المرأة في عيون محمود المصلح

المرأة في عيون محمود المصلح
ليست كباقي النساء ، لم تخرج من تحت عباءة الصمت ، ولم تعرف حدود الكبت ، فيها من الصمت الكتوم ما يفهم وهي صامته كما لو تكلمت ، وإذا تكلمت أوجزت واختزلت الكلمات في حروف والحروف في حركات الشفاه ، مطيعة بقدر ما فيها من الرفض ، عصية على الفهم . لأنها كل يوم في شأن من الود والحب ، تتقلب من طيب إلى أطيب ، تغسل آثامها قبل النوم بلحظات بجحيم من القبل ، ولحظات من الهمس المطوق بالعناق ، وتعفو عما بدر في النهار ، وتترك ما كان خلف الباب ، تتقن ما تريد بقدر ما تعرف حاجتها ، متى تبدأ ومتى تتوقف بالقدر الذي تدرك أنني اشتاق أو اعرض ، ولها في ذلك فنون ..

مرسومة بظاهر اليد على القلب واليد واللسان .. تتقلب فيهما براحة المحب العاشق .. تعرف أن لحظة الحظ لا تعوض .. لا تطيق الهجر ..كما أنها لا تستطيع عليه .. تنظر إلي كسلطان . تقدم الكأس مترعة بالحب والرضا أكثر مما فيها من حاجة البطن .. كأنها تدرك أن القلب يشتاق ويحتاج أكثر مما يحتاج بيت الداء .. تعرف الدواء لكل عارضة تلم .. وهم يلوح .. تفاتح القلب بما يحب .. وتخاطبه بما يهوى .. لا تسأل عن أشياء وان بدت خافية سرية تغري بالسؤال .. ولا تفصح عما كان واضحا شفافا .. وتترك الأمر معلقا رهنا بالمفاتحة إذا أحببت وإلا فلا ..

تختزن في عقلها الجمعي خبرات بنات حواء ، من حب ومكر وذكاء وعاطفة جياشة عصية على الإدراك ، لتبدو كأنها تفنى من أجل الآخر وتموت ، ولا تظهر أنانيتها اللصيقة بها ، لأنها تعرف أن في ذلك منزلق الهاوية ، التي تهوي بها وبمن معها ، فتستبدلها بمهارة الفنان بفضيلة الآيثار والتضحية والبذل والعطاء ، لترسم معالم الأنثى كما يتمناها آدم ..

ولتكون زوجة وحبيبة ، تمنح من ذاتها ما يضفي على حياتها ومن تحب أفضلية ، وتمسح على الجرح فيغدو هينا لينا ..وتهون الصعب بما تملك من قلب يتسع لكل محب ، ولترقى إلى مراتب أعلى وأسمى في البذل والحب والتماهي في الآخر عندما تعرج إلى مرتبة الأمومة ، ولتوسم وتسمى بأنها أم ، هنا القلب يأخذ بعدا ليس له حد ، والعطاء يتسع والحب يكبر ، لتبقى تنتقل من بذل إلى حب إلى عطاء ومنح .. وتدور في نبذ الذات ، وكأن حياتها تتمحور في الحب .. ليشمل المعنى معنى الحب الاشمل والأكبر في الكون .

ومطلعة على أهواء آدم ، كأنها دارسة متفحصة ، تعرف خباياه ، وتعرف نواياه ، وتدرك رغباته ونزواته .. تصفح حين الصفح مطلوب ، وتعذر عن كل خطيئة مردها ضعفه ، لأنها تعرف أن مرده إليها ولو بعد حين ، تترك الأمر ليبدو كأنه مهمل بلا اكتراث وهي ترقب بعين الحريص الحصيف اليقظ ، وآدم يلعب على هواه ظنا منه أنه حر طليق ، ولفرط جهله يظن أن حواء نائمة ، ولا تعرف ما يدور في خلواته .. وما يصدر من هفوات ..

تشكل شاطئ لبحار بعد سفر ، وملتجأ لفار بعد مطاردة ، وتفتح آفاقا لمن ضاقت به كل ضائقة ، تتفتح كل صباح كما لو أنها وردة في صحراء قاحلة ، تتضوع بأريج وعطر يتجدد كل يوم ، تغتسل بالندى ، تمد يدا بالطب وأخرى بالطيب كأنها طبيب ، تخرج من بين الصعاب كأنها مخلص .. تسهر حين يكون النوم رغبة جامحة ، وتنهض مع كل فجر لترسم صورة الغد القادم .. وهي تقف على الباب لتودع فلذات الأكباد أو حبيبا مسافرا ... أو تحتضن بعد غياب حبيبا قادما أضناه الاشتياق كما أضناها وأسهرها على النافذة أو على الباب في لحظات الانتظار ..

هنا تدرك بعقل حواء المتنور ، وقلبها اليقظ ، أن لحظة عناق على الباب بعد الغياب تساوي مالا يمكن عده ، ولا يمكن وصفه .. لتقول : (مسكين من لا يحظى بلحظة عناق على الباب بعد غياب ) ..تلك لحظة ترتسم فيها معاني اكبر من أن توصف ، واكبر من آن يحاط بما تنظمن من معاني العناق والشم واللثم والقبل ..هي لحظة ترد فيها الروح إلى صاحبها .. وهي لحظة تنسي ما فات من أسى ولوعة وأذى .. تنهمر دموع هي للبكاء اقرب .. ولكنها من السعادة والحياة .
ومن حواء ما تصوغ اللحظة الأثيرة قبيل أو بعد اللقاء بشعر أو قصيد يذوب له القلب ، لتبقى اللحظة كأنها لا تنتهي ، ولكن آدم يحن إلى الفراق .. وكأنه يستمري العذاب لنفسه وغيره من الأحباب.. أو ربما يبحث عن لحظات عناق أخرى أكثر عند الباب بعد الغياب ، بعد أن ذاق حلاوتها وخبر طعمها ..
لتبقى تلك اللحظة ناقوسا يدق في عالم الذكرى كلما عنت على البال لحظة فراق أو لقاء أو جفاء ... تأتي تلك اللحظة تتحدر من غيهب الماضي البعيد .. تمسح وتسمح .. فيكون وئام وحب .. ليبقى فظل للحظة ومفعولها دائما لا ينسى ..