المحاكمة. انتظرتها الشعوب دوما, فجاءت. لم يتوقعها الطغاة يوما, وجاءت. تستقدمها شعوب أخرى, وستأتي لا محالة. في طبيعة الطغاة دون استثناء إنهم لم يقرؤوا ــ فأنّا لهم وهم لا يجيدون القراءة ــ رائعة أبو قاسم الشابي: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر. لم يقرؤوا التاريخ, ولم يستخلصوا منه العبر. ولم يؤمنوا بغيرهم صُنّاع قدر. رفضوا دخول الحداثة والعصر. صور لهم منافقوهم وعملاؤهم صفات خارقة فيهم, فوق إنسانية, فتجبروا.أوحوا لهم بإمكانية الخلود فحلموا وسعوا للتوريث, وزرعوا تماثيلهم في الشوارع والساحات مشوهة معالم البلاد وتاريخها, معلنة للسياح وكل زائر: هنا موطن الاستبداد هنا يُعبد الأفراد. فرعنوهم فتفرعنوا. نفخوا فيهم روح الشر والعدوان والطغيان فانتفخوا. وصفوا لهم المطالبين بالحرية والكرامة الإنسانية من أبناء شعوبهم أعداء للوطن والوحدة الوطنية, فراقهم الوصف ليخرجوا ويعلنوا بان المنتفضين على الطغيان مجرد جرذان, أو عصابات ملثمة, أو جماعات مندسة متآمرة, مرتبطة بالأعداء, جزء من المؤامرة المستديمة العدوانية على أصحاب المقاومة وحدهم, الصامدون دون غيرهم, (عفوا من أرواح الشهداء). وحين اقتربت الساعة اهتز الطغاة وتنادوا للإصلاح في الوقت الضائع. وبدأ عملاؤهم وأزلامهم (المستشارون) في التحضير للقفز من مراكبهم في قمة "زنقتهم". بئس المصير.
اسقط الشعب النظام الفاسد في دول عربية, ويهزها عنيفا في دول أخرى. رأت الشعوب بالعين المجردة من هم هؤلاء الطغاة, الساقط منهم والآيل للسقوط. عظمتهم الزائفة ووطنيتهم المتبجح بها: قمع وسرقات وفساد. لن يسمح لهم الشعب حسبما يعلن في مظاهراته واعتصاما ته بالهروب بجرائمهم والأموال دون محاسبة ومحاكمة وعقاب. لن يهربوا من أقدارهم. من القدر الذي ظنوا طويلا بأنه رهن إشاراتهم. لن يكتفي الشعب بمجرد الإسقاط. ثقيل ثقيل تاريخ الطغاة. جرائمهم بأنواعها أكثر من أن تتسع لها لائحة اتهام فهي:
ـ جرائم سياسية:
إفساد الحياة السياسية:
ـ اغتصاب للسلطة والتفرد بها والاستمرار والإصرار على الاغتصاب.
ـ انتزاع سيادة الشعب من الشعب ولقهر الشعب.
ـ التحكم بالدولة وسياساتها الداخلية, ورهن سيادتها وسياساتها الخارجية.
ـ إلغاء الدولة المدنية, وإنشاء الدولة "الأمنية" أي دولة القمع, دولة أجهزة الأمن والمخابرات.
ـ ربط مصيرها ومستقبلها باتفاقات ومعاهدات تفرط بالوطن دون استشارة الشعب مجرد استشارة أو إبلاغه لأخذ العلم. ـ حضر الأحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدني, رغم إباحة قوانينهم لذلك.
ـ التزاوج بين السلطة والثروة.
ـ تزييف مكشوف للإرادة الشعبية لإيصال الأعوان إلى المجالس النيابية المصفقة, والمصوتة بالإجماع بالتصفيق والهتاف, لا تراقب السلطة التنفيذية وتحاسبها, ولا ترى في ذلك مهمتها, وإنما تهتف لها ولرأسها بالروح بالدم, كأن "ممثلي الشعب" تلاميذ مدارس ابتدائية, أو خلايا حزبية, أو أعضاء نقابات مهنية بتعيينات أمنية, يا لسخرية التاريخ!!!.يا لسخرية الأمم الديمقراطية !!!.
ـ دمج السلطات واحتكارها باليد الواحدة, انتهاكا لدساتيرهم هم.
ـ تأبيد قوانين الطوارئ والأحكام العرفية, ومحاكمة المواطنين أمام محاكم غير ذات اختصاص استثنائية وميدانية, تفتقر لأبسط قواعد النزاهة والعدالة والإنصاف, وبالمخالفة مع كل المعايير الدولية للدعوى المنصفة.
ـ إفساد القضاء والقضاة.
ـ إفساد الإدارة والمحاكم الإدارية وربط الكل بالأجهزة الأمنية.
ـ عرقلة مصالح المواطنين بالفساد الإداري وربط انجاز المعاملات بدفع الرشاوى.
ـ جرائم حقوق الإنسان:
ـ جرائم قتل, وسجن, وتعذيب, وتشريد, وانتهاك حقوق وأعراض.
ـ اعتداءات على كرامة الكائن البشري وحقوقه الطبيعية, وانتهاك الحريات العامة والحقوق الأساسية. ـ ـ جرائم ملاحقات وتشريد, وتصفيات جسدية للمعارضين وللمشكوك في ولائهم للزعيم, من المهجرين ومنع دخولهم لوطن. أو السماح لبعضهم بدخوله ولكن بشروط فيها إهانة وإذلال.
ـ اعتقالات تدوم سنوات طويلة دون اتهام ومحاكمات.
ـ إخفاء الموقوفين والمعتقلين وعدم معرفة مصيرهم من قبل ذويهم أو منظمات حقوق الإنسان.
ـ سجن معتقلي الرأي مع مساجين الحق العام والطلب من هؤلاء بالاعتداء عليهم بين حين وحين.
ـ التعذيب الجسدي إلى درجة الموت والتعذيب النفسي من جلادين لا علاقة لهم بالإنسانية ولإنسان.
ـ المنع من السفر وحرية التنقل.
جرائم حقوق الإنسان, يا سادة "يا كرام", تطارد المجرمين مدى الحياة ولا تسقط بالتقادم.
ـ جرائم ثقافية:
ـ الانحطاط بالتربية والتعليم, واستحداث مناهج لا علاقة لها بعصرنا وروحه.
ـ التثقيف بعبادة الزعيم وتزييف تاريخ الشعوب وثقافاتها. والإساءة لأبطال الوطن الحقيقيين.
ـ تعيين الأطر التعليمة على أساس الولاء لفكر السلطة, دون اعتبارات للثقافة والتعليم والتأهيل والتكوين. مما خلق أجيالا من حملة الشهادات نصف متعلمة وغير مثقفة. تهتف وتصفق, وتخلط بين الولاء للحاكم والولاء للوطن.
ـ احتكار الصحافة وكل وسائل الإعلام, وقصرها على أخبار الزعيم ونشر صوره. أجيال بكاملها, منذ الولادة وحتى بلوغ الثلاثين أو الأربعين من العمر, لا ترى من الوطن إلا صور وتماثيل الزعيم, ولا تسمع إلا خطبه الفصيحة البليغة, المفسدة للذوق العام, بما فيها من رداءة الإلقاء وركاكة التعبير ونشاز الصوت, وتحطيم اللغة وقواعدها وآدابها.
ـ استحداث مناهج لا علاقة لها بعلوم وثقافة عصرنا, تقوم على ترويض الإنسان فكريا, وتخلق منه أداة طيعة قابلة لعبادة الشخصية.
ـ استبدال المواطن البصّيم" و"السمّيع" المردد لما يُملى عليه ويقال, بالمواطن المبدع المبادر الخلاق.
ـ تخريج جامعيين لا يثقون بقيمة شهاداتهم ولا بتكوينهم. مصيرهم البطالة والشوارع.
ـ إعداد إطارات ,داخليا وخارجيا, تفتقد للمعرفة والمنهجية, وللقدرة على نقل المعلومة (إن كان يمتلكها) للمتلقين ممن أوقعهم القدر بين أيديهم.
ـ إرسال بعثات طلابية بطرق غير قانونية, لا تقوم على المسابقة, والكفاءة وتكافؤ الفرص, ولا تحترم حتى شروط السن, فكثيرا ما نرى مبعوثين اكبر سنا من أساتذتهم. وأقل مستوى بما لا يقاس من زملائهم.
ـ الترويج, من قمة السلطة إلى سافلها, بان شعوبنا غير ناضجة بعد للحرية وللديمقراطية. (ما زالت دون الشعوب منزلة, ودون الأمم حضارة !!!)
وبكلمة العمل على تسطيح ومسخ ثقافة الإنسان بثقافة أحادية المفهوم والمنحى والاتجاه, تصب في "فكر" ومفاهيم النظام. ووضع الإنسان تحت الوصاية والتوجيه والحجر عليه, في زمن الحرية وحقوق الإنسان.
ـ جرائم اقتصادية:
ـ نهب علني ونهب خفي لثروات الشعوب, والإثراء غير المشروع, وتحويل المليارات من الدولارات للبنوك الأجنبية, حسبما كشفت بعض المصادر المالية الأجنبية.
ـ تخريب الاقتصاد بسياسات ارتجالية هدفها الأساسي تحقيق المصالح الخاصة للزعيم وزوجته وأبنائه وإخوته وأقاربه وحاشيته.
ـ ظهور المافيات الاقتصادية وتعامل السياسة معها ولصالحها.
ـ انخفاض مستوى المعيشة لملايين المواطنين إلى ما تحت خط الفقر والإملاق.
ـ ملاحقة الدخل الضعيف للفقراء بالضريبة التعسفية غير المدروسة, حتى أوصل العديد منهم للانتحار وحرق النفس للخلاص من ذل الفقر, والآم المرض, وأعباء الحياة.
ـ فرض الرشاوى على المواطنين, في معاملاتهم وتحركاتهم وسكناتهم.
ـ التسبب بهجر الملايين للأوطان بحثا عن لقمة عيش كريمة وكرامة مفقودة, هجرات في جزء كبير منها غير شرعية تعرض أصحابها للموت في البحار بقوارب الموت, أو على الحدود والمعابر البرية. وللملاحقات القانونية من قبل سلطات دول المقصد.
أضاف هؤلاء لهذه السياسات والممارسات غير الوطنية, غير الرشيدة, القائمة على النفعية والاعتداء على أصحاب الحقوق خلال عقود, جرائم وحشية قبيل السقوط متمثلة بالمجازر الجماعية للمطالبين بالحرية, والقتل العلني بالرصاص الحي, في الميادين والساحات العامة والتعذيب في السجون والصعق بالكهرباء, وانتهاك أدامية الإنسان, سحل الجثث في الشوارع, و "الدوس " على الرؤوس والظهور, والإهانات العلنية المعنوية والشخصية. جرائم تصنف على أنها من الجرائم ضد الإنسانية. ضد مواطنين عزل مسالمين, خرجوا بعد عقود من الصبر والتحمل يطالبون بالحرية.
هل بعد مثل هذه الأفعال والسياسات والممارسات الممهنجة, وما ذكرناه غيض من فيض, هل يمكن الإفلات من المساءلة القانونية , ومن المحاكمات العلنية العادلة النزيهة بمحاكم وطنية ذلت الاختصاص. ليس للانتقام من هؤلاء المرضى غير السويين الذين تحكموا بشعوبهم في غفلة من التاريخ, وإنما للتاريخ, وليكونوا عبرة لمشاريع طغاة قادمين في حال انتصار الثورة المضادة. أو في حالة فشل دولة الحق والقانون المنشودة والتي في طريقها للبناء.
بإسقاط النظام أنجز وسينجز الشباب جزءا من الثورة. وبفرض محاكمة رؤوس النظام وأذنابه سينجزون جزءا آخر من الثورة. وببناء الدولة العصية على الثورة المضادة, دولة الحق القانون والعدالة والمساواة, دولة المؤسسات وحقوق الإنسان, دولة المواطنية والديمقراطية, سيتوجون الثورة.
د. هايل نصر.
التعليقات (0)