كان يرتدي بنطالا قصيرا . وجوارب بيضاء طويلة تعلو جزمته بقليل . وكانت ألحان الغرام تنتشر في الأجواء . فتهادى وتراقص على أثيرها أثناء مسيره على الطريق الطيني الذي يتوسّط القرية !...
على طرفي الطريق الطيني ، تناثرت بيوت الفلاحين وحقولهم . وأمامه كان يسير صبيّان كانا يتراقصان أيضا على أنغام المجهول العذبة ، فانسجم معهما في الإيقاع . تنبّها إليه وأخذا يتضاحكان ويُسايرانه في الإيقاع !..
وصل الصّبيان إلى مكان قرب حقول الذّرة المُسيّجة وجلسا . وتابعا خطواته المنتظمة التي سارت على نفس الوتيرة والإيقاع ولم تنقطع . وبعيدا عنهما كان يقف صبيٌّ ثالث يُراقب المشهد وهو باسم . يُمسك بإحدى يديه عمودا من أعمدة السّياج ، وبيده الأخرى يُمسك بوسطه !..
إندفع مجذوبا بتلك الأنغام وسط (زقاق) بين الحقول . والتقى بسيّدة تحمل فوق رأسها صندوق سمك ، فانحنى أمامها وحيّاها وواصل المسير !..
في الجانب الآخر من الزقاق ، تتواجد حبيبته . وكانت وقتئذٍ تتزيّن من أجله ، وترش المساحيق على وجهها الأسمر من أجله . وبعد لحظات كان عندها ، وعانقها بشوق . وأخذا يتحدّثان عند باب شقتها مدّة ، قبل أن يأخذ بيدها ويسيران معا في رحلة العودة على نفس الطريق الطيني ، لكن هذه المرّة هو يأخذها في رحلة إلى المدينة !..
ركبا في القطار . فجلست بالقرب منه . وأسندَت رأسها على كتفه . فكان يهمس لها في أذنها . فتبتسم أحيانا من همساته المُدغدغة ، وتنفجر ضاحكة في أحيان أخرى ، وحين تفقد السّيطرة !..
أمامهما كانت تجلس أمٌّ ترضع طفلها دون أن تغطي نفسها . فكانت ترفع رأسها نحوهما كلما تعالت ضحكاتهما !..
وصلا إلى المدينة ، وأخذا يجوبان شوارعها وأسواقها . وفي أحد الأسواق توقفت فجأة أمام دكان حلاقة علق صاحبه على الواجهة صورا لأنواع من الحلاقة !.. فأخذت تتحسّس رأسها الحليق . فحضنها إليه وأدخلها المحل !..
حلقت ما تبقى من شعر رأسها الحليق . فهنأها بتصفيفة شعرها الجديدة بأن طبع قبلة على جبينها !..
واصلا تسكعهما في المدينة طوال النهار . وفي المساء إنتهى بهما المطاف أمام نادٍ ليلي . ولأنهما كانا مُتعطشين للإرتواء من أجواء المدينة ، إقتحما المكان . ودخلا عبر بوّابته الحديدية إلى ممر ضيق يقود إلى بهو النادي !..
على طرفي الممر يقف أناسٌ بعضهم مُنتشٍ يُحيّي الوافدين إلى المكان بحرارة . وبعضهم الآخر يستعرض عضلاته ويُقطب حاجبيه للإستقواء على الضعفاء من الوافدين . وآخرين يحضنون بعضهم البعض وتلتحم أجسادهم ببعضها البعض !..
وصلا إلى البهو ، وقابلتهما سيدة آسرة العينين غطت رأسها بوشاح بُنيٍّ مُزركش ، جالسة بثبات وثقة على كرسي عالي قبالة الباب مُباشرة . فاستدارا يمينا وقابلهما مشرب النادي . حيث تجلس شابة سمراء يافعة ، تضع قبعة بيضاء ، وحول عنقها عقد أبيض . وأمامها كأس نصف ممتلئ !..
فجابت أعينهما المكان ، فأبصرا شابا يضع نظارات سوداء ، يرقص فوق إحدى الطاولات بجنون . وعلى ركنٍ تتكئ سيدة ترتدي فستانا أزرق شفاف يُظهر تفاصيل جسدها ، وتعبث بخيوطه المُتدلّية . وفي جهة أخرى رجلٌ في العقد الخامس ، قصير القامة ، قد إكتسح البياض سواد شعر لحيته ، يرتدي سترة زرقاء وقبعة وردية ، ويرقص بجنون أكثر من جنون الشاب !..
وبجانب أحد الأعمدة المُربعة تجلس إمرأة يافعة . تحك ذقنها الدقيق ، وكأن الشك إعتراها ، أو هلاوس الشراب أوهمتها بأن شعر الذقن قد نبت لها !..
وفي الجهة اليُسرى للمشرب يجلس رجلان . ينظران بإمعانٍ إلى أرضية المشرب العتيقة والمُتشققة تحت أرجل الرّاقصين . ولا يرفعان رأسيهما كالصنمين !.. وبمحاذاتهما عاشِقٌ يُمسك بخصر معشوقته . وكهلٌ مُتجهّمٌ ينظر إليهما بحزن !..
تبادلا النظرات ، وابتسما . وخرجا وقد زاد سكرهما بعشق بعضما ، وبأجواء السّكارى تلك ، واستقبلتهما عند باب النادي موسيقاهما ، وتراقصا على أنغامها عائدَين إلى القرية .
تاج الديــن | 27 . 05 . 2011
( من وحي سحر أفريقيا )
التعليقات (0)