كمال غبريال
نرتاد السيرك على سبيل التسلية والتشفي معاً، التسلية بما نراه من عروض يختلط فيها الفن باللياقة البدنية العالية، والتشفي بأن نرى الحيوانات القوية الضارية، وهي تطيع مروضها الإنسان حامل الكرباج، فنرى أسد الغابة "يعمل عجين العجوزة" و"نوم العازب"، نسعد داخلياً بقدرة الإنسان (حامل الكرباج) على تحويل الأسد إلى قرد أو إلى بلياتشو، يقوم صاغراً بكل ما يؤمر به. . ربما لم يفكر كثيرون، إن كان ما يعرضه السيرك هذا حقيقة أم إيهام وخديعة، وهل ما نشاهده يتقافز ذليلاً، هو بالحقيقة الأسد ملك الغابة، وقد خضع أخيراً لمشيئة الإنسان، أم أننا نشاهد كائناً آخر، يقدم لنا في زي أسد؟
الحقيقة التي ربما نعرفها ولا نحب أن نعترف بها، هي أن ما نشاهده من حيوانات ضارية مطيعة وخنوعة، لا تحمل من مواصفات الضواري غير الشكل الخارجي، أما قلبها فقد أفرغ تماماً من محتواه الطبيعي، وتم حشوه بقلب آخر من صنعنا. . فما نشاهده من حيوانات لم يسبق لها أن رأت موطنها الأصلي الذي هو الغابة، ولم تحي حياة البرية، وتتطبع بما تمليه عليها من طباع وتكسبها من مهارات. . هي حيوانات ولدت في الأسر داخل السيرك. . تعودت الذلة والمسكنة تحت تهديد السياط، كما لم تعرف أنها تستطيع الحصول بنفسها على طعامها، بل تدربت على الانتظار الذليل أن يجود به عليها سيدها الإنسان. . تم تدريبها على أن تؤمر فتطيع صاغرة ذليلة. . فهل بعد هذا يمكن أن نعتبرها حيوانات مفترسة، لمجرد أن شكلها الظاهري يوحي بذلك؟
أتصور أن أمر الإنسان في منطقتنا، يشبه إلى حد كبير أمر حيوانات السيرك هذه. . فإذا قارنا بين الصفات الشخصية ورؤية الإنسان الغربي أو إنسان الشرق الأقصى لذاته، وبين تلك التي لإنسان الشرق الأوسط، سنجد البون شاسعاً بين هنا وهناك، بحيث لا يعد من قبيل المبالغة أن نقول أن التشابه بين الجانبين، لا يعدو أن يكون في الشكل الظاهري، أو في الصفات التشريحية، التي لا تتطرق إلى الفكر والنفسية، التي تشكل معالم الشخصية، ليكون علينا إن صح تصورنا أو زعمنا، أن نبحث في الأسباب التي أدت إلى تلك الفوارق الكبيرة، داخل جنس واحد هو جنس الإنسان.
للإجابة على هذا السؤال اختلف الباحثون، فذهب البعض منهم مذهباً عنصرياً، يرجع الاختلاف إلى أسباب بيولوجية، في أساس التكوين الجيني للإنسان، ورتب هؤلاء البشر إلى مراتب وفق أعراقهم، فوضعوا البعض على رأس القائمة، والبعض الآخر في أسفلها، كما فعلت نازية أدولف هتلر، وفاشية بينيتو موسيليني، وما كانت الحرب العالمية الثانية إلا محاولة تسييد الشعوب التي اعتبروها الإنسان الأعلى، على تلك الشعوب التي عدوها في مؤخرة القائمة، وفي هذا المسار أيضاً كانت المذابح والمحارق لليهود، الذي احتلوا مرتبة متأخرة في القائمة النازية.
أرجع بعض آخر الفروق بين الشرقيين والأفارقة وبين الغربيين إلى العوامل الجغرافية، من مناخ وتضاريس، تطبع الإنسان بطابعها، فيكون الإنسان في المناطق الحارة مثلاً كسولاً لا ينحو لإعمال العقل، في حين يكون في المناطق الباردة نشيطاً ذكياً. . . . وهكذا الكثير من التنظيرات، التي تجعل من دونية الإنسان الشرقي قدراً -بيولوجياً أو جغرافياً- لا مهرب منه.
إذا قررنا تجاوز تلك التصورات والتنظيرات، التي لم تجلب على البشرية إلا الحروب والخراب، وذهبنا مباشرة إلى النتيجة الماثلة أمامنا، وهي شيوع ثقافة شرقية خاصة في تلك المنطقة من العالم، ربما قد ماثلت في عصور ما حقباً ظلامية مماثلة مرت بها مختلف الشعوب، لكنها انقرضت أو تجاوزتها جميع شعوب العالم، فيما بقيت هنا راسخة، وربما تزداد رسوخاً وفاعلية، كلما ظهر التباين بين أحوالنا وأحوال كل آخر. . ثقافة تحول إنسان الشرق كما لو إلى كائن مختلف كل الاختلاف، عن الكائنات الإنسانية في كل الشعوب التي شقت طريقها نحو التقدم والحداثة. . تعتمد ديمومة تلك الثقافة المستأصلة لإنسانية الإنسان على عنصر التنشئة والتربية. . فالمفترض أن التربية تهدف لتأهيل الإنسان لمواجهة الحياة، وتعظيم وصقل قدراته. . فنظرة مقارنة متأملة للقيم التي تم تلقينها لنا، ونلقنها نحن بدورنا لصغارنا، كفيلة بأن تكشف لنا السر في ضعف واستضعاف إنسان هذه المنطقة، وفي خنوعه لحكامه، وعجزه عن إنتاج خبزه، وفي النهاية وقوعه فريسة لأيديولوجيات الكراهية والإرهاب، كمهرب سهل من الفشل المزمن الذي يواجهه، إزاء كل متطلبات الحياة. . في مقابل شعوب أخرى كشعوب الشرق الأقصى، عرفت طريقها نحو العصر، بل وصارت منافساً وشريكاً قوياً لشعوب الشمال والغرب المتطورة والمتقدمة. . وكانت البوابة التي دخلت منها تلك الشعوب إلى مسيرة التقدم، هي إيمان الإنسان الفرد بأنه سيد مصيره. . إيمانه بقوته الذاتية، وبقدراته الشخصية والعقلية، التي بها وبها وحدها، يستطيع أن يتغلب على كل ما يواجهه من صعوبات، في حين بقي إنسان الشرق الأوسط يستشعر ضعفه وهزاله، مستسلماً لقدره، ولسادته الذين يعدونه بعون يأتيه من السماء، يبدل حاله من الكرب إلى الفرج، ما إذا لم يتحقق في هذه الحياة الدنيا، فإن المصير السعيد لابد سينتظره في العالم الآخر!!
المشتغلون والمرتزقون بالمقدس هم من يقومون بدور الحراس والمعلمين والمروجين لذلك النحو من التربية للأجيال. . وهم أيضاً أصحاب المصحلة فيما يترتب على استضعاف الإنسان، وشعوره بالمسكنة وانعدام الحول والقوة. . فلكي يصيروا هم سادة، لابد لهم من عبيد يستمرؤون العبودية، ويؤمنون في أعماقهم أنهم لا يستطيعون العيش إلا في ظل سيادة سادتهم، هؤلاء الذين يبررون تلك السيادة بتنصيب أنفسهم وكلاء للإله على الأرض، وبأن من يخالفهم يذهب بنفسه إلى الضياع، لأن العون السمائي في هذه الحالة سينقطع عنه. . في ظل مثل هذه الثقافة التي يتم رضاعتها مع لبن الأم، ينشأ الفرد هشاً مستشعراً الضعف والهوان والعجز عن التقدم بمفرده ولو خطوة واحدة. . وتصبح الحرية مرادفاً للضياع، وتنعدم المسئولية عن الذات، باعتبارها غير قادرة على أن تقرر الصالح لنفسها، فالخير والأمان هو في الانطراح على أعتاب رجال الله المقدسين، الذين يتلقون البركات والتعليمات الإلهية، ليمنحوها لمن يستحق من عبيدهم المطيعين الطيبين، ويمنعونها عن كل من يتجرأ على عصيانهم، أو على الإيمان بأن الله خلق الإنسان كامل القدرات، وقادر على مواجهة كل ما يعترضه من مشاكل بقواه وإمكانياته الذاتية، دون الحاجة لأسياده وكلاء الإله.
هكذا يفقد إنسان هذه المنطقة منذ ولادته إيمانه بذاته، ويستبدلة ليس بالإيمان بالله –كما يتم تصوير الأمر له- وإنما بالإيمان بقدرات من صار يلقبهم بأصحاب الفضيلة والقداسة، الذين إذا ما تحدثوا فإن الإله هو الذي يتحدث، وإذا ما مسحوا بأيديهم على جبين الإنسان، فإن الله ذاته هو الذي يمسحه ببركات مقدسة.
هذا هو ما يحدث للإنسان بصورة عامة، في سيرك الشرق الأوسط الأوسط، حيث تجتث من داخله كل قدرات الإنسان، فلا يتبقى من إنسانيته غير المظهر الخارجي. . لكن المرأة في منطقتنا لها تربية أخرى، تؤدي لإستئصال أكثر عمقاً وجوراً لإنسانيتها. . فعملية ختان المرأة، والتي فيها يتم استئصال حيوي لجزء من جسد المرأة، لها ما يماثلها وربما بأكثر عمقاً في تربيتها، وما يترتب عليه من نظرة المرأة لنفسها، ونظرة المجتمع الذكوري لها.
تنشأ المرأة على أنها مجرد كائن جنسي، هو مصدر لكل إغواء وشر، ولا سبيل لدفع هذا الإغواء إلا بلفلفتها في السواد. . وأنها منقوصة القدرات الشخصية والعقلية. . تتصور المرأة نفسها بالفعل على هذا النحو، وليس لنا أن نستغرب بعد ذلك، إذا رأيناها تحصر نفسها في تلك الدائرة، بل وتتصرف بعضهن بناء على تلك الصورة، أي ككائنات جنسية محضة. . لا نزعم أو نتصور بناء على هذا، أن المرأة قد رضخت بالكامل لتلك التربية، كما لا نزعم أن كل الرجال قد رضخوا لوضعهم كعبيد معدومي الحول والقوة، وإلا لما وجدنا بمجتمعاتنا ثواراً ومصلحين ودعاة استنارة، ولما وجدنا رائدات من النساء، يتمردن على مجتمعهن وتربيتهن، بل ويفقن الرجال في الأداء العملي والتحصيل العلمي.
إن الصورة ليست بالتأكيد على ما قد يبدو من سطورنا السابقة من سواد، ذلك أن ضرورات الحياة العملية، واتصالنا بالعالم والارتباط به، تجرنا جراً إلى ثقافة وروح مضادة لكل ما نؤمن به وما نشأنا عليه. . هو صراع إذن بين السائد الموروث، وبين قيم العصر وضروراته. . هذا الصراع الذين يعاني فيه دعاة الاستنارة والتحرر الأمرين، سواء من المهيمنين وأصحاب المصالح في دوام الحال، من حكام وحلفائهم رجال الدين، أو من الجماهير المنومة والمبرمجة وفق ما تربت عليه وآمنت به كأنه الحقيقة المطلقة.
يمكنني ببعض الثقة (وليس كل الثقة) أن أتنبأ بأن العصر لا ولن يسمح لمجتمعاتنا أن تظل غارقة في مستنقع عبوديتها وضعفها طويلاً، وأن الجماهير لابد وأن تستيقظ تدريجياً. . وأن الذين يعتلون مناصب السيادة علينا، لابد وأن يجدوا أنفسهم يوماً جالسين على الأرض مثلنا، وربما عندها سيبدأ كثيرون منهم في البحث عن عمل منتج وشريف يتكسبون منه قوتهم، بدلاً من الحياة على ما يدر ادعاء السيادة والقداسة عليهم من ذهب وفير.
kghobrial@yahoo.com
التعليقات (0)