.
تحول عصر.
لم تعد البلاغة والفصاحة وفن الخطابة في خدمة المرافعات القضائية, كما كانت عليه منذ العصور القديمة والى تاريخ قريب. "تُربح" الدعاوى حاليا باستعمال التكنيك واتقان الاساليب الحديثة في البحث والتقصي ,اكثر من استخدام البلاغة والخطابة. ولعل فيما اورده احد الكتاب بالإشارة الى قصة النملة والصرصار ما يوحي بان المحامي الصداح ترك المكان فسيحا للمحامي شبيه النملة في السعي لجمع كل ما تحتاجه القضية. دأب دائم وصبر ودقة ونظام.
لا يمكن اختصار المحاماة بالمرافعات واساليبها. وانما نريد فقط الاشارة الى ما عرفته المهنة من تحول في هذا الجانب. وبما ان المخاطب في هذا هو الانسان العادي غير المتخصص فسوف لا نعمد للدخول في النواحي التقنية . وسنعرض عرضا لا يتوجه الى العمق والتفصيل, فلهذا مجال غير مجال مقالات الانترنت. هدفنا هنا هو محاولة نشر ثقافة قانونية تكون في متناول الجميع. (حتى ولو ارتجفت ركب بعض الناشرين حين التفكير بنشرها, فيؤثرون السلامة على النشر).
بعد الحرب العالمية الثانية ظهر قانون الاعمال droit des affaires لتلبية احتياجات الشركات الكبرى, وكذلك الحكومات. وعليه طور المحامون مكاتبهم للتجاوب مع المتطلبات الجديدة. وخلال الثمانينات تطور القانون الجديد , قانون الاعمال الجزائي . واصبح على القضاة معالجة ملفات شائكة ومعقدة تختلط فيها المسائل المالية والاقتصادية والنفوذ السياسي المتعدد المصادر والوسائل.
هذا الوضع الجديد انتج محامين متخصصين, خبراء, قادرين على البحث الدؤوب الشاق في ملفات قد يزيد صفحات كل منها على 5000 صفحة للبحث عن عيب من عيوب الشكل. اخصائيون يقدمون الاستشارات القانونية المدعمة بالإحصائيات والارقام والجداول .., وخاصة للشركات الكبرى العملاقة الوطنية ومتعددة الجنسيات, اكثر مما يترافعون ويبحثون عن فنون البلاغة والخطابة. وكّون بعضهم ارستقراطية جديدة , مكتبية.
واصبح المحامي, ــ نتحدث هنا عن الغرب, وفرنسا بشكل خاص ــ الذي يمارس المهنة منفردا او بالتعاون مع بعض المساعدين collaborateurs يواجه صعوبات كبيرة, مفضلا الانتقال, حين تسنح له الفرصة, للعمل, كمتعاون او اجير .. وغير ذلك من الصيغ التي تنظمها المكاتب الكبرى للمحامين, المجهزة بكل الوسائل الحديثة, والامكانيات المادية غير المحدودة. المتركزة في الاقاليم والمتوسعة او الطامحة لامتدادات قارية. وقد اشرنا في مقال سابق الى المحامي الاوروبي, والى ما يمكن ان يُسمى المحامي عابر القارات .
هذا الوضع الجديد ادى في نهاية القرن العشرين الى نهاية اجيال المحامين العمالقة الذين طبعوا عصورهم بطابعهم باستخدامهم الرائع لألياته. وتركوا بصماتهم على صفحات التاريخ القضائي الفرنسي. وهكذا لم تعد المرافعات الكبرى التي اشرنا لبعضها في بعض الدعاوى, تُسمع الا قليلا في ايامنا هذه, كما لم يعد لها مكان مستقر في ظل الظروف الجديدة للمهنة, وفي تطور العلاقات الاجتماعية وما نتج عنها, وكذلك تطور القضاء وأساليبه ووسائله.
اعداد الدفاع كانت, ومازالت, له قواعده, منذ ايام ارسطو, يتطلب كما اوضح هذا الاخير , دراسة معمقة وشاملة للقضية . " في المقام الاول يجب فهم النقاط التي سيتحدث عنها (المدافع) ويرافع فيها , واوجه القياس, والسياسة, وكل الاشياء مهما كانت طبيعتها. ومن الضروري ان يملك كل التفاصيل او على الاقل غالبيتها فاذا كنت لا تملك اي من هذه التفاصيل فلا يمكنك استنتاج اية خلاصة" Rhétorique, livre II, chapitre XXII
يرى سيسرون بان اي كان يريد تامين الدفاع في دعوى معينة عليه دراستها بعناية فائقة .. ومعرفتها في العمق وهذا ما يجنبه تهمة الاهمال وعدم الاخلاص من قبل موكله وأخذ فكرة سيئة جدا عنه.. فمن المستحيل في موضوع لا نعلم عنه شيئا ان لا نخون, بسبب هذا النقص المعيب, مصلحة الموكل.
ومع ذلك فالبلاغة والخطابة التي كان يعتمدها المحامي في المحاجة القضائية argumentation judiciaire ــ والتي ان ذكرت ذكر بشكل خاص المحامي والشاعر والفيلسوف وامير البلاغة والبيان وافصح فصحاء روما القديمة سيسرون Cicéron ــ لم تمت نهائيا وانما تغيرت لغتها وا دواتها واساليبها , ومن الطبيعي ان تتغير المنهجية بتغير العصر.
والى اليوم, وعند الحديث عن البلاغة والخطابة لا يخفي الغربيون المعاصرون اعجابهم بسيسرون واحترامهم لبلاغته وفصاحته ومنهجيته في تقسيمه لمراحل المرافعة القضائية. فسيسرون كان في اصول الفن القديم وفي فروعه.
ذهب الى اليونان القديمة لمدة عامين, تدرب خلالهما على فن البلاغة والخطابة, حسب التقاليد اليونانية, منذ ارسطو, على ايدي اساتذة البلاغة والخطباء المشهورين في تكنيك الفصاحة . كما استفاد من علاقاته بأساتذة الفلسفة لتكملة ما هو ضروري لإغناء معارفه. ولم يكتفي بترجمة ما كتبه الاغريق في هذا المجال من اللاتينية الى الرومانية, وانما اضاف اليه تجاربه الخاصة. اشتهر منذ كان شابا في عامه السادس والعشرين بمرافعاته في قضية سكتيس روسيس Sextus Roscius .
كان يعير اهمية كبيرة لنصائح اساتذته , وبشكل خاص مولون Molon الذي جاء الى روما لتدريس البلاغة بأسلوب كان مجهولا الى ذلك الوقت في روما. لقد ادرك سيسرون ضرورة التخلي عن العنف في العبارات لصالح النظام في الخطاب والمحاجة المنهجية والهادئة, والبراعة في الاقناع. وفي هذا كان يملك ترسانة من البلاغة الاغريقية والاسناد الفلسفي والسياسي عند الحاجة للاستطراد التوضيحي, والاستشهاد القضائي.
لقد خضع فن الخطابة في روما لتحول كبير في القرن الثاني قبل الميلاد بالاتصال مع الاساتذة الإغريق ومع ذلك لم تظهر فيها مدارس البلاغة الا في بداية القرن الاول قبل الميلاد.
عرفت روما اثر ذلك اسلوبين متنافسين : الاسلوب القديم الاثيني التقليدي (نسبة لأثينا). والاسلوب الاسيوي الذي نشأ وتطور في اسيا. الاول يفضل الاناقة والاختصار ويعتمد على اختيار الكلمات والعبارات الانيقة المهذبة, والمتجرد من كل الانفعالات. أما الثاني فكان عكسه , يعتمد التصوير وغزارته, ويستدعي اثارة المشاعر الى درجة البكاء. ويستجلب التصفيق. انه الخطاب الاسيوي الذي كان ينتشر بفضل فعاليته, وتتسع شعبيته لدى العامة من الرومان الذين يحبون المسرح والمشاهد المسرحية.
كان سيسرون , تلميذ الاسيوي مولون, يعرف كيف يشد انظار واهتمام القضاة بقدرته على اخضاع العلوم التي تلقاها لخدمة مرافعاته. يرى فيه المؤرخون ليس مجرد خطيب مصقع فقط, وانما ايضا ممثل بارع وقدير. اكسبه ذلك مثابرته على حضور المسرح في شبابه. كان يستشهد بخلاصات من المسرحيات. ويستعمل بشكل مبطن ايحاءات يعرفها جيدا المستمعون له, مستعملا التساؤل, والتعجب, والاستغراب, ليرسل للمستمع ما يريد ايصاله اليه من تسخيف جهة الاتهام. محاولا في كل هذا التأثير في حواس الجمهور وكسب تعاطفه معه.
كان يعلن عن سعادته بكونه يدافع عن القضايا العادلة. خاصة وانه عضو في مجلس الشيوخ sénateur يترافع امام نظرائه من اعضاء المجلس. اجتمع فيه المحامي وعضو مجلس الشيوخ ورجل السياسة. واستطاع توظيف هذه الصفات والمهام للدفاع عن المؤسسات وبقائها. وقد كلفه مجلس الشيوخ بمهمة الدفاع عن الجمهورية.
هذا التوظيف الجيد للمعرفة والثقافة المتكاملة واستعمال البلاغة وموهبة الفصاحة وفن التعبير الشفهي والحركي المسرحي, في خدمة القضية المطلوب الدفاع عنها, بلغة ذلك العصر يبقى مطلوبا وصحيحا في عصرنا الحالي, ولكن بلغة العصر واساليبه الجديدة ومتطلباته.
كليات الحقوق, حتى الحديث منها, تعلم اوليات الحقوق, ولكنها لا تدرس الاستراتيجية, او وفن الجدل او البلاغة فهذه مواد غير موجودة في برامجها. ولا حتى اللغة وقواعدها. معرفة القوانين بعمق ضرورية, ولكن ليس بها وحدها تُربح القضايا. فكثير من الحقوقيين والاساتذة الكبار, رغم معارفهم القانونية, غير قادرين على السيطرة على دعوى قضائية والسير بها نحو نهاية موفقة.
لا بد من اقتران المعرفة الكاملة بالقوانين والإجراءات بإتقان فن وضع الاستراتيجية, والتمكن من مهارات الجدل والبلاغة وفن الخطابة. فتدريس القانون بالاعتماد على الذاكرة وحدها غير مجد. "فهل يعقل حقا, كما يقول ديماس بان تقليص تلك الدراسة الى تمارين للحفظ, او بأحسن الاحوال برهنة مجردة بالاعتماد على المجموعات القانونية Codes, يخلق المهني الجيد في الحقوق؟. وهل يكفي لذلك حفظه, عن ظهر قلب, بعض القواعد, او حمله تلك المجموعات وغيرها من المؤلفات تحت ابطه ؟ ليس بالإمكان, وحتى ليس من الكافي معرفة كل النصوص, فذلك ليس اكثر مما هو عليه حال الرياضي بحفظه جدول الضرب" les avocats. P.67
يجب اقناع القضاة. وهذا من مهام البلاغة. " البلاغة سلطة حقيقية للخطيب. فبهذا المعنى الاقناع هو المعيار الوحيد لصحة البرهنة التي تدور بشكل اساسي في الدعاوى".( Danblon. L’éloquence judiciaire).
الجدل dialectique la , حسبما يرى ترافرسي هو تكنيك الخطاب بواسطته يمكننا هدم او تأكيد اشياء انطلاقا من اسئلة واجوبة من المخاطبين. البلاغة عُرّفت على انها المقدرة على اكتشاف, نظريا, ما يمكن ان يكون خاص بالإقناع في كل حالة. فالجدل والبلاغة كلاهما يسعيان الى نفس الهدف: الاقناع". la défense pénale 1990, p. 76) ). ومع "تبسيط" اللغة القضائية ابتداء من اوائل القرن الماضي. فان الديالكتيك والبلاغة عرفا تطورا في الشكل والصيغ في الخطاب القضائي الحالي. وليس هنا مجال الحديث عن ذلك.
عرفت المحاماة التخصص والمزيد من التخصص مع تنوع القضايا وتعقيدها. ومع ذلك يجادل البعض بأهمية التخصص, وانه من المبالغ فيه القول بأنه يجعل الكفاءة القانونية للمتخصص قادرة وحدها على حل مثل هذه التعقيدات. فحسب كارسون" اذا كان المتخصص يحدد جهوده في نفس النوع من المسائل , سيكون غير كفء في المسائل الاخرى, وسيخاطر بانه سينتظر طويلا , ومن الممكن دون نتيجة, زبائن يقصدونه .. حتى ولو تخصص المحامي فلا يمكنه ان يكون كاملا.". انا متخصص في الملف الذي يعهد به لي L’avocat et la morale, 34.
ليجد المحامي نفسه في وضع جيد, او شبه جيد, وليمكنه قبول أي ملف مهما كان, عليه ان يكون اولا مثابر ومجتهد في دراسات طويلة وشاقة, و يخضع لتدريب قاس.
ويرى اخرون ان التخصص. يقلص من العمل والجهد, ويقوي الكفاءة , ويسهل الوصول الى الزبائن. والتخصص اليوم يشمل مجالات واسعة . فهناك متخصصون في قضايا الطلاق. في الميراث, في قضايا التزوير. في منازعات الاتصالات. في حوادث السير.. فالجرائم المالية, والشركات المفلسة و وسوء الأتمان, لهم مختصيهم الذين يمضون اشهرا في مكاتب قضاة التحقيق لإنقاذ سمعة وحرية موكليهم. وهل لصاحب قضية جنائية ان يعهد بها, الا نادرا, لمحام معروف بمرافعاته في القانون المالي والارقام؟. وبالعكس, فان اي متمول لا يرى من المناسب تسليم قضية تتعلق بشؤون حساباته لمحام متخصص في القضايا الجنائية. هذا التقدم الكبير في علم التخصص, وتطور التكنيك الحديث, جاء على حساب الفن في المهنة. وأصبح من النادر تزاوج العلم والفن بشكل متكافئ , خاصة, كنتيجة, في ظل ضعف الثقافة العامة عند المحامين.
يعتبر المحامون الفرنسيون الحاليون ان من بقي من ورثة المشاهير الكبارفي فرنسا قلائل جدا, محاميان او اكثر قليلا. منهم, روبير بدنتار, الذي مارس المحاماة فترة طويلة ولكنه بشغل منصب وزير العدل ثم رئيس المجلس الدستوري من عام 1989 الى 1995, ابعد نفسه عن المرافعات والمحاكم. عكس جاك فرجاس Jacques Vergès الممارس الدائم للمهنة, المناقض كليا في توجهاته الفكرية والسياسية والعملية لبدنتار. انصار هذا الاخير يثيرون حملة كراهية ضد فرجاس لموقفه من القضايا العربية والقضية الفلسطينية بشكل خاص, والذي سنخصص له السطور القادمة بعد ذكر موجز لأسماء مشهورة في تاريخ المحاماة, دون التطرق لمرافعاتهم . اذ ليس بإمكان مقال او مجموعة مقالات ان تفي بذلك.
يذهب بعض من تعجبهم لغة المقارنة الى تشبيه المحامي الجيد بالجندي الجيد الذي يعد للمعركة, ويخوض غمراها, اذ لا بد له من وضع استراتيجية دقيقة, والا فان نتيجة المعركة معروفة سلفا. "الدعوى معركة قضائية وكل محام قبل الدعوى يقوم بصمت بالإعداد لها في مكتبه " روبير بادنتار. L’exécution. P. 136 .
تخضع المعركة القضائية لقواعد اجرائية وادبيات المهنة.. الخ. فمن الممكن خسارة قضية رابحة سلفا نتيجة خطأ في الاستراتيجية. كما ان ليس المهم فقط ان يكون المترافع مقتنع بحقه في القضية المرفوعة امام المحكمة, وانما المهم اقناع القاضي بهذا الحق ليعترف له به بحكم قضائي.
غالبية مشاهير المحامين الفرنسيين الذي عرفهم تاريخ القضاء الفرنسي كانت لهم ارتباطات وثيقة بالسياسة. ( تجدر الاشارة الى ان من بين 23 رئيس جمهورية فرنسيا كان هناك11 محام, لم يصلوا الى الرئاسة بطبيعة الحال بسبب هذه الصفة, كما لم يكن جميعهم من مشاهري المحامين. اخرهم ساركوزي الذي لم يمارس المحاماة الا لفترة قصيرة جدا) وكانوا موسوعات في الادب والثقافة العامة بأنواعها, تركوا خلفهم أعمالا و مؤلفات عديدة في المحاماة وغيرها.
عاصر الثورة الفرنسية وشارك فيها او كان شاهد على وقائعها وقضاياها محامون مشاهير, نذكر منهم على سبيل المثال فقط لا الحصر:
ـ روبسبيير Maximilien Robespierre 1758 ـ 1794
محامي ورجل سياسة, كان متشبع بأفكار فلاسفة القرن 18 وبشكل خاص روسو. لم يعمل كثيرا في المحاماة, كان والده محام في المجلس الاعلى. شارك في الحياة السياسية حتى عشية الثورة ليصبح لاحقا من رموزها. ساهم وتكوينه القانوني في صقل مواهبه الخطابية و بلاغته. من المفارقات انه شارك في تحرير اعلان حقوق الانسان والمواطن, وصياغة الدستور الاول عام 1791 وبانه القى كلمة في الغاء عقوبة الاعدام ما تزال مشهورة . اشتهر بخطبه وفصاحته وأفكاره السياسية, وعرف بانه عدو الفساد. غيرته السياسة والسلطة ودمرت فيه تكوينه القانوني .عندما كان يذكّره معارضوه بمواقفه المعادية لعقوبة الاعدام على سبيل المثال, كان يجيب بان الزمن قد تغير. تحول من بطل شعبي وزعيم سياسي ليصبح من اكبر السفاحين في التاريخ. طالب بإعدام لويس السادس عشر وجميع أفراد العائلة الحاكمة . واتهم كل معارض له على انه من اعداء الثورة ليتم اعدامه فورا. بلغ عدد المعدومين في فرنسا خلال دكتاتورية 6 الالاف مواطن في 6 اسابيع . تم اعدامه بالمقصلة .
ـ دانتون Georges Jacques Danton 1759ـ 1794
محامي في مجلس الدولة ببدايات متواضعة, ابن نائب عام. رجل سياسة. اصبح من رموز الثورة الفرنسية. نسجت حوله وحول روبسبير الأساطير. اعتبر مع ميرابو من اشهر خطباء عصره. تزعم الجاكوبين المتطرفين في الجمعية الوطنية. ولعب دورا في اسقاط الملكية عام 1792. رأس الجمهورية لفترة مؤقتة. وسيطر على لجنة الامن العام وعلى عمل محاكم الثورة. اختلف مع روبسبير بسبب الاعدامات والعنف المبالغ فيه. اعدمه هذا الاخير في 5 افريل 1794 وعمره 34 عاما. من اخر كلماته قبل تنفيذ حكم الاعدام به: ما يؤسفني فقط اني سأعدم بالمقصلة قبل الحيوان روبسبير.
اشرنا هنا الى روبسبير ودانتون لتكوينهم الاساسي كمحامين وما لعبه ذلك من دور في اغناء موهبة الفصاحة وفن الخطابة لديهما, وليس لدورهم في اغناء المحاماة كمهنة.
ـ فرنسوا دينيز ترونشيه François Denis Tronchet 1723ـ 1806
محامي وصحفي ورجل سياسة. قبل الدفاع عن لويس السادس عشر مما سبب له مشاكل استطاع التغلب عليها م لاحقا. اصبح رئيس محكمة النقض الفرنسية. عينه نابليون بونابرت لإعداد القانون المدني (قانون نابليون) عام 1800 الى 1904 بالتعاون مع Bigot de Préanenau و Maleville تحت اشراف Cambacérès نقلت رفاته بعد وفاته تكريما له الى Panthéon de Paris عام 1806.
ـ ريمون دو سيز Raymond de Sèze او Romain desèze (1748ـ1828).
من اشهر المحامين الفرنسيين. من الانصار الملكية . مستشار ماري انطوانيت في قضية العقد Collier رافع في قضايا شهيرة بمواهب المحامي المتميز, ومنها دعوى لويس السادس عشر. عين عام 1815 رئيسا لمحكمة النقض. وانتخب عضوا في الاكاديمية الفرنسية.
ـ بيير انطوان برييه Pierre Antoine Berryer (1790ـ1868).
محامي ورجل سياسة. من انصار الشرعية الملكية, ومع ذلك كان مدافعا قويا عن حرية الصحافة, وعن الحق الالهي للملوك. اختاره لويس نابليون الثالث للدفاع عنه (اشرنا لمرافعته في مقال سابق) رغم الخصومة الفكرية بينهما . انتخب عضوا في الاكاديمية الفرنسية عام 1852.
كتب للملك قبل وفاته: " ... قيل لي بان ايامي قد اقتربت من نهايتها. اموت والحزن يعتصرني لأني لم ار انتصار حقوكم في الميراث المكرسة لتطوير الحريات اتي تحتاجها فرنسا. احمل معي هذه الامنية الى السماء من اجل جلالتكم. .. الوداع سيدي. ليحميكم الله ويحمي فرنسا. المخلص لكم, واحد رعاياكم المخلصين. بيرييه.
ـ كيستاف لويس شو داست انج Gustave Louis Chaux d’Est Ange 1800ـ 1876.
محامي ورجل سياسية. من مشاهير المحامين في ملكية جويليه. التحق بالجمهورية الثانية بسياسة لويس نابليون بونابرت. اصبح نائبا عاما لدى محكمة باريس في ظل الامبراطورية الثانية. سمي نائبا لرئيس مجلس الدولة. ترك العديد من المؤلفات منها ماري أنطوانيت ودعوى العقد. قاموس العائلات النبيلة الفرنسية القديمة حتى القرن التاسع عشر.
ـ كلود فرنسوا شوفو لاكارد Claude François Chauveau Lagarde 1756ـ 1841
محامي ورجل سياسة. من اشهر محامي باريس. عرفه الجمهور منذ بداية الثورة عام 1789. عرف بشجاعته الكبيرة. دافع عن ماري انطوانيت بحرارة واستبسال اثارت شك لجنة الامن العام به فاستدعته بعد صدور الحكم في الدعوى المذكورة متهمة اياه بالاندفاع الكبير في الدفاع عن المتهمة, ولكنه استطاع تبرير موقفه. بعد عودة الملكية اصبح محام في مجلس الملك ورئيس مجلس نقابة المحامين, وسمي مستشارا في محكمة النقض عام 1828. سمي شارع في المنطقة الثامنة بباريس باسمه تكريما لذكراه.
ـ موريس كارسون Maurice Garçon 1889 ـ 1967
محامي في نقابة محامي باريس, وكاتب قصصي وروائي, ومؤرخ . والده استاذ مبرز في كلية الحقوق في ليل وفي باريس. رافع في قضايا هامة جدا وعديدة ابان الاحتلال الالماني لفرنسا وبعد التحرر. انتخب في 4 افريل 1946 عضوا في الاكاديمية الفرنسية.
من اقواله ان: " الحقيقة القضائية لم تكن ابدا الا ما يستنتجه القانون. فهي حقيقة احتمالية, قدّرها اشخاص مستقيمون ولكنهم غير معصومين عن الخطأ, يصدرون احكاما, بأفضل ما يستطيعون, لوضع نهاية للنزاع. فاذا ما اعطينا للشيء المقضي فيه قيمة مطلقة في نتائجه فذلك لأنه لا يمكن ترك الخصومات الى الابد دون حل, فقيمتها ليست الا نسبية , بالنسبة للحقيقة الخالصة التي من المستحيل التأكد اليقيني من معرفتها ". L’avocat et la morale, p.50. زادت مؤلفاته على 33 مؤلفا منها: في البلاغة القضائية. العدالة المعاصرة. مرافعة من أجل René Hardy . ...
جاك فرجاس Jacques Vergès (5 مارس 1925). مخضرم ومن اخر اجيال مشاهير المحامين .
والده من جزيرة رينيون ووالدته تايلندية. يعتبر المحامي الاكثر اثارة للجدل في فرنسا. لا أحد من انصاره او أعدائه يشكك بقدراته ومواهبه كمحام. يتهمه اعداؤه بالعداء للسامية. وبانه محامي الشيطان. والمدافع عن الارهابين والنازيين. منعته اسرائيل من دخول فلسطين للدفاع عن موكليه.
لا شك ان ذلك يعود لتاريخه وتوجهاته السياسية. يهاجم القضاء الفرنسي في جذوره. يعتبر خطيبا استثنائيا, جمع بين البلاغة وفن الخطابة وبين التكنيك الحديث فهو خبير لا يضاهى في الاجراءات. يحشد الراي العام كشاهد على القضايا التي يدافع عنها, مقدما موكليه كضحايا. ويعرف كيف يصل الى وسائل الاعلام. توكل اليه القضايا الكبرى.
منذ بداياته اتجه الى اليسار, ساند الجبهة الشعبية منذ ان كان في السادسة عشر من عمره (حصل على البكالوريا وعمره 16 عاما والسنة الاولى في الحقوق وهو في السابعة عشر). تطوع في المقاومة الفرنسية, قوى فرنسا الحرة, عام 1941. وحصل على أوسمة عديدة لبسالته. وبقي محبا لشارل ديغول. بعد نهاية الحرب انتسب للحزب الشيوعي الفرنسي. وانتخب, ضد ارادة حزبه, عضوا في مكتب مؤتمر الاتحاد العالمي للطلاب في براغ وبقي فيه الى عام 1954.
بعد ادائه القسم كمحام اشترك في محاضرات التدريب, وفي مسابقة البلاغة في نقابة محامي باريس, وعمل واحتك بكبار المحامين ورجال السياسة.
عرف جاك فرجاس بعدائه الشديد للاستعمار حتى قيل عنه انه تزوج قضايا الثورة في شتى انحاء العالم. ناضل الى جانب جبهة التحرير الجزائرية ودافع عن محارييها. ودفاعه عن المناضلة جميلة بوحيرد وصل لأسماع العالم في قاراته الخمسة. فقد فضح السلطات الفرنسية الاستعمارية بإيصاله للراي العام الحر الفرنسي ولكل العالم اساليب التعذيب الوحشية التي مورست عليها وعلى غيرها من المناضلين. في احدى الجلسات كما يروي بنفسه قال للقضاة هل نحن في محكمة ام في قبو تعذيب, وحينما وصفه الحاضرون بانه مجرد صيني توجه نحوهم وقال اسمح لي سيدي الرئيس بان اذكرهم انه عندما كان اجدادي يبنون الحضارة كان اجدادهم في العصور الوسطى يأكلون البلوط في الغابات. التوجه للراي العام فوت على المستعمرين تنفيذ حكم الاعدام بموكلته التي اصبحت زوجته فيما بعد لسنوات عديدة.
بعد استقلال الجزائر اصبح جاك فرجاس رئيس مكتب وزير الخارجية الجزائرية. ثم غادر الحكومة ليعود الى فرنسا. عاد عام 1965 , بعد تنحية بن بله عن السلطة, الى الجزائر لممارسة مهنة المحاماة فيها الى عام 1970.
احتفى فرجاس لمدة 8 سنوات عن العالم ولا يعلم احد الى اليوم اين كان ولا المهام التي كان يمارسها, ويرفض هو الاعلان عن ذلك.
من موكليه رؤساء دول, مناضلون سياسيون, وممن يعتبرون ارهابيون من كل الفئات. مسؤولون وموظفون في الدولة الفرنسية, زيادة على طالبي الاستشارة القانونية من هذا المحامي الذي لا يشق له غبار.
في تصريحاته العلنية المتعددة والتي لم يزل يرددها منذ زمن بعيد ان فرنسا ارتكبت مجازر في الجزائر: «ما ارتكبته فرنسا في مدينة سطيف وقالما في 8 ماي 1945 تشكل حسب القانون الدولي والقانون الفرنسي جرائم ضد الانسانية". وبما ان مثل تلك الجرائم لا تسقط بالتقادم فانه يشجع على فتح دعوى بهذا الخصوص امام محكمة الجنايات الدولية.
فرجاس صاحب نظرية القطيعة la rupture في الدفاع الجزائي, وصاحب ما يزيد على 30 مؤلفا, والمشارك في الندوات التلفزيونية كلما دعي اليها, رأى ايضا في المسرح وسيلة نشر للثقافة القانونية فشارك فيه. حياة ونشاط فرجاس أغرى اشهر المخرجين السينمائيين لإخراج فيلم سينمائي بعنوان جاك فرجاس محامي الرعب Jacques Vergès l’avocat de la terreur يروي اهم مراحل حياته كمحام خلال اكثر من نصف قرن. وهذا ما لم يحدث مطلقا في تاريخ فرنسا فيلم سينمائي عن محامي .
وبطبيعة الحال ليس الهدف هو تتبع حياة ونشاط هذا المحامي, اخر الباقين من اجيال كبار المحامين, وانما الاشارة الى ان المحاماة في العصر الجديد غير, في مجال المرافعات, محاماة ما قبل التخصص.
و صولا للقول ان أية مهنة , ومنها المحاماة موضوع حديثنا, للتتطور بتطور المجتمعات, وتنزل على الحديث من متطلباتها وشروطها , لابد لها من اعادة النظر, او حتى هجر, ان كان ذلك ضروريا, بعض التقاليد والمفاهيم والادوات التي لم تعد قادرة على التكيف مع الظروف والمعطيات الجديدة.
تطور وحركية المجتمعات الحية , التي لا تعرف السكون او الجمود, ولا تجتر تجارب الماضي عشوائيا وتقف عندها. يستدعي بالضرورة تطور عمل ووسائل واهداف المهن القائمة فيها. وتطور هذه الاخيرة يساهم بتطوير تلك المجتمعات نفسها. فالعلاقة هنا جدلية والتأثير متبادل ومستمر.
وعليه, لم يعد في عصرنا الحالي وجود للمحامي المحيط. او الاستاذ العالم العلامة. أو الشيخ الفقيه بكل علوم الدين والدنيا. او الطبيب الشافي من كل الامراض والعلل . او الفيلسوف الحكيم . فالكل لا يعرف الا جزءا محدودا من الكل غير المحدود.
ومع ذلك, و يا لسخرية القدر, في مكان وحيد من هذا العالم, وفي عصر فريد لا يراد له ان يكون في عصره, لا يزال من يدّعي بالأصالة عن نفسه, او يدّعي بالوكالة عنه وله منافقوه "ومثقفوه" واعلاميوه, بإحاطته بكل علوم العصر الدقيقة والاجتماعية , بما فيها السياسة بفروعها والاقتصاد بأنواعه , والعلوم العسكرية الاستراتيجية والتكتيكية. والكتابة والتأليف بالأدب والتنظير والتاريخ, وعلم الوراثة والتوريث, والانساب والاصول. واصدار النصائح والارشادات والعطاءات والهبات. والاقوال التي تصبح مأثورة فور الصدور. وبالقوانين والمحاماة وفنون وأصول المرافعات بكل اللهجات الا بليغها وفصيحها. واصدار القرارات والاحكام المتعلقة بكرامة ومصير الانسان والاوطان. وبالغيب وخفاياه. انه التخصص في التخصص وهو مهنة ومهنية الحكام العرب في دنيا العرب, وليس في ذلك من عجب. فقد يضع الله سره في اضعف خلقه, حسب الدراويش.
ولكن العجب كل العجب ان كلما زاد تردي البلاغة, والفصاحة, والمنطق, وانحطت الاخلاق والقيم, وانتشر الفساد والاضطهاد , واصبح الحوار بالصفع بدل اللسان, وبالسجن والجلد بدل القلم والبيان, وغاب الوعي كنتيجة , أو غيبه الواعون انفسهم لإراحة انفسهم, و تشوهت المهن والحقت جميعها بالسلطان, وسدت كل الجهات عدا الخلفية منها, كلما زاد ردح الرداحين وشرب التابعون للثمالة نخب الوطن على جثة الوطن.
فهل, والحال هذا, يمكن ان يلد في دنيا العرب فطاحل المحامين؟ (مع فائق الاحترام لكل محامينا ومرافعاتهم رغم قساوة الظروف) وان ولدوا من اين تأتيهم البلاغة والفصاحة او التكنيك والتخصص اذا كان النطق بالحق خارج امكانية النطق؟ ومن يضمن سلامة اللسان وحصانة صاحبه؟ واين سيادة القانون ليدافع عنها المدافعون؟.
د.هايل نصر.
التعليقات (0)