بقلم / ممدوح الشيخ
عالم ما يسمى "الخدمة السرية" ورجاله عالم المتناقضات والصدمات والحقائق المدهشة، ومن مدهشات عالم الخدمة السرية الاتهامات بوجود علاقات تحالف بين أطراف يفترض علنا أنهم أعداء، وقد حكى قيادي فلسطيني مخضرم كيف أن الرئيس السوفيتي السابق يوري أندربوف – وكان مديرا للكي جي بي قبل وصوله للرئاسة – حذر الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات من "الأكثر تطرفا"، مؤكدا أن عددا من التنظيمات الماركسية الأكثر تشددا كانت صنيعة للمخابرات الأمريكية!
وفي تفجيرات مومباي الدموية تراجع التحليل السياسي المبني على معلومات علنية ليتقدم بشكل ملفت الكشف عن أسرار مثيرة بكل معنى الكلمة، وبعض ما تردد كان تكرارا لمعلومات نشرت مرارا قبل أن يرحل الرئيس مشرف من منصبه، فالصلة بين المخابرات الباكستانية – وبالتحديد جناح فيها – كان موضوع تقارير أمنية وإعلامية طالما نفى محتواها المسئولون الباكستانيون، ففي سبتمبر 2003 ذهب تقرير للمخابرات الأمريكية إلى أن باكستان دعمت القاعدة وطالبان خلال التسعينيات، وكشفت وثائق أعلنتها وكالة المخابرات الأمريكية التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية البنتاجون أن باكستان ساعدت تنظيم القاعدة في عملياته بأفغانستان في التسعينيات وأنشأت معسكرا لتدريب أعضائه لهذا الغرض وقد قصفته أمريكا بعد تفجير سفارتيها في تنزانيا وكينيا عام 1998. فيما أنكر الرئيس الباكستاني أي علاقة لبلاده بالقاعدة وطالبان مؤكدا أن كل ما في الأمر أن السلطات الباكستانية تستجوب حاليا ثلاثة من ضباط الجيش الباكستاني لاحتمال ضلوعهم في مساعدة طالبان والقاعدة. (الأهرام القاهرية 15 سبتمبر 2003).
وفي زيارة له إلى لندن عام 2006 أثيرت القضية مرة أخرى عبر تقرير مخابراتي تسرب يتهم باكستان بدعم القاعدة وطالبان مرة أخرى، واتهمت الوثيقة التي صدرت عن مركز أبحاث تابع لوزارة الدفاع جهاز المخابرات الباكستاني بدعم متشددي القاعدة وطالبان في أفغانستان بشكل غير مباشر. وأشار إلى انه يتعين تفكيك جهاز المخابرات الباكستاني وأنه يجب على مشرف نفسه أن يستقيل!!!
والطريف أن التقرير الذي تنصلت منه الحكومة البريطانية تحقق ما فيه حرفيا، فالرئيس الباكستاني استقال – وهذا معروف – أما غير المعروف فهو أن الجناح المتشدد داخل المخابرات الباكستانية الذي طالما اتهم بدعم طالبان والقاعدة تم تفكيكه قبل أيام من الانفجار، ولا يحتاج الأمر كثير تفكير للاهتداء إلى صلة محتملة بين الواقعة وتفجيرات مومباي.
القصة كما روتها الفايننشيال تايمز البريطانية (25 – 11 - 2008) كانت عملية تفكيك "دولة داخل الدولة" والوصف كان يُطلق على الجناح السياسي في جهاز الاستخبارات الباكستاني الداخلي، فمن خلاله كان الجيش يفرض سيطرته على البلاد سياسيا وعسكريا، بحسب صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية. وقالت الصحيفة إن الحكومة الباكستانية فككت ذلك الجناح، صاحب النفوذ القوي على الصعيدين المحلي والدولي؛ لإضعاف تأثير الجيش في العملية السياسية ووقف تدخله في تشكيل وتقويض الحكومات فبعد أن بسط هذا الجناح نفوذه شيئا فشيئا صار يتحكم في عملية تشكيل الحكومات الباكستانية وإسقاطها. وقد أوكلت إلى العاملين به مهاما جديدة في قسم الاستخبارات المضادة داخل الجهاز. وتشير الفايننشيال تايمز إلى أجندة سياسية ترافق مع عملية التفكيك، فإسلام أباد أقدمت على تلك الخطوة "بعدما مد الرئيس آصف علي زرداري يده للهند في بادرة غير مسبوقة، إذ عرض زرداري تخلي بلاده عن "التهديد" النووي وتوقيع اتفاقية مع الهند لعدم انتشار الأسلحة النووية".
والوصف الأبلغ لهذا الجناح هو قول شاه محمود قريشي وزير الخارجية الباكستاني في بيان رسمي إنه كان "جناحا قويا وله ثقله"، ولعل من المفارقات الملفتة أن يكون من ويق القرار هو نفسه زوج السيدة التي اتهم هذا الجناح باغتيالها، فقد اتهم حزب الشعب الباكستاني صراحة شخصيات بارزة في الاستخبارات الداخلية الباكستانية بالتورط في مقتل رئيسة الوزراء الباكستانية السابقة وزعيمة حزب الشعب "بنظير بوتو".
وما إن حدثت التفجيرات الدموية حتى كان الربط متوقعا، وأكتفي بـ "عينة" واحدة نشرها موقع إسلام أون لاين الإخباري حيث نقل عن مصباح الله عبد الباقي، الخبير في الشأن الباكستاني أن أيدي مخابراتية باكستانية ضالعة، ورجح عبد الباقي أن "يكون قد سهل تنفيذ الانفجار عناصر داخل جهاز المخابرات الباكستانية أرادت أن توصل رسائل إلى الحكومة". وأجمع عدد من الخبراء والسياسيين الباكستانيين أن القاعدة تقف وراء هذه التفجيرات؛ انتقاما من الحكومة التي تتعاون مع الولايات المتحدة.
وداود إبراهيم مطلوب للعدالة بتهمة تنظيم سلسلة انفجارات هزت مومباي عام 1993 وبلغ ضحاياها حوالي الألف، وكان قبلها يترأس أقوى العصابات الإجرامية في بومبي. وهو الآن "هارب من العدالة".
وهكذا أصبحت الخيوط متشابكة بين المنظمات الإجرامية والجماعات الإرهابية وأجنحة متشددة في السراديب المظلمة لأجهزة استخبارات بعينها، و"الخلطة الجديدة" تنطوي على مخاطر شديدة، وبخاصة أنها – غالبا – تستغل مشاعر وطنية أو دينية عند الناس وتحاول إبقاء العلاقة مع "الآخر" – أي آخر علاقة صراع، وهذا هو الخطر الأكبر.
التعليقات (0)