سنوات طويلة وانا اذهب للمدرسة كطالب منتظم .. وقد جاء اليوم الذي استلم به وظيفتي لأذهب وانا احمل صفة معلم .. تعينت بمدينة لا تبعد عن مدينتي كثيرا .. كان طباع سكانها قريبة من طباعنا ان لم تتشابه تماما .. وكان يفد على المدينة الصغيرة الكثير من المعلمين من باقي مدن المملكة.
قبل ان أوجه لمدرستي التي تعينت بها كانت هناك قصة سخيفة للتعين .. فقد ذهبت برفقة اثنين من أصدقائي للمنطقة التعليمية لاستلام خطابات توجيهنا وكنا جميعا نحلم بان نعين في مدينة محددة في نفس المنطقة التعليمية الكبيرة .. لميزة واحدة تكمن في قربها من مدينتنا الرئيسية وطيبة أهلها ومعرفتنا بطباعهم .
أصدقائي اسروا لي في طريق سفرنا بان لديهم ( واسطة ) فالأول يعرف شقيق مدير الإشراف التربوي , والآخر يعرف مسؤول كبير داخل المنطقة .. وعده بالمساعدة في تعيينه بالمدينة القريبة .
بالنسبة لم اطلب مساعدة احد ( واثق الخطوة يمشي ملكا ) لان المدينة التي ارغب ان اوجه اليها بها ثانوية واحدة وقد نقل المعلم المعين الوافد إليها من الرياض والذي يحمل نفس تخصصي .. لذلك اعتبرت المكان فارغ ومفصل لي ولا يحتاج لواسطة وحب خشوم .
نزلنا في احد الفنادق الكئيبة بمجرد وصولنا .. وذهبنا في الصباح إلى إدارة التربية والتعليم .. كان اسمها في ذلك الوقت إدارة التعليم .. وتفرقنا داخل أقسامها .. بالنسبة لي قابلت موجه مادتي وافهمني انه كتب لي خطاب توجيه في المنطقة نفسها (تبعد أكثر من 700 ك م عن مدينتنا ) ووجهني - كما يقول - لأدرس بثانويتين .
حاولت ان اشرح له ظروفي وعدم امتلاكي لسيارة تساعد على قطع المسافة الطويلة.. وانني متخرج من الجامعة منذ شهرين فقط ولا امتلك خبرة .. كما ان المدينة القريبة لنا تم نقل المعلم المعين بها من نفس تخصصي .. لكنه رفض ان يستمع لي .. وأصر على توجيهي للثانويتين .. في المقابل رفضت استلام خطاب التوجيه .. واتصلت على والدي لأخبره بإصرار المشرف على تعييني في المنطقة نفسها .. وذهبت للفندق انتظر حضور أصدقائي المنتهي أمر تعيينهم في المدينة المرغوبة بحكم ما يحملونه من خطابات واسطة وشفاعة .
حضر الأول واخبرني ان تخصصه ( التاريخ ) لم يساعده على الحصول على مبتغاه في التعيين .. رغم مفعول الواسطة السحري الذي قدمه لمدير الإشراف .. والسبب يعود في عدم تحقيق رغبته لان معلمي المدينة نفسها من نفس تخصصه لم يستطيعوا ان ينقلوا إليها من سنوات بسبب كثرتهم في نفس التخصص .. إضافة لصغر المدينة وقلة مدارسها .. فلم يجد مدير الإشراف أي حل مناسب له .. إلا تعيينه في اقرب مدينة تليها .. واخذ صديقي خطابه وقبل توجييه إليها وحاول ان يقنعني باستلام خطابي دون جدوى .
اما الأول الذي يعرف شقيق المدير فقد اخبرنا بعد رجوعه للفندق بأنه ذهب بكل زهو إلى مكتب المدير وأعطاه خطابه أو الرسالة الشفهية التي أوصاه شقيق المدير بنقلها إليه .. لا أتذكر الآن نوعها .. المهم انه ذكر لنا ان الرجل استقبله بكل حفاوة واخبره ان تخصصه( الرياضيات ) مطلوب به معلم واحد في نفس المدينة المطلوبة وسيقوم بتعيينه بها .. وبعد ان أكمل كلامه مباشرة – كما يقول لنا صديقي - دخل عليهما معلم جديد من نفس التخصص يحمل رسالة ايضا من شخص عزيز على مدير الإشراف .. حينها اعتذر المدير لصديقي وقرر التراجع عن تعيينه .. وافهمه ان المعلم الجديد يرغب في نفس المدينة .. وليس لديه حل لهما سوى إجراء ( قرعة ) بينهما من يفوز بها يصبح من حقه التعيين في المدينة المطلوبة .
أجريت القرعة في مكتب مدير الإشراف ونفذها بنفسه .. وحصل مالم يتوقعه صديقي فقد كسب المعلم المنافس له بعد اجراء القرعة وضاعت عليه الفرصة .. عاد صديقنا للفندق في أوج غضبه .. يندب حظه وضياع الفرصة عليه ويسخر من طريقة مدير الاشراف بعد ان قرر استخدام القرعة لانه الاحق وهو الذي سبق المعلم المنافس الذي يرى انه اخذ فرصته .. واخبرنا انه وجد خطابه قد كتب ووجه من خلاله لقرية تبعد عن المدينة المتنافس عليها بمسافة كبيرة .
صديقنا رضي بالأمر الواقع واستلم خطابه بعد ان هدأ عن طريق افرغ كمية لا يستهان بها من الشتائم المتنوعة على المعلم المنافس ومدير الإشراف الذي علمت فيما بعد ان احد إخوته يشغل منصب كبير عند أمير نفس المنطقة التعليمية الكبيرة .. ويثق به الأمير رحمه الله.. ثقة مطلقة حتى انه اصدر تنبيها لجميع المحافظات التابعة له .. يقضي بان ما يصدر عن مدير مكتبه فكأنه صدر منه .
واذكر عندما اجتمعنا في غرفة ( الفندق ) لرواية تفاصيل وأحداث التعيين داخل الادارة التعليمية .. انني أخبرتهم بتعييني في نفس المنطقة ورغبة المشرف بان ادرس في ثانويتين .. فقاطعني صديقنا الغضبان بانني مخطئ .. فقد وجهت للمدينة القريبة من مدينتنا ..!
كنت اعتقد انه يسخر مني .. فاقسم لي انه شاهد خطاب التعيين .. وطلب مني ان اذهب للإدارة لاستلم الخطاب قبل ان ينتهي وقت الدوام .. ذهبت وانا اشكك في رواية التعيين .. فالمشرف الذي وجهني كان عنيد لأبعد درجة .. وبمجرد وصولي للإدارة طلبت من موظف الاتصالات الإدارية خطابي واكتشفت صدق كلامه وخرجت من تلك الادارة ولم ادخلها بعد ذاك اليوم حتى اخلاء طرفي منها كلفت به احد الاصدقاء عند نهاية العام .
وعرفت بعد عودتي للمنزل ان والدي – حفظه الله - شمر عن ساعديه وكلم احد أصدقائه ( مدير تعليم ) ليقوم بالاتصال بمدير الإشراف التربوي ليطلب منه تعييني في المدينة القريبة .. ولم يكذب مدير الإشراف كما يقولون (خبر ) ووافق .. فهو لا يعترف بأي نظام إداري ذكر في التاريخ الإنساني غير نظام – الواسطة والقرعة – وبدون ان يستشير المشرف العنيد .. طلب الخطاب وشطب على السطر المخصص للمدينة ووضع ما أملته عليه الواسطة .. دون ان يخشى العقوبة الإدارية وغضب المشرف وردة فعله .. !
انتهى امر التعيين واصبحت (معلم ) بعد ايام من استلامي للخطاب .
التعليقات (0)