عالم نحو اللاقطبيّة
المذهب والوطن .. أخلاقيات العلاقة واستشراف المستقبل «2-2»
علي آل طالب:
التقدم الحضاري يستلزم التواصل المثمر على الصعيدين الداخلي والخارجي، واستيعاب لاحق الثقافة السياسية وسابقها، وتمثلها، وإعادة إنتاجها، فهذا هو السمة المميزة للنهوض الحضاري، ولو أدى ذلك إلى قمع الغرائز الاطماعيّة حسب رؤية فرويد. تأسيسًا على ذلك ومن أجل قطع الطريق أمام الدولة الاستبدادية، دولة الإكراه، وكل ما يُكرس ثقافة تمجيد الطاعة العمياء، وللخروج من الأزمة الخانقة بأسرع وقت لا بد من إعادة التقييم للتجارب البشرية فيما يتعلق بمسألة أداء الدولة وتطبيقاتها في إدارة شؤون البلاد والعباد، وما ينعكس من أثر على حراك الشعوب. وليس القياس يأتي في بلورة مفهوم الدولة وإعادة صياغته بقدر ما يكون اتسام سلوك الدولة نفسها بنظام أخلاقي شفّاف وواضح، يتم ترجمته في أدائها وتطبيقاتها، ومداراتها لحاجات الناس ومتطلباتهم، وقد شدد الفيلسوف هيغل على فكرة الدولة الكليّة الجامعة للفضائل والأخلاق والقادرة على ضمان وحدة المجتمع المدني بمختلف طوائفه ومذاهبه إلى ترجيح المعايير الأخلاقية الخلاّقة.
يأتي مثل هذا الحديث وليست الشريعة الإسلامية بمعزل عن التفكير بما ينفع الناس ويراعى فيها مصالحهم، بل إن أمر الأخلاقيات التي ينبغي أن تتسم بها تصرفات الدولة، فذلك ما يدعو إليه الدِّين. فالدولة تكون هشة إن لم يتجسد فيها نظامٌ أخلاقيُ ليردع فيها حالة التوحش وربما العنف أيضًا، ويقول ماكس فيبر: إن العنف ليس الأداة الطبيعية الوحيدة للدولة، ولكن العنف هو الأداة المميزة لها. والنظام الأخلاقي بالضرورة يعزز مقدرتها للسماح للقوى الاجتماعية كافة بمختلف تنوعاتها بمزاولة حرياتها الطبيعية، أي أن إطلاق الحرية هو بذاته الشرعية لهذه الدولة. وغاية الدولة في الواقع هي الحرية حسب اسبينوزا. عندها يكون فهمنا للدِّين منسجمًا مع طبيعة الحياة، ويكون مفهوم العدل في حالة وئام مع التقدم والتطور، ويكون تقدم الدولة وتطورها مرهون إلى ما تقدمه من خدمات للمجتمع برمته، إذن هي الدولة المدنيّة.
وبغض النظر عن مبدأ الخلاف في الصورة التي ينبغي أن نخرج بها إزاء مفهوم الدولة الحديثة، سواء كانت تقترب من الدِّين أو تبتعد عنه، فهي لا تكرس الصورة النمطيّة للدولة الإسلاميّة التاريخية، وليست أيضا صورة من الأصل عن دولة المثال في الوقت المعاصر، لا سيّما والعالم برمته لا يزال يكتوي بغلواء التابو الديني، والذي أعاد ساعة الزمن بالعالم العربي والإسلامي للخلف لمئات السنين، إذ انشغل الإنسان العربي بتأمين حياته المادية أكثر منها الحياة ذات الطابع الحيوي. ولأن الفكر هو حصيلة تفاعل ذهني وجداني مع الواقع، ما برح العقل العربي مُختطفًا للماضي، وبالتالي ليس عليه من شأن ليفكر فيما يعقد الصلة بين الإنسان واللحظة الراهنة وتدبيره لشؤونه في الحياة! بمعنى أن مأزق الفكر العربي المعاصر يكمن في توسلاته بالقراءة المؤدلجة ليس لخزائن التراث في الماضي فحسب، بل للحاضر والمستقبل أيضًا. لكن هذا لا يعني أن نجعل من التجربة الغربية هي المعيار المستوجب للحضارة بقدر ما أن نحاول جاهدين لموآنسة تلك التجربة مع المنحى السيوسولوجي للتأريخ الإسلامي.
بموازاة ذلك تكون الدولة قائمة على القانون المعبر عن المواطنة باعتبارها الجهة الوحيدة المتفق عليها من جانب المجتمع بكل مكوناته المتعددة، فلا طائفيّة ولا مذهبية ولا قبلية ولا عرقيّة يُحتكم إليه أمام قانون المواطنة الذي يحترم الخصوصية للتعدديات والتنوعات الاجتماعيّة كافة. فالدولة المدنيّة على هذا الأساس تكفل حق المواطنة في الانتماء الوطني، ويتساوى جميع المواطنين أمام القانون، وتضمن حرية الاعتقاد دون محاذير أو قيود.
الدولة المدنية .. المذهبية أم الوطنية
وعلى اعتبار العمل بمبدأ المواطنة بوصفه المقوّم المهم من مقومات الدولة المدنيّة، فإن ذلك يواجه تحدٍ كبير بالنسبة لبعض المجتمعات العربية، وذلك قبالة التعددية الاثنيّة والمذهبيّة والطائفية والقبليّة، وأعتقد أن واقع الحال في العراق مثلا يكشف عن ذلك التحدي، وعلى الرغم من وجه التغاير ما بين المكون الاعتقادي كمذهب إسلامي والدولة كمفهوم ينظم الحياة العامة للمجتمع، إلاّ أن ذلك لا يلغي الدور التكميلي ما بين الجهتين واتحادهما في عملية البناء والنهوض، لا سيّما ونحن نمضي مع فكرة مأسسة المجتمع بكل تنوعاته، بمعنى أن تتلاقى الإرادات - الاجتماعيّة والاقتصاديّة والدينيّة والمذهبيّة والعرقيّة والقبليّة كافة - بشتى أشكالها المتعددة في نسقيّة المواطنة وذلك فيما يتعلق بالتمثيل السياسي الداخلي والخارجي بحيث يسود مبدأ بناء الدولة وتعزيز قدرتها على النهوض فيما يتعلق بإدارة البلاد والعباد يكون تحت مظلة الدولة المدنيّة.
هذا لا يعني تخلي هذه المكونات عن ثوابتها الخاصة ومعتقداتها المؤمنة بها وذلك تحت ضمانة حرية الاعتقاد بقدر ما تدخل هذه المكونات في ميثاق اجتماعي يكون العنوان الأسمى هو المواطن وخضوعه السياسي للوطن، بل للدولة المدنيّة، دولة المؤسسات، المقرة بمبدأ التعدديات، والقائمة على التوافق والتفويض. ولا يخفى أن البعد الديمغرافي في العالم العربي والخليج تحديدًا يلعب دورًا كبيرًا ليس في عملية التداخل والتقارب الناجم عن اطِّراد في التَّحدر والأنساب فحسب، بل لما تفرزه طبيعة التوسع والانتشار من تمازج ديني ومذهبي وثقافي لا يقر ولا يعترف بالحدود الجغرافيّة. وكما يبدو هذه طبيعة كونيّة لا تستثنى منها الجماعات كما الأفراد، وهذا مصير الديانات والمذاهب وكذلك الثقافات.
ولأن محور حديثنا يتركز على الإطار المذهبي على وجه التحديد، والذي وإن تماهى مع المعتقدات والأفكار كملاك خاص، إلا أنه يختلف عن ذلك باعتباره محل تجاذب سياسي بالدرجة الأولى، سواء كان في المجتمع الصغير الواحد أو المجتمعات الكبيرة المتعددة، فالمذهبان: السني أو الشيعي - وليس ذلك على سبيل الحصر - لا تحدهما رقعة جغرافية معينة، فهما في الوقت الذي يكونا أكثرية في بقعـــة جغرافية مــــا، يكـــونا أيضًا أقليًّة في بقعة أخرى. ويجدر بنا أن نشير إلى أن المقصود هنا ليس الأكثرية والأقليّة بقدر ما هو المعــنى حسب الأثر السياسي ومــــدى انعكاس ذلك على فعل الدولة، وهذا من شأنه أن يثير تســـاؤلات عـــدة، أبرزهــا: هل الولاء السياسي يكون للمذهب أم للوطن؟
بطبيعة الحال وحسب التشكل الراهن للنظام السياسي في معظم الدول العربية، والتي يغيب عنها العمل بنظام مؤسسات المجتمع المدني أو العمل وفق المشاركة الشعبية في صناعة القرار، أو في عدم اعترافها بقانونيّة ودستوريّة العمل بمبدأ المواطنة، أو الاستئثار الديني والمذهبي بالحكم وقصره على ديانة بعينها أو طائفة بذاتها، كل ذلك ولا شك يساهم في الفوضى، فلا عجب عندها فيما لو غردت طائفة مذهبية بأطرها الخاصة خارج السرب الوطني العام، خاصة وهي أي الطائفة يتملك الشعور بأنها جهة غير مرغوب فيها، مما يهيئ على خيارين: خيار الانعزال مع ذاتها، وخيار الانفتاح على الآخر. ونعني بالآخر هنا الجهة الخارجية المتوافقة أيديولوجيًا وروحيًّا. علمًا أن مثل هذه الطائفة ستكون قد خرجت عن النسيج الوطني الداخلي. بالتالي لو أنتجنا سؤالا في هذا الصدد وقلنا، ما هي المدعاة التي تجعل من هذه الطائفة تنكفئ على ذاتها أو تنطلق مع الآخر الموافق أيديولوجيا وكل ذلك خارج النسيج الوطني؟ سيأتي الجواب بكل بساطة: لإحساس هذه الطائفة بالغربة في أوطانها، بمعنى لا يوجد قانون شفاف ولا وضوح في الرؤية تجاه مفهوم الدولة الراهنة!
والخطير في الأمر أن حالة التخبط والخلل الناجمتين من عدم مفهوم الدولة الراهنة، يجعل من هذه الطوائف والمذاهب محل توظيف للنزاعات وإثارة الفتن من جانب قوى خارجيّة أو داخلية مع فارق النسبة الموضوعية والمعيارية، وأحسب بلاد العراق خير شاهد على ذلك. حاولت ولا تزال أمريكا وغيرها ممن اجتمعت مصالحهم على إضرام نار الفتنة بين الشيعة والسنة هناك؛ للمراهنة على اذكاء الانقسامات بين أبناء المجتمع الواحد. والحال هذا يجعل من الدول المجاورة للعراق كافة مهددة بالمشكلة نفسها مع تغاير الظروف والبيئة السياسية، وإلا ما الذي يجعل بعض الدوائر الدبلوماسيّة السياسية لأمريكا وفي وقت من الأوقات عند تفجر الأزمة الطائفية في العراق أن تعزف على سيمفونية التقسيم لمعظم منطقة الشرق الأوسط على أساس طائفي أو عرقي، حيث كانت أمريكا قد نصّبت من نفسها ناطقًا عن الأقليات المذهبيّة في الخليج والسعودية على وجه التحديد على سبيل الضغط على هذه الحكومات، لا لشيء سوى أن المصلحة تقتضي استخدام مثل هذه الأوراق غير الملتفت إليها من جانب بعض الأنظمة في الخليج. أما اليوم وبعد مجيء باراك أوباما لمقاليد الحكم على الولايات المتحدة الأمريكية، واعتراف الحكومة السابقة بفشلها الذريع في تطبيق مشروعها الكبير في منطقة الشرق الأوسط، إنه ومن المرجح وبدلا من أن تنحو الأنظمة العربية باتجاه الإصلاح الحقيقي وتبدأ مرحلة مصالحة مع شعوبها من خلال تطبيقها للفعل الديمقراطي، فإن من المتوقع أن تعود الأوضاع لسابق عهدها، وأن تتراخى هذه الأنظمة إزاء المشروع الإصلاحي خاصة من بعض الدول التي أخذت على نفسها العهود والمواثيق بالمواصلة في عملية الإصلاح السياسي التدريجي من أجل التأسيس لفضاء ديمقراطي حقيقي شيئا فشيئا. بحيث يكون ذلك عن قناعة داخلية، لتعبر عن تلاحم حقيقي، تكون فيه القوى الاجتماعية كافة على خطٍ موازٍ مع الفعل السياسي الرسمي لتحقيق ما من شأنه أن يؤمن حياة ديمقراطيّة كريمة، وأعتقد هنا تأتي أهميّة القناعة بالتغيير من الداخل وعدم التعويل على الخارج بتاتًا.
يأتي مثل هذا الحديث والذاكرة السياسية لدينا تستحضر تمظهرات الابتزاز الأمريكي لبعض الأنظمة العربية للمباشرة في تطبيق برنامج الإصلاح السياسي، في الوقت الذي أبدت هذه الأنظمة تعاونًا كبيرًا في تمرير برنامج احتلال العراق، صحيح أن حجم الضغوطات التي مارستها الإدارة الأمريكية آنذاك لم يصل إلى استخدام القوة، إلا أنها ولا شك وعبر طرق دبلوماسيّة تارة أو إلتفافيّة تارة أخرى، إلا أنها لم تفلح! ليس لأن أمريكا لا تريد؛ بل لأنها لم تكن جادة في الأمر خاصة وبعد أن وصلت حركة حماس إلى الحكم من خلال توسلها بالنهج الديمقراطي، وحصول الإخوان المسلمين في مصر لأكثر من 80% من الأصوات. وهذا ما جعلها - أي أمريكا - أن تعيد حساباتها من جديد وفق ما تقتضيه مصالحها حتى لو تطلب الأمر بقاء الحال السياسي في العالم العربي على ما هو عليه!
ما ينبغي الالتفات إليه في هذا السياق هو أن مرحلة بوش قد تميزت بسياسات لا يعتقد أن أوباما سيكررها، ليس لأنه لا يريدها، بل لأن المؤسسة العسكرية والأمنية وحتى السياسية في الولايات المتحدة لن تمررها، ومعها الشارع الأميركي، أعني تلك السياسة القائمة على التركيز على منطقة الشرق الأوسط لحساب الأجندة الإسرائيلية. وفي سياق آخر ومن باب مصائب قوم عند قوم فوائد استنفذت هذه الأنظمة - وفي فترة من الفترات - الطرق والأساليب كافة من أجل توصيل رسالة إلى أمريكا وإقناعها بأن الأمر لم يعد مجرد العمل بالديمقراطيّة، إنما ما يترتب على ذلك من وصول الإسلاميين لمواقع صنع القرار. حتى أن النتائج العملية الانتخابية التي أجريت للمجالس البلدية دورتها الأولى في بلد مثل السعودية أسفرت عن بلوغ شريحة كبيرة من الإسلاميين. فلربما ذلك وغيرها من القضايا ساهم في تخفيف حجم الضغوطات الأمريكية الرامية لتطبيق الديمقراطية والعمل بمشروع الإصلاح السياسي. خلاصة الأمر أن التغيير الداخلي لا بد أن يأتي عن قناعة، وعلى الحكومات العربية أن تبادر هي بنفسها للبدء بمشروع حقيقي يبلور مفهوم الدولة المدنية والحديثة، وليس ذلك من أجل تضييق الخناق لأي تدخلات أو ضغوطات خارجيّة بقدر ما هو قطع الطريق أمام كل ما يؤدي إلى استغلال مواطن الخلل في طبيعة العلاقات ما بين المكونات الاجتماعية، الدينية والمذهبية والطائفية والعرقية كافة وغيرها.
ناهيك عمّا يبشر به الفكر الظلامي التكفيري والذي لا يقتصر في حراكه العنيف على استعداء الآخرين فحسب، بل العمد في إباحة الدم البريء، بمبرر أن هؤلاء أصحاب بدع وضلالة، وعلى أثر ذلك يستحقون القتل، وهم بذلك يدعون عن الله عزّ وجلّ الوكالة في الأرض، وأنهم الحقيقة المطلقة وما عداهم الباطل المطلق. فإن كانوا قد وجدوا في العراق وأفغانستان والجزائر ولبنان ساحات لتنفيذ مخططاتهم وبصورة ربما لا يتصورها المختصون في شؤون الإرهاب وما يلمسونه من تطور ونمو في الطرق والأساليب التي يستخدمونها في عملياتهم العنفيّة، فهم ولا شك على مسار صاعد في ابتكار خُططًا وأساليب ترقى في مستوياتها لأساليب والتكتيكات الجيوش النظاميّة لئلا يفوت العالم العربي والإسلامي الالتحاق بقطار التغيير الجذري في ظل تحولات كونيّة جذرية، ليس المطلوب أن تنفرد السياسة العربية لوحدها في تقرير المصير الاستراتيجي، بل لا بد من تهيئة المناخ الداخلي للمجتمع العربي بشتى أشكاله وأنماطه إلى ميثاق نسقي اجتماعي وفق الرؤية الدولة المدنيّة، والأخذ بمبدأ المواطنة القائم على منظومة من القيم الحقوقية، والتي من شأنها تنظيم العلاقة ما بين المذهبية والطائفية والدولة. بحيث لا يقتصر الأمر على ذلك فحسب، بل وتشمل هذه المنظومة إلى عقد اجتماعي بين المكونات الدينية والمذهبية والفكرية كافة في المجتمع الواحد، وهذا ولا شك بمجرد العمل به سيكون بمثابة الرافد الواقعي للتغير المطلوب. إذ لا يصح أبدا أن تستفرد جهة على أخرى بالقرار التاريخي في تقرير حق المصير الحضاري، كما ليس مقبولا أن تشتط أي طائفة عن النسق السياسي تحت أي مبرر أيديولوجي روحاني، وهذا ما أعتقد أنه مكفول من جانب معظم المكونات المذهبية والأيديولوجية في الوطن الواحد، بل لا أعتقد أن ثمة وجه تعارض قيمي ما بين الأطراف والمساومة كافة على تشظي الوطن. اليوم - وبكل صراحة - العالم الإسلامي والعربي بات بأمس الحاجة إلى تحديد نقطة تماس مشتركة تحمل بين طياتها برنامجًا جادًا، تجتمع حوله الدولة بكل تفاصيلها من جهة، و المكونات الاجتماعية كافة من جهة أخرى. وهذا ولا شك يستوجب التفكير الجاد في بناء الحاضر واستشراف المستقبل، دونما أي إهمال للماضي المشرق منه بالذات.
فكما هو مطلوب من المذاهب والطوائف في المجتمع الواحد للانضمام للمكون السياسي، أيضا العكس صحيح، بل إن المبادرة من جانب الساسة لها ما لها من الإيقاع السريع والفاعل في إحداث عملية تغيير حقيقية؛ بغية تحسين مستوى الأداء السياسي والسلوك الحكومي والارتقاء بفعاليّة مرافق الدولة كافة. وإلا فإن ما ينتظر هذا العالم هو المزيد من التشرذم والتمزق والفوضى العارمة، والمزيد من الخروقات لقضايا حقوق الإنسان وتغييب الحريات والمؤسسات الرقابية المدنيّة. كل ذلك ما من شأنه أن يلقي بظلاله على تكريس طوق العزلة لهذا العالم عن الفعل الحضاري بفقده لتوازنه التأريخي والإنساني؛ ليظل على الهامش كما تجري العادة! وما يزيد الأمر تعقيدًا أن بعض الممارسات سواء فيما يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان أو إقصاء حرية الرأي والتعبير والتنكيل بحق الأفراد والمؤسسات الداعية للديمقراطيّة، أو التباطؤ في مشروع الإصلاح السياسي أن تحظى بدعم إقليمي عربي ورسمي كجامعة الدول العربية تحت مبرر أن القضايا السياسية والإنسانية ينبغي حسمها في أطرها الداخليّة، إذ لا ينبغي تدويلها بأي شكل من الأشكال! بهذا - من حيث نشعر أو لا نشعر - نعود بالدولة لموقعها الاستبدادي والاستئثاري، وتكون الشعوب خارج اللعبة على الصعيدين الداخلي والخارجي.
في نهاية المطاف: لا مساومة على الدِّين والوطن، ولا على الأخذ بأسباب الحداثة والتطوير، ولا على إخضاع الذاكرة والسلوك والنظام المعرفي لعمليّة تقييم جادة، ولا على القناعة بالتغيير نحو الديمقراطية وإعادة تشكيل مفهوم الدولة وفق النظم الحديثة عملا ومن حيث المبدأ بالرؤية القائلة بالعلمانيّة الجزئية. وبالخروج من مثال فلسفة الروحانيات والتصوّف والدخول إلى نسقيّة سوق العمل برؤية تكامليّة، فكما هو من غير المقبول أن تنفلت جهة ما - مذهبية أو طائفية أو عرقية أو قبلية - عن المنظومة السياسية في الوطن الواحد، أيضا من غير اللائق أن تبقى الدولة بعيدة كل البعد عن مجتمعها بانكفائها في صورة نمطيّة تقليدية تحول مع مرور الزمن إلى نموذج مثالي مسبغًا بالقداسة، وبالتالي ما على الشعوب العربية إلا التفكير ضمن هذا الصندوق المغلق وحسب!
-----
صحيفة الوقت البحرينية. العدد 1057 الاثنين 15 محرم 1430 هـ - 12 يناير 2009 م
التعليقات (0)