخرين.
ولكن عندما تقود الآخرين خلفك، وتجعل نفسك فوقهم، فستكون النتيجة أن اضطرابك الداخلي، سيولد الاضطراب في حياتهم. نعم قد تكون أنت قد تماثلت للشفاء، وقد يكون هذا مخرج مريح لمشاكلك الداخلية ولكنه نشر لمرضك، ونقل للعدوى إلى المحيطين.
الذي يَحْكمُ الناس يعيش دائما حياة مليئة بالإضطرابات
وليسَ هو فقط يعيش بشكل مباشر في الاضطراب، ولكنه يستمر بنشر الاضطراب إلى الآخرين، لأن الاضطراب لا يولد إلا الاضطراب. لذلك عليك أن تذكر دائما عندما تكون في حيرة وتشتت القاعدة التالية: لا تساعد أي أحد، لأن مساعدتَك تتحول إلى سم قاتل. عندما تكون مضطربا فلا تعمل مع الآخرين، لأنك تتحول إلى منبع للمشاكل ويصبح مرضك معديا. لا تَعطي نصيحتك لأي أحد، وإذا كان عندك ولو قطرة من الفهم فلا تَأخذ النصيحة من شخص متحير أو مضطرب.
إبقَ في حالة يقظة وحذر، لأن الناس المضطربون يحبونَ دائماً أن يعطوا النصائح، وهم يعطونها مجانا، ويوزعونها بسخاء وكرم! خذ حذرك! فالاضطراب لا يولد إلا الاضطراب.
الذي يحكم الناس يعيش في الحُزن.
عندما تتعالى على الناس فأنت تعيش في اضطراب، وعندما تسمح للغير بالتعالي عليك فأنت تَعيش في الحزن، لأن الداو تريد:
أن لا نؤثر على الآخرين
ولا أن نصبح متأثرين بسلطتهم.
ليس من الحكمة أن نحاول التَأثير على الآخرين، والأفضل أن نكونَ منتبهين ويقظين لكي لا نقع تحت تأثير الآخرين. الأنا المزيفة ذات مقدرة على التأثر والتأثير ولكنها لا تستطيع البقاء في المنتصف
الأنا المزيفة تحاول التَأثير على الناس مما يجعلها تشعرُ بالارتياح، لأنها تتعالى في ذلك عن المحيط، ولكن يجب أن نتذكر أنّ الأنا المزيفة تشعر بأنها في وضع ليس بالسيء عندما تكون تحت سيطرة شخص أو شيء ما. العبيد يشعرون بالارتياح عندما يخضعون لأوامر سيدهم.
هناك نوعان للتفكير في هذا العالم: التفكير الذي يُحب السيطرة، وهو في الأغلب تفكير ذكري، والتفكير الذي يُحب أن يُسيطر عليه، وهو في الغالب تفكير أنثوي، وعندما أقول أنثوي فأنا لا أقصد النساء فقط وعندما أقول ذكري فأنا لا أقصد الرجال فقط. لأنه هناك نساء ذوات تفكير ذكري، وهناك رجال ذوي تفكير أنثوي.
هذان هما نوعا التفكير: الأول يُحبُّ السيطرة، والثاني يُحبُّ أن يُسيطرَ عليه، وفي كلتي الحالتين تكون الأنا المزيفة في وضع جيد لأنه ليس من المهم أن تُسيطر على أحد أو يُسيطر عليك، المهم هو أنت. فعندما يُسيطرُ عليك شخص ما، فأنت أيضاً شيء مهم، لأن هيمنتَه وسيطرته تَعتمد عليك، فهو بدونك، على من سيسيطر؟ وكيف ستكون مملكتَه، وهيمنته، وامتلاكه؟ فهو بدونك، سيصبح لا أحد.
في كلتي الحالتين تشعر الأنا المزيفة أنها في وضع جيد، لأنها لا تموت إلا في المنتصف. لا تَكن تحت السيطرة، ولا تُحاول السيطرة على أحد.
عليك أن تتخيل ببساطة ماذا سيحدثُ في تلك الحالة التي تصبح فيها غير مهم، وغير ذي قيمة في أية حال، سواء كنت سيدا أو عبدا. السادة لا يستطيعون العيش بدون عبيد، والعبيد لا يستطيعونَ العيش بدون سادة، لأن كلا الطرفين محتاجون لبعضهم البعض، وهم مكملون لبعضهم البعض، كما في حالة الرجل والمرأة يُكمل كل طرف منهما الآخر بشكل أكيد.
عندما لا تَكون لا هذا الطرف ولا ذاك فمَنْ أنت عند ذلك؟ فجأة ستَختفي، لأنه في هذه الحالة أنت غير مهم مطلقاً، ليس هناك أحد مرتبط بك، وليس هناك من يحتاج إليك.
هناك احتياج كبير عند معظم الناس لأن يكون هناك من يحتاج إليه، نعم تذكر دائما أنك تَشعر بالارتياح عندما تكون مطلوبا، وهناك من يحتاج إليك. أحياناً، يجلبُ لك هذا الوضع البؤس، ولكنك رغم ذلك تحاول أن تبقى في وضعية يحتاج فيها أحد ما إليك.
الطفل المشلول الذي لا يستطيع مفارقة السرير، تبقى أمه بشكل دائم قلقة بشأنه وتتسائل ما العمل؟ هي تقول لنفسها دائما يجب أن أخدمَ وأعتني بهذا الطفل، ولكن حياتي تضيع بدون معنى حيث لا أجد المجال لبناء حياتي الخاصة. ولكن عندما يموتُ هذا الطفل، فستشعر الأم أنها ضائعة، وغير سعيدة لأن هذا الطفل كان يحتاجها بشكل شديد، بحيث أصبحت مهمة للغاية.
عندما لا يكون هناك من يحتاجك فمن أنت عند ذلك؟ نحن نطمح دائما لانشاء حالة يكون فيها من يحتاجنا، فحتى العبيد مطلوبون في مستوى معين.
فلذلك الداو لا تريد
أن نؤثر على الآخرين
ولا أن نصبح متأثرين بسلطتهم.
إن الطريق لكي نتخلص من الإضطرابات والحزن
أن نعيشَ مع الداو في عالم الفراغ.
هذه النقطة هي في الوسط وهي أرضُ الفراغ، أو الباب إلى أرض الفراغ، عندما لا تكون موجودا، ولا يكون هناك من يحتاجك، ولست بحاجة إلى أي أحد. أنت موجود كما لو أنك غير موجود. عندما تكون غير مهم فلن تستطيع الأنا بالاستمرار والعناد. فلذلك يستمر كل الناس بالطموح بأن يكونوا مهمين بشكل أو بآخر، وحينما يشعرون بذلك فهم يشعرون بالارتياح، ولكن الحقيقة أن في هذا عذابك وشقائك وحيرتك، وامتداد لجذور جحيمك.
كَيْفَ يمكن أن تتحرر؟ يجب أن تَنظر إلى هاتين النهايتين. بوذا سمى ديانته "الطريق المتوسط"، لأنه لاحظ أنّ التفكير يعيش على طرفي نقيض، ولكن عندما نقف في المنتصف، فسوف يختفي التفكير.
هل رأيتَ رياضيا يمشي على الحبل؟ عندما تذهب في المرة القادمة إلى السيرك حاول أن تراقب الماشي على الحبل، فهو حينما يميل إلى اليسار، يتحرك فوراً نحو اليمين للموازنة، وعندما يشعر بأنه مال كثيراً إلى اليمين، يميل فورا إلى اليسار للموازنة.
من الضروري أن تتحرك إلى الجهة المقابلة وأن تميل إلى الجهة المعاكسة التي تحفظ التوازن. فلذلك يحدث كثيرا أن السادة يُصبحونَ عبيدا، وأن العبيد يصبحون سادةَ، وكثيرا ما يتحول أصحاب السيطرة إلى خاضعين، والخاضعون إلى أصحاب سلطة ونفوذ وهكذا حتى اللانهاية يبقى القانون الشامل هو "العودة إلى التوازن والحفاظ عليه".
هل لاحظت هذا القانون في علاقاتك؟ عندما تكون متزوجا، فهل أنت حقا "زوج" في مدة الأربع وعشرين ساعة؟ إن لم تلاحظ ذلك فأنت قليل الانتباه، ففي مدة الأربع وعشرين ساعة، يحدثُ التغير أربع وعشرين مرة على الأقل، حيث تصبح الزوجة هي الزوج ، والزوج هو الزوجة أحيانا، ثم يعود الزوج ليكون زوجا والزوجة زوجة في أحيان أخرى.
وهكذا يستمر التَغير من اليسار إلى اليمين، ومن اليمين إلى اليسار، وتستمر الحياة كالذي يمشي على حبل مشدود، عليه أن يُحافظ على التوازن. وتستمر عملية الحذر والحفاظ على التوازن بين الزوجين بشكل مستمر، دون أن يسمح أحدهما للآخر بخرق هذا القانون وتجاوزه لكي لا تتحطم العلاقة ثم تتوقف.
عندما لا تكون في وضعية البهلوان الذي يمشي على الحبل فمن الصعب أن تلاحظ كيف يبقى في توازن مستمر في المنتصف، بدون أن يميل إلى اليمين ولا إلى اليسار. لقد كان المشي على الحبل في جبال التبيت يُستعمل للتأمل، لأنه في المنتصف، وعند التوازن يختفي التفكير. وهو يعود إلى التواجد والظهور عندما تَميل إلى اليمين، محذرا إياك: "وازن، عليك بالميل إلى اليسار."
عندما تظهر المشكلة، يظهر التفكير. وعندما لا يكون هناك مشاكل، لا يستطيع التفكير أن يظهر؟ عندما تكون في المنتصف بشكل ثابت ومتوازن كلياً، لن يكون هناك تفكير. الموازنة تَعني اختفاء التفكير.
لقد سمعتُ عن أم كانت قلقة جدا بشأن ابنها، الذي بلغ عشر سنوات ولم يتكلم حتى الآن ولا كلمة واحدة. لقد حاول الأطباء بكل جهدهم إيجاد السبب ولكنهم فشلوا في ذلك وقرروا: "كل شيء على ما يرام، إن وضع الدماغ عادي، والجسم ينمو بشكل جيد، وليس هنالك أي نقص فيزيائي، إن الطفل يتمتع بصحة جيدة ونحن لا نستطيع أن نفعل شيئا تجاه حالته، نعم لو كان هنالك شيء خاطئ، كان من الممكن أن نفعل شيئا."
وبينما كانت حالة الصبي مستمرة هكذا بدون كلام، إذا به فجأة، في صباح أحد الأيام يتكلم ويقول: " أمي، حلاوة السميد هذه مالحة جدا، ولا يمكن أكلها."
لم تستطع الأمّ أن تصدق ما تسمعه أذناها، وصرخت بتعجب وقالت: "ماذا! هل تَتكلم؟ وتنطق بهذا الشكل الجيد! لماذا كنت صامتا دائماً؟ لقد حاولنا إقناعك بكل جهدنا ولكنك لم تتَكلم ولا كلمة."
أجاب الطفل:"كل شيء كان على ما يرام ولكن هذه المرة الأولى التي تكون فيها الحلاوة مالحة."
إذا كان كل شيء على ما يرام فلماذا يجب أن نَتكلم؟
الناس يأتون لعندي ويُبدون ملاحظتهم: " أنت تَستمرُّ بالكلام كل يوم" فأجيب: " نعم، لأن الكثير من الناس الذين يمشون على الطريق الخطأ مازالوا يستمرونَ بالمجيء إلى هنا. هناك الكثير من الأشياء الخاطئة مما يضطرني للكلام، إذا كان كل شيء على ما يرام فليس هنالك حاجة للكلام. أنا أَتكلم بسببك، لأن حلاوتك مالحة جدا."
التفكير يختفي عندما يصل للمنتصف بين أي طرفين أَو قطبين. حاول بنفسك المشي على الحبل فهو تمرين رائع جميل، وهو أحد الطرق الدقيقة للتأمل. ليس هنالك حاجة لأي شيء آخر، أنت يُمْكِنُ أَنْ تراقب نفسك أو تُراقب غيرك وهو يمشي على الحبل وسوف ترى كيف يحدث كل هذا.
يجب أن نتذكر أن التفكير يتوقف على الحبل، لأن الإنسان يشعر بالخطر، وفي تلك اللحظة التي يعمل فيها تفكيره نراه يسقط.
الماشي على الحبل لا يستطيع التفكير، لأنه عليه أن يكونَ يقِظَا في كُلّ لحظة، ويجب أن يحافظ على التوازن بشكل مستمر. الماشي على الحبل لا يستطيعُ الشعور بالأمان، لأنه ليسَ آمنا، وهو لا يَستطيعُ الشعور بأنه محمي، لأنه ليسَ محميا، الخطر موجود دائماً وأي اختلال في التوازن في أيّ لحظة يعرضه للسقوط حيث ينتظره الموت لا محالة.
عندما تمشي على الحبل فستجد شيئين: يتوقف التفكير لأن هنالك خطر، وحينما تَكون في المنتصف بشكل أكيد بدون ميل إلى اليسار ولا إلى اليمين، فسوف تلاحظ أن هناك صمت عظيم يتنزل عليك، صمت لم تكن تتوقع وجوده سابقا قبل ذلك. وهكذا يحدثُ في كل شيء، كل الحياة عبارة عن مشي على الحبل.
لذلك رغبت الداو أن نبقى في المنتصف، وأن لا نكُون مسيطرين أو تحت السيطرة، وأن لا نكُون زوج ولا زوجة، وأن لا نكُون سيدا ولا عبدا.
إن الطريق لكي نتخلص من الإضطرابات والحزن
أن نعيشَ مع الداو في عالم الفراغ.
في المنتصف، يفتحُ الباب إلى أرض الفراغ. عندما لا تكون موجودا، يختفي العالم بأكمله، لأن العالم المحيط بك يعتمد عليك، نعم كل العالم الذي أنشأته حولك يعتمد عليك، واختفاؤك يعني زواله بأكمله.
أنا لا أقول أن الحياة تذهب في عالم اللاوجود، ولكن العالم المحيط يختفي وتظهر الحياة. هذا العالم الذي نُنشؤه بأفكارنا يذهب وتبقى الحياة الحقيقة في حيز الوجود.
هذا البيت سَيَكُونُ موجودا، ولكنه لن يَكُونَ لك. هذه الزهرة سَتَكُونُ موجودة ولكنها سَتُصبحُ بلا اسم. هذه الوردة لن تكُون جميلة ولا قبيحة. الزهرة ستكُونُ موجودة، ولكن وجودها لن يحفز أية تعاريف أو مفاهيم في تفكيرك. سيختفي كل الهيكل التصوري لتفكيرنا. وستبقى الحياة بدون الأصباغ التي نضعها عليها، عارية عن تصوراتنا، بريئة عن أوهامنا، نظيفة صافية كانعكاس لهذا الوجود، ولكل هذا الكون المحيط. في أرضِ الفراغِ تختفي كل المفاهيم، والتخيلات، والأحلام.
إذا كان الرجل يَعْبرُ النهر
واصطدم مركب فارغ بزورقه الصغير الخاص
فلو أنه كان رجلا سيّئ الطباع
فهو لَنْ يكون غاضبا جداً.
ولكنه لو رأى رجلا في ذلك المركب،
فسيصرخ حتما عليه بأن يقود بشكل أحسن
وإذا لم يكن صياحه مسموعا فسيصرخ من جديد
وسيصرخ ثانية ثم يبدأ بإمطار ذاك الرجل باللعْنات
وكُلّ ذلك لأنه هناك شخص ما في ذلك المركب.
على الرغم من أنه لو كان المركب فارغا،
فلم يكن ليصيح،
ولم يكن ليغضب.
عندما يستمر الناس بالاصطدام بك والشجار معك، عندما يكون الناس غاضبين منك، تذكر أن هذا ليس خطأهم، وأن هذا يعني أن مركبك ليسَ فارغا. الناس غاضبون لأنك مازلت موجودا. أما عندما يكون المركب فارغا، فهم سيبدون كالحمقى، لأن توجيه الغضب على المركب الفارغ يدل على جهل وحماقة كبيرين.
أحيانا يغضب الناس القريبون جدا مني والحقيقة أنهم يبدون في غضبهم حمقى جداً! عندما يكون المركب فارغ، فقد تستمتع بغضب الآخرين، لأنه ليس هنالك من يغضبون منه، نعم هؤلاء لم ينظروا هل يوجد الشخص الذي يسلطون عليه غضبهم أم لا!
تذكر أنه عندما يستمر الناس بالاصطدام بك والشجار معك، فهذا يعني أنك موجود أكثر من اللازم، وأنك حائط صلب لا يمكن عبوره. يجب أن تكون بابا، ويجب أن تصبح فارغاً، وأن تترك الناس يعبرونَ من خلالك.
ومع ذلك سيكون الناس غاضبون منك أحيانا، الناس يحنقون ويصبون غيظهم حتى على بوذا، لأنه هناك أناس حمقى لا ينظرون عند اصطدام مركبهم بمركب فارغ، ليستوضحوا هل هناك شخص ما فيه أم لا. هؤلاء يبدأون بالصراخ، لأنهم مستاؤون جدا ضمن أنفسهم على كل شيء، وغير قادرين على رؤية هل هناك شخص أمامهم أم لا.
وفي هذه اللحظات المركب الفارغ يستطيع أن يستمتع بكل ما يجري، لأن الغضب لايمسه، ولا يخصه، ولا يجرحه، أنت غير موجود فمن الذي سينجرح؟
في الحقيقة إن رمز المركب الفارغ جميل جداً. الناس يغضبون لأنك موجود أكثر من اللازم، لأنك ثقيل وصلب جداً بحيث لا يستطيعونَ العبور من خلالك. الحياة متشابكة وتربطك مع كل شيء حولك، وعندما تكون موجودا أكثر من اللازم فسوف يحدث الاصطدام وينشأ الغضب والكآبة والعدوانية والعنف في كل مكان، وسيستمر النزاع.
عندما تلاحظ أن شخصا ما غاضب منك، أَو تراه وقد اصطدم بك، فأنت تَعتقد دائماً أنه المسؤول وأن الوزر يقع عليه. هكذا يصنع جهلنا النتائج ويفسرها معلنا دائماً: "هو المسؤول وهو الظالم!" الحكمة تقول دائماً: "إذا كان هنالك شخص مسؤول عما يحدث، فهو أنا، والطريقة الوحيدة لمنع الاصطدام هي أن لا أكون موجودا."
"أَنا مسؤول" لا تَعني أنني فعلت شيئا أثار غضب من حولي، لا إن الأمر ليس كذلك.
قَد لا تَعْملُ أيّ شيء، ولكن مجرد حقيقة أنك موجود كافية لإثارة غضب الناس. المشكلة ليست أن تفعل شيئا جيدا أو سيئا، المشكلة في أنك موجود.
هذا هو الإختلاف بين الداو والأديان الأخرى. الأديان الأخرى تَقول جازمة: "كن جيداً، وتصرف بحيث لا يغضبُ أحد منك" أما الداو فيقولُ: "لا تَكن".
المشكلة ليست في أنك تَتصرف بشكل حسن أو بشكل قبيح، المشكلة ليست في ذلك. لأن الرجل الجيد، حتى الرجل القديس قد يولد الغضب، لأنه موجود. أحياناً قد ينشأ الرجل الجيد غضبا أكبر من الرجل السيئ، لأن الرجل الجيد يعني رجل أناني ولكن بشكل دقيق لايمكن ملاحظته. الرجل السيئ يشعر بنفسه مذنبا، نعم قد يكون مركبه ممتلئا، ولكنه يشعر بالذنب ويفهم أنه سيئ. في الحقيقة مثل هذا الإنسان لايشغل مكانا كبيرا على المركب، لأن شعوره بالذنب يُساعدُه على الإنكماش. أما الرجل الجيد فهو يشعر بأنه جيد بحيث يملأ المركب بالكامل،وقد يزيد عنه.
لذلك حينما تكون بقرب رجل جيد، فأنت ستَشعر بأنك تتعذب دائما، ومع أنه لايقوم بتعذيبك إلا أن وجوده يعذبك جدا. مع الناس الجيدين بين قوسين ستشعر بالحزن دائماً، وستفضل أن تَتفاداهم، لأن التواجد معهم مسألة ثقيلة جداً، حيث أن التحادث معهم يجعلك تشعر بعدم الإرتياح، والَضغط الداخلي، وستحاول أن تَتركهم بأسرع ما يمكن.
الفلاسفة الأخلاقيون، المستقيمون، فاعلوا الخير كلهم ثقيلون، وهم يجلبون عدم الارتياح والضغط النفسي لكل من حولهم، ملقين بظلال مظلمة كثيفة حولهم، ولايمكن لأحد أن يحبهم أو يعجب بهم.
هؤلاء الناس لا يمكنُ أن يَكُونوا أصدقاء ولا رفاقا جيدين. دعونا نقول أن الصداقة مع الرجل الجيد مسألة شبه مستحيلة، لأن نظراته تدينك دائماً، وفي تلك اللحظة التي تقترب فيها منه، فستعلم أن جل اهتمامه منحصر في أنه جيد وأنك سيئ. ومع أنه لايفعل أي شئ بشكل خاص، إلا أن حقيقة وجوده تنشأ شيئا غير مفهوم يحفز عندك الغضب والانزعاج.
الداو مختلفة كلياً، فهي تمتلك نوعية مختلفة، وبالنسبة إلي الداو هي الدين الأعمق من بين كل الأديان التي وجدت على هذه الأرض، وليس هنالك مقارنة بينها وبين أي دين آخر. نعم لقد كانت هنالك لمحات مشعة تشبه الداو في أقوال عيسى وبوذا وكريشنا ولكنها مجرد لمْحَات.
رسالة لاو تسزي أو تشوجوان تسزي هي الرسالة الأصفى، وهي نقية ونظيفة جداً، ولم يلوثها أي شيء. هذه الرسالة كانت: كل مايحدث معك نتيجة لأن هناك شخص ما في المركب، وكل هذا الجحيم لأن مركبك غير فارغ.
على الرغم من أنه لو كان المركب فارغا،
فلم يكن ليصيح،
ولم يكن ليغضب.
إذا استطعت أَنْ تُفرغَ مركبَكَ الخاصَ
وأنت تعبر خلال نهر الحياة،
فلن يعارضك أي أحد،
ولن يجلب لك الأذى أي أحد.
الشجرةَ المستقيمةَ تقطع أولا،
الجداول العالية تجف أولا
عندما تريد مضاعفة حكمتك
فستجلب العار للجهل،
وتتمكن من الحصول على سمعة جيدة،
وتتمكن من تجاوز الآخرين،
وسيشرق النور حولك
كما لو أنك ابتلعت الشمسَ والقمر-
ولنْ تَتفادى المصائب.
هذا هو مايجعل رسالة تشجوان تسزي فريدة من نوعها فهو يقول أن وجود الهالة حولك يشير إلى أنك ما زلت موجودا، وأن مركبك ممتلئ. إن اشعاع "أنك جيد" ستولد بكل تأكيد المصائب في حياتك وستجلب الكوارث لكل من المحيطين بك أيضا. لاو تسزي وتشوجوان تسزي أستاذ وطالب لم يرسمهم من تبعهم مع هالات نورانية تحيط بهم، على خلاف عيسى وزرادشت وكريشنا وبوذا وماهافيرا الذين رسموا مع هالات تحيط بالرأس وكانوا يبررون ذلك أن الانسان الجيد لابد أن تظهر هالة حول رأسه، ولكني أقول بالعكس إن الرأس لابد أن يختفي عند الإنسان الجيد فأين يمكن أن ترسم الهالة؟
كُلّ الهالات تَرتبط مع الأنا المزيفة بطريقة ما. ولكن الحقيقة أن كريشنا لم يرسم صورة لنفسه، وإنما فعل ذلك أتباعه الذين لم يكونوا قادرين على تصوره بدون هالة حول رأسه، وإلا لم يكن ليبدوا انسانا إستثنائيا.
تشجوان تزي يقول: "أن تكون انسانا عاديا فهذا يعني أنك انسان حكيم، نعم لا أحد يعرفك، ولا أحد يشعر بأنك شخص إستثنائي" ويضيف: أنت تَدخل في جمهور الناس وتختلط معهم ولكن لا أحد يلاحظ بأن بوذا قد دخل بينهم، ولا يظهر عند أي أحد شعوربأن هناك شخص ما مختلف بشكل ما ، لأنه إذا شعر شخص ما باختلاف هذا الحكيم فلا مفر من الغضب والإستياء. عندما يلاحظ شخص ما بأنك متميز بشكل ما فسوف يثير ذلك غضبه، لأن أناه المزيفة ستتعرض للمساس مما يجعله ينفعل ويتأثر ويرد عليك بهجوم معاكس.
لذلك ينصح تشوجان تسزي: "يجب أن لا نسعى لامتلاك سمعة جيدة تشهرنا، لأن السمعة الممتازة نوع من الثروة. ولكن الناس المتدينون يستمرون بتعليم الناس: كن ايجابيا، وفاعل خير، وازرع المبادىء الأخلاقية، وكن مستقيما.
ولكن لماذا؟ لماذا عليك أن تكون فاعل خير؟ لماذا يجب ان نكون ضد المذنبين؟ الحقيقة أن تفكيرنا يحب الفعل..أي فعل وأننا مازلنا تابعين لانفعالاتنا وطموحاتنا. وعندما تَصل إلى الجنة وتَرى المذنبين هناك يجلسون حول الله، فسوف بالاستياء بشكل كبير، لأنك ستشعر أن حياتك قد أُهدرتْ بشكل كامل. لقد حصلت على المزايا الايجابية، وعلى السمعة الجيدة، بينما كان هؤلاء الناس يقضون أوقاتهم باستمتاع وكانوا يفعلون كل الأشياء التي كانت مُدانة، وفجأة هاهم يجلسون حول الله. عندما تَرى القديسين والمذنبين سوية في الجنة فسوف تكون مستاء بشكل كبير، وسوف تصبحُ حزينا وبائسا جداً، لأن مزاياك وسمعتك أيضا جزء من أناك المزيفة. كثير من الناس تحاول الحصول درجة روحانية لكي تَتعالى على الآخرين، حيث يبقى تفكيرها كالسابق جل همه أن يتعالى او بكلمات أخرى أن يخفض من شأن الآخرين، هذه هي حقيقة مايدفعنا في معظم المجالات الروحية.
إذا تمكنت من تَجميع ثروة كبيرة، فسوف تكون الفكرة الطاغية في رأسك "هم فقراء وأنا غني". عندما تكون قادرا على أن تُصبحَ ألكساندر المقدوني، فسوف تكون الفكرة الطاغية في رأسك "أنا امبراطور وهم شعب وعبيد". عندما تكون لديك القدرة لتصبح عالما عظيما، فسوف تكون الفكرة الطاغية في رأسك: "أنا ملئ بالمعرفة وواسع الاطلاع وهم أمّيون جهلة". عندما تُصبح متدينا مستقيما وفاعل خير فأنت ترفض من حولك وتُدينهم لأنهم مذنبون بفعل المعاصي. ويستمر هذا الشرخ الثنائي، وهذه الحرب ضدّ الآخرين، ومحاولة التعالي والتفوق على الغير.
تشجوان تزي يقول: "إذا كنت تريد ان تملك السمعة والشهرة مع تهميش الآخرين وتجاوزهم فلن تَتفادى المصائب. لا تحاولْ تَجاوز الآخرين، ولا تحاول أن تحصل على السمعة والشهرة لأغراض أنانية.
وهكذا هناك سمعة وحيدة عند الحكيم تشجوان تزي تستحق الذكر، وهي اختفاء الأنا وانعدامها وكل الأشياء الأخرى نتائج ثانوية، وبدون هذه السمعة فالاشياء الأخرى لاتساوي شيئا. نعم قد تشتهر وتصل لسمعة الانسان الرباني ولكن إذا كانت الأنا موجودة في داخلك، فكل ربانيتك توظف في خدمة الشيطان، وكل مزاياك قناع مزيف تختبئ انت خلفه كشخص آثم. الانسان الآثم في داخلك لايمكن تغييره من خلال فعل الخير أو من خلال أيّ طريقة اخرى للتطور والتربية، وإنما يذوب ويختفي في تلك الحالة عندما تختفي أنت فقط.
الرجل الحكيم قالَ:
وهو راض عن نفسه
لقد قمت بعمل عديم القيمةَ.
لأن الإنجاز هو بِداية الفشل،
والشهرة هي بداية الفضيحة
هذه الأقوال غير عادية، ويجب أن تَكون يقظا جداً لفهمها، ومحاولة قبولها وبدون ذلك فانت تخاطر بفهمها على الشكل غير الصحيح.
الرجل الحكيم قالَ:
وهو راض عن نفسه
لقد قمت بعمل عديم القيمةَ.
الناسُ المتدينون يستمرون بتَعليم من حولهم: كن قنوعا وراضيا عن نفسك. ولكن ذلك الذي يجب أن يبقى راضيا مازال موجودا! فلذلك يلاحظ تشوجان تسزي: "لا تَكُنْ موجودا، عند ذلك لن يكون هناك سؤال عن القناعة والرضى أو عدمهما". نعم هذا هو الرضى الحقيقي،عندما لاتكون موجودا. ولكن عندما تَشعرُ بالرضى والسعادة فهذه مشاعر كاذبة، لأنه إن كنت موجودا فمشاعرك هذه مشبعة بالأنا،وأنت تظن أنك حصلت على شيء ما أو وصلت إلى الهدف.
نظرية الداو تقول أنّ الإنسان الذي يظن أنه قد وصل إلى شيء ما فهو قد أضاعه في نفس اللحظة. والذي يظن أنه قد وصل للهدف فقد أضاعه في الحقيقة، فالنجاح هو بداية الفشل. النجاح والفشل نقطتان موجودتان على دائرة واحدة. حينما يصلُ النجاح إلى ذروتَه، نجد أن الفشل موجود هناك أيضا، عندما يصبح القمر بدرا كاملا يتوقف نمو القمر وتتوقف كل تغيراته المتقدمة ليتراجع في حركة عكسية من اليوم التالي، حيث يصبح القمر أقل فأقل.
الحياة تتحرك في فواصل دائرية، وفي تلك اللحظة التي تَشْعرُ بها أنك قد حصلت على شيء ما، تتحرك العجلة لتدور فتفقد ماحصلت عليه. نعم قد يحتاج فهم هذا الأمر وقتا، لأن من طبيعة التفكير الانغلاق.
إن فهم هذا الأمر يحتاج لوضوح التفكير والشجاعة مما يجعلنا مستعدين لرؤية الأشياء على حقيقتها عندما تحدث. إن من المؤسف أن يحدث معنا شيء ما ثم يتطلب وعي ذلك الذي حدث العديد من الأيام، وأحياناً العديد من الشهور أو السنوات. وأحياناً يأخذ الأمر عدة أعمار وأجيال لكي نعي ماحدث.
هل تتذكر ماضيك؟ عندما اعتبرت بأنك حصلت على النجاح، فجأة تغيرت كل الأشياء حولك، وبدأ سقوطك، لأن الأنا المزيفة جزء من العجلة الدائرة، فهي "أي الأنا المزيفة" تحاول الحصول على النجاح لأنها يمكن أن تفشل، ولولا امكانية الفشل لم يكن هنالك إمكانية للنجاح. النجاح والفشل وجهان لعملة واحدة.
تشجوان تسزي يقول:
الرجل الحكيم قالَ:
وهو راض عن نفسه
لقد قمت بعمل عديم القيمةَ.
لأنه ما زال موجودا، المركب الفارغ غير موجود بل على العكس المركب ممتلئ، لأن الأنا المزيفة تجلسُ هناك، وهي مازالت تقود هذا المركب.
لأن الإنجاز هو بِداية الفشل،
والشهرة هي بداية الفضيحة
نعم ليس هنالك شيء يمكن خسرانه. فلذلك، نرى أن معظم الربانيون (الذين وصلوا لدرجة بوذا) فقراء، يعيشون بلا اسم، ولا بيت، ولايملكون أي شيء يدافعون عنه، أو يحمونه. هؤلاء الناس أحرار في الحركة ويمكنهم أن يتحركوا إلى أي مكان، مثل الغيوم في السماء، ليس لها بيت ولا تعلق بأي شيء تسبح في السماء دون هدف أو عمل أو غرض، أو أنا مزيفة.
فسوف يستطيع السباحة مثل الداو بشكل غير مرئي،
وسيمشي بحرية في كل مكان كما هي الحياة بحد ذاتها
بدون اسم ولا بيت.
هذا هو معنى كلمة "مريد" بالنسبة لي، فعندما أؤهلك لكي تصبح مريدا فأنا أؤهلك لتدخل في هذا لحالة الموت التي لا اسم فيها ولا بيت. أنا لا أَعطيك أي مفتاح سري للنجاح، ولا أَعطيك أيّ صيغة سرية للوصول لإلى الطموحات.
إذا كنت أَعطي أي شئ، فهو المفتاح لكي لاتصل إلى النجاح، لكي تكونَ غير ناجح دون أن تقلق بشأن ذلك، كيف تتحرك بلا اسم، ولا بيت، وبدون أية أهداف، كيف تكون فقيرا كالذي كان يدعوه السيد المسيح "فقراء الروح". الإنسان فقير الروح يعيش بدون الأنا المزيفة أو بالأحرى هو المركب الفارغ.
هو انسان بسيط وبدون علامات.
من هو الذي تسمونه بسيطاً؟ هل تستطيعون أن تطوروا وتربوا البساطة؟
َأنت ترى رجلا يأكل مرة واحدة كل يوم، ويلبس خرقا بالية تكاد تجعل معظم جسمه عاريا، أنت تقارن ذلك الذي يعيش في قصر، وذلك الذي يعيش تحت شجرة، فتقول أن الذي يعيش تحت الشجرة بسيط. هل هذه هي البساطة؟ أنت يمكن أن تعيش تحت شجرة ولكن نمط حياتك سيكون نتيجة للتعود وتربية النفس على ذلك. نعم لقد تربى ذلك الشخص على أن يكون بسيطا، لقد قام من حوله بحساباتهم لكي تكون النتيجة أن يكون هذا الإنسان بسيط. أنت قَد تَأكل مرة واحدة في اليوم، ولكن ذلك يكون طبق لحسابات معينة، أنت تفعل ذلك تطبيقا لأوامر التفكير! أنت تستطيع أن تَبقى عاريا، ولكن ذلك لا يجعلك أكثر بساطة. البساطة تستطيع أن تَحدث بدون حسابات مسبقة.
هو انسان بسيط وبدون علامات.
لكنك تعتبر نفسك قديسا لأنك تعيش تحت الشجرة، وتَأكل مرة واحدة في اليوم، وتقتصر على الأكل النباتي، وتمشي بدون ثياب أو بثياب مهترئة، ولا تَمتلك المال، هل أنت قديس بذلك؟
وبعد ذلك عندما يمر بجانبك رجل يمتلك مالاً، فهو يحفز على ظهور الإدانة والاستياء في أعماقك، ثم تبدأ بخطاب نفسك: "ماذا سيحدث لهذا الآثم؟ لابد أن يكون مصيره إلى الجحيم". ثم تشعر بالشفقة تجاه هذا الآثم! انت في هذه الحالة لستَ بسيطا، لأن الفوراق والاختلافات تلعب هنا دورا مهما، ولأنك تشعر أنك انسان مختلف.
طبعا من غير المهم من أين أتت هذه الفوارق. الملك يعيشُ في القصروهو يختلف عن أولئك الذين يعيشون في الأكواخ. الملك يلبس الملابس التي لا يستطيع الإنسان العادي لبسها، وهذه الثياب ثمينة جداً، مما يجعله متميزا عن غيره!
أنت ترى الرجل الذي يعيش عارياً في الشارع، وأنت لا تَستطيعُ أن تعيش مثله، وهذا يعني أنه مختلف. حيثما يظهر الاختلاف والإمتياز فهناك أنا مزيفة، وعندما تختفي الإمتيازات والفوارق تختفي الأنا المزيفة، واللاأنا وهذه هي البساطة.
هو انسان بسيط وبدون علامات.
وكيفما نظرت إليه فستقول أنه أحمق.
هذا هو القول الأعمق والأصعب للفهم من أقوال تشجوان تسزي، هذا القول صعب على الفهم لأننا نعتقد دوما أننا متنورين، وأناس كاملين ومثاليين، وأننا حكماء. ولكن تشجوان تسزي يقول: وكيفما نظرت إليه فستقول أنه أحمق.
لكن هذا هو الشيء الصحيح، وهكذا يجب أن يكون الأم، فبين هذا العدد الكبير من الحمقى، كيف يمكن لرجل حكيم أن يكون مختلفا عنهم؟ كيفما ومن أي جهة نظرت إليه فوف يظهر كأنه أحمق وليس أي شيء آخر. كيف سيستطيع هذا الحكيم أن يغير هذا العالم الأحمق من حوله وأن يعيد هذا العدد الكبير من الحمقى، إلى سلامة العقل؟ نعم سيضطر أن يخلع ثيابه ويذهب لتحت المنضدة ليصيح مثل الديك. في هذه الحالة فقط هو سيستطيع أن يُغيّرك. هو يجب أن يُصبحَ مجنونا مثلك، وأن يصبح أحمق مثلك ويسمحَ لك بالسخرية والضحك منه. عند ذلك فلن تَشعر بالغيرة منه، ولن تَشعر بأنه يمسك او يؤذيك، ولن تكون غاضبا عليه، وستستطيع أن تَتحمله، وأن تتنساه وان تغفر له، ويمكن أن تتركه يعيش في هدوء مع نفسه.
هناك العديد من الحكماء العظماء الذين تصرفوا كالمجانين، وكان معاصروهم مرتبكين وفي تشتت كامل عندما يحاولون فهم حياتهم التي كانت مليئة بالحكمة العظيمة. كان الحكيم يحدث نفسه:"أن أكون حكيما بينكم فهذا حمق بحد ذاته، ولن يكون هنالك نتيجة اذا تصرفت كذلك معكم، فانتم ستكونون سببا لمشاكل كثيرةَ".
لقد سُمّمَ سقراط لأنه لم يكن يعرف تشجوان تسزي، لأنه لو عرفه لم يكن هناك أيّ حاجة لتسميمه. لقد حاول سقراط أن يتصرف كرجل حكيم بين معاصريه الحمقى فكانت النتيجة هي موته مقتولا بالسم.
يقولُ تشجوان تسزي : من حيثما نظرت إلى الرجل الحكيم فستراه كالأحمق.
لقد عاش تشجوان تسزي نفسه كالأحمق، يرقص ويغني ويضحك، ويتعامل مع الناس من النكات والحكايات والطرف.
لم يكن هنالك أحد يشك أنه جدي، مع أنك قد لاتجد أحدا أكثر اخلاصا وأكثر جديّة منه. ولكن لم يكن هنالك أحدا يرى فيه الجدية.كان الناس يفرحون به ويحبونه ومن خلال هذا الحب كان تشجوان تسزي ينشر بذور حكمته، وقد استطاع أن يغير الكثيرين ويحولهم روحيا.
ولكن لكي نؤثر على مجنون من الضروري أن نتعلم لغتَه، وان نخاطبه بلغتَه. يجبُ أن نصبح مثله، وأن ننزل لمستواه. أما إذا استمررنا بالصعود على سلمنا فلن يكون هناك تخاطب أبدا.
هذا ماحدث مع سقراط، ولم يكن إلا ليحدث في اليونان، لأن العقل اليوناني كان هو العقل الأكثر نضوجا في العالم آنذاك، والعقل الناضج يحاول دائما ان لايصبح في موقع له علاقة بالحماقة. لقد أغضب سقراط كل شخص حوله، وكان لابد للناس أن يقتلوه حقيقة، وإلا كان سيتابع طرح أسئلتة الصعبة التي كانت تجعل كل شخص يشعر بأنه أحمق. لقد ضيق على الجميع وحصر كل منهم في زاوية، لأنه لايمكن الإجابة حتى على الأسئلة العادية إذا كان الشخص يسألها لغرض ما أو بطريقة امتحانية استفزازية.
إذا كنت تؤمن بالله، فسيسألك سقراط حتما شيئا ما عن الله، وسوف يطلب منك الأدلة. طبعا أنت لن تَستطيع الإجابة، لأنك لم ترى الله . وكيف يمكن البرهان؟ الله شيء بعيد بالنسبة لك، إن كنت لاتستطيع اثباتها الأشياء العادية حتى. لقد تَركت زوجتَك في البيت، كيف تستطيع أن تثبت أنك حقاً تَركت زوجتك في البيت، أو أن لك زوجة في الأصل؟ ربما يكون ذلك كله في ذاكرتك فقط ومجرد تخيل وتوهم منك، ولربما كان ذلك مجرد حلم رأيته، وعندما تعود للواقع فلن تجد لا بيت ولا زوجة!
لقد كان سقراط يسأل الأسئلة، ثم يغوص في أعماق الأجوبة ليحلل كل شيء فيها، مما أدى لاستياء كل شخص في أثينا منه. لقد حاول سقراط أن يثبت أنهم جميعا حمقى، فلذلك قَتلوه. ولو أن سقراط اجتمع مع تشجوان تسزي في ذلك الوقت لكان الوضع مختلفا. لقد عاش تشجوان تسزي في تلك الفترة في الصين، ولو اجتمع هؤلاء الحكيمان لأخبر تشجوان تسزي سقراط بالسر: لا تحاول أن تثبت لأي شخص أحمق بأنه أحمق لأن ذلك لن يعجبه حتما، وسيغضبه ذلك ويجعله يشعر بالتكبر والغطرسة والعدوانية. وعندما تصل لأعماق الحقيقة التي تثبت أنه أحمق فهو سينتقم منك ويقتلك حتما.
تشجوان تسزي كان سيقول: "من الأفضل أن أكون أنا أحمقا، مما يجعل الناس يفرحون بي، وبعد ذلك بمساعدة الطرق غير الملحوظة أنا سأستطيع أن أساعدهم على التغيّر، وفي هذه الحالة لن يقوموا ضدي أبدا".
لهذا السبب لم يحدث أبدا في الشرق، وخاصة في الهند والصين واليابان، مثل هذه الظاهرة القبيحة كما حدث في اليونان حيث سُمم سقراط وقُتل، وكما حدث في القدس حيث حاولوا قتل السيد المسيح وصلبه. وكما حدث في إيران ومصر وكثير من البلدان الأخرى، لقد تم قتل الكثير من الرجال الحكماء. لقد فهم الحكماء في الهند والصين واليابان، أن التَصرف كرجل حكيم وسط الحمقى يقرب من وقوع الكوارث والمصائب.
تصرّفْ مثل الأحمق، أو المجنون، هذه هي الخطوة الأولى التي يفعلها الرجل الحكيم، لكي يُهدء من روعة من حوله ويجعلهم لا يخافونه.
لهذا أخبرتك بقصة الصوفي مع الأمير، حيث أصبح الأمير والصوفي أصدقاء في حين أنه كان يخاف من الأطباء والمختصين والخبراء الآخرين. لقد حاول هؤلاء تَغييره، ومعالجته، ولكنه لم يكن مجنونا، أو بالأحرى لم يكن يعتقد أنه مجنون. ليس هنالك ولا مجنون واحد يعتقد أنه مجنون، لأنه عندما يفهم المجنون ويُدرك أنه مجنون، يختفي الجنون فورا.
لذلك أنا اعتبر كل أولئك الرجال الحكماء، الذين حاولوا معالجة الأمير حمقى، وأن هذا الشيخ الصوفي أكثر حكمة منهم كلهم. لقد تَصرف بجنون، وكان كل من في القصر يضحك عليه، الملك والملكة ضحكوا منه وقالوا: " ماذا؟ هل سيعالج هذا الرجل الأمير؟ هو نفسه مجنون، بل إنه في مظهره يبدو أكثر جنونا من الأمير ذاته.
لقد صُدِمَ الأمير وقال: "من انت؟ وماذا تَفعل؟" لكن هذا الرجل على ماأظن كان حكيما ربانيا.
إن الحكيمة تشجوان تسزي يتكلم عن هذه الظاهرة وعن هذا الرجل الرائع.
وكيفما نظرت إليه فستقول أنه أحمق.
ولن يبقى ورائه أي أثر. فهو لا يملك السلطة.
أنت لا تَستطيع إتباعه. أنت لا تَستطيعُ إتباع الرجل الرباني أبداً، لأنه لايترك أي أثر، وليس هناك طريق. هذا الرباني هو كالطير في السماء، يتحرك ولا يبقى ورائه أي أثر.
لماذا لا يترك الرجل الحكيم أثرا؟ لكي لا تستطيع أن تتبعه، ولن تجد رجلا حكيما يحب أن يتبعه الناس، لأن الاتباع ينقلب في كثير من الأحيان ليصبح تقليدا أعمى.
الرجل الحكيم يتحرك في طريق متعرج لكي لا تستطيع المضي في أثره، وعندما تحاول إتباعه، فأنت ستضيعه حتما. هل تستطيع أن تتبعني؟ هذا شيء مستحيل، لأنك لا تَعرف ماذا سأفعل غداً. إذا كنت تَستطيع التنبؤ وتوقع ماذا سيجري غدا فسوف تستطيع أن تُخطط، وأن تعرف الاتجاه إلى أين سأذهب، وأن تتنبأ بخطواتَي. قد تكون تَعرف ماضيي، ومنه يمكن أن تَستنتجَ مستقبلي، ولكني غير منطقي.
عندما أكون منطقيا يُمْكِنُ أَنْ تَستنتجَ ماذا سأقولُ غداً. عندما تدرس ماذا قلتُ في محاضراتي الماضية، تستطيع أن تَستنتج منطقياً ماذا سأقولُ غداً، ولكن هذا كله شيء غير محتمل معي، لأنني كثيرا ما أناقضُ نفسي بالكامل. واليوم القادم عندي لابد أن يناقض اليوم السابق، فكيف ستتبعني؟ لابد أن تقع في الجنون إذا حاولت إتباعي.
لابد عاجلاً أم آجلا أن تُدركَ بأنك يجب أن تَكون نفسك، وأنه يجب أن لا تقلد أحدا.
ولن يبقى ورائه أي أثر.
الرجل الحكيم غير ثابت، وغير منطقي، وهو يشبه المجنون.
فهو لا يملك السلطة.
طبعا من الصعب أن نوافق على وجهة النظر هذه لأننا نعتقدُ أن الرجل الحكيم لابد أن يملك قوة كبيرة، تجعله الأقوى بين الناس. نحن نعتقد أن هذا الرجل بمجرد لمسه لعيوننا العمياء لا بد أن تتفتح لنصبح قادرين على الرؤية، وأنه يستطيع اعادتنا للحياة عندما نكون أمواتا، الحكيم بالنسبة لنا هو من يفعل المعجزات.
ولكن تشجوان تزي يقولُ: الرجل الحكيم لا يملك السلطة، لأن استعمال السلطة مظهر من مظاهر الأنا المزيفة، التي تريد دائما أن تكون قوية. أنت لا تَستطيع إقناع رجل حكيم باستعمال سلطته أو قوته، هذا شيء مستحيل. وإذا استطعت فهذا يعني أن هناك جزء من أناه المزيفة مازال موجودا ولا بد أن يموت.
الرجل الحكيم لن يستعملَ قوَّتَه أبدا، لأنه في داخله ليس هنالك من يستعمل هذه القوة أو يوجهها. لقد اختفت الأنا المزيفة التي كانت تُوجه، فمن سيقود المركب؟ الجواب لا أحد.
الرجل الحكيم ذي سلطة كبيرة ولكنه لا يملك السلطة، وهو قوي ولكنه لا يملك القوة، لأن الأنا المزيفة التي كانت مسيطرة لم تعد هناك. الرجل الحكيم ممتلئ بالطاقة التي تفيض على من حوله، ولكنها لا تنتمي لأحد وهي غير موجهة، لأنه ليس هناك من يوجهها. نعم قد تتشافى في حضرته، وقَد تَتفتح عيونك، ولكنه لا يعتقد أنه فتح لك عينيك أو عالجك بلمساته، وعندما يعتقد هو بأنّه شفاك، فهو حتما مريض أكثر منك. شعور الأنا " أنا شفيتُ" مرض يحمل من الخطر أضعاف العمى المخيف.
فهو لا يملك السلطة.
ولا يريد إنجاز أي شيء،
ويعبر المجد من فوقه دون أن يلتفت إليه.
ولأنه لا يحْكم على أحد،
فلا أحد يَحْكمُ عليه.
هذا هو الإنسان الكامل
مركبه فارغ.
هكذا يجب أن يكون طريقَك، أفرغْ مركبَكَ. استمر برمي كل ما تجده في المركب إلى أن يُرْمَى كل شيء ولا يبقى أي شيء، حتى أنت تكون قد رُميت، ولم يبق منك أي شيء، وعندها ستصبح على الفور فارغا.
المسألة الأولى والأخيرة أن تكون فارغا. وفي تلك اللحظة عندما تصبح فارغا فستَمتلأ. كل شيء سينزلُ عليك عندما تكون فارغا، الفراغ فقط يستطيع تقبل كل شيء، وليس هنالك أي شيء آخر يمكنه فعل ذلك، لأنه لكي نتقبل كل شيء يجب أن نكُونَ فارغين، بشكل غير محدود.
إن تفكيرنا وعقولنا صغيرة جداً، ونحن لا نستطيع باستعمالها تقبل الأشياء الربانية. إن غرفنا صغيرة جداً بحيث لا نستطيع دعوة الربانية للحضور إلينا. يجب أن نحطم البيت بالكامل، لنصبح بمساحة السماء، الفضاء، بل الكون كله، هذه المساحة ضرورية لقبول الربانية.
يجب أن يصبح الفراغ طريقك وهدفك. ابدء من صباح الغد بتفريغ داخلك من كل شيء: من البؤس والغضب، من الأنا المزيفة والغيرة والآلام والرغبات. يجب أن ترمي بكل ما تجده، وكل ما تقع عليه يداك بدون مساومة، أفرغ نفسك، وفي تلك اللحظة عندما تصبح فارغا كلياً، ستفهم فجأة أنك كامل وأنك كل شيء. لابد للوصول إلى الكمال من الفراغ.
التأمل لا شيء سوى محاولة للتفريغ، ولأن نصبح لا أحد. يجب علينا أن نتصرف في معسكر التأمل هذا كأننا لا أحد، وعندما ننشأ الغضب في شخص ما، ونصطدم ونتشاجر معه علينا أن نتذكر أن ذلك يعني أن هناك شخص ما في مركبنا، فلذلك يجري ما يجري معنا. وعندما نفرغ مركبنا فستختفي الاصطدامات ولن يكون هناك نزاعات ولا غضب ولا عنف ولا شيء .
هذا ال"لا شيء" هو البركة، والسعادة، وهو ما فتشنا عنه لأجيال متعاقبة.
نهاية الفصل الأول.
http://lightreiki.net/vb/showthread.php?=&threadid=61
التعليقات (0)