كان الترحيب بولادة المجلس الوطني من قبل شريحة واسعة من السوريين و من المتابعين للشأن السوري لسببٍ واحد لا يحتمل التأويل و التفسير، ألا و هو إعتباره عنواناً للثورة السورية التي كانت تفتقد إلى ممثلٍ خارجي لها، و كانت تبحث عنه بأي ثمن، أي أن يكون مُجرد جسرٍ تعبر عليه الثورة إلى الضفة الأخرى الآمنة الخالية من الدكتاتورية.
كان الترحيب بهذا المجلس إذاً هو كُرمى لدماء الشهداء الزكية الطاهرة، و كُرمى لعيون شباب الثورة السورية الذين لا زالوا يقدمون أرواحهم الغالية قرباناً على مذبح حرية سوريا. فبمجرد قيام تنسيقيات الثورة، و هي صاحبة القول الفصل في رسم خارطة الثورة، بمجرد قيامها بتسمية إحدى الجُمع بجمعة (المجلس الوطني يمثلنا) و قيام المتظاهرين برفع لافتات تحمل المعنى ذاته، إعتبرنا أنفسنا كمعنيين بإنتصار الثورة ملتزمين بالقرار المعمد بالدماء، و ذلك دون إلتفاتٍ إلى تفاصيل ولادة المجلس و أسماء أشخاصه و مشاربهم، و آليات عمله، و الحجم الذي أعطاه لنفسه، و الدور الذي رسمه لنفسه في مستقبل سوريا.
دور المجلس إنحصر إذاً حسب تصورنا في مهمة وحيدة لا تحتمل البناء عليها، ألا و هي أن يكون صوت الثورة و رسولها، الذي يبذل كل الجهود للتخفيف عنها، و ذلك من خلال فتح النوافذ عليها، ليصل عبرها صوتها إلى حيث يجب أن يصل، و أن لا يتحول المجلس إلى عبءٍ إضافي عليها، بإدخالها في متاهات و زواريب لا تفيدها في شئ.
إذاً، ليس من مهمة المجلس أن يحيد عن هذا التكليف الشعبي الشفوي، و ليس مطلوبٌ منه أن يُقحم نفسه في مسائل تضرب مصداقيته لدى شريحة كبيرة من الثوار، فهو ليس حكومة منتخبة ترسم السياسة الخارجية للثورة، و تفرض عليها أجندات و مواقع لا تخدمها في شئ، و هنا ليس من مهامه التدخل في سياسات الدول و شؤونها الداخلية بالوقوف مع طرفٍ ضد طرفٍ آخر، فالمعركة مع النظام تحتاج كل طاقات المجلس، و هو بدخوله في هكذا سجالات عقيمة يضع طاقاته في غير مكانها الذي يجب أن تكون فيها، و يخلق لنفسه عداوات، الثورة في غنى عنها، لأنها تكلفها دماءً يمكن توفيرها في حال إنصرافه إلى المهمة الملقاة على عاتقه.
و قد تواترت في الأيام الأخيرة أنباءٌ عن قيام المجلس الوطني السوري بإصدار بيان يقف فيه إلى جانب الحكومة التركية و يدين حزب العمال الكردستاني و يصفه بالإرهابي، أما الطامة الكبرى فكانت أن هذا البيان قد صدر من وراء ظهر الأعضاء الكرد في المجلس فيما يشبه ـ إن لم يكن ـ خيانتهم، في سابقة خطيرة لا تبشر بالخير.
و بصرف النظر عن مدى الإتفاق أو الخلاف مع حزب العمال الكردستاني أو أي حزب كردي آخر، فإن الكرد السوريين ينظرون إلى قضية الشعب الكردي في تركيا بإعتبارها قضية مشروعة، و نضالهم في سبيلها نضالاً مشروعاً قد يضطرون هم أيضاً لخوضه يوماً ما ـ ليس بالضرورة بالسلاح ـ بعد إسقاط الدكتاتورية التي يناضلون ضدها اليوم مع أخوتهم العرب في سوريا، في حال إنكار حقوقهم المشروعة من قبل رفاق النضال و أخوة الوطن، فهم يعتبرون القضية الكردية تتعلق بتصفية إرث إستعماري، و يجب أن يتم تصفيته بشكلٍ يرضي الشعوب أولاً.
لكن قيام المجلس الوطني الذي ولد بالأمس فقط بإصدار بيان مجاملة لتركيا على حساب قضية عادلة عمرها مئات السنين، مستغلاً لتمريره في هيئاته أولاً، إمكانية وجود خلاف كردي ـ كردي، أو وجود تباعد في الأمزجة الكردية بسبب وجود الكرد في المسألة موضوع البحث في دولتين، أو إستضافة تركيا له، لا يفيده في شئ، و لا يعفيه من المسائلة.
و لمن لم يفهم الخلافات الكردية ـ الكردية بعد نقول، إنها تشبه الخلافات الموجودة بين الفصائل الفلسطينية أو بين فتح و حماس مثلاً، قد تتصاعد هذه الخلافات و تشتد إلى أقصى الدرجات، و قد تتسبب في قطيعة كبرى، لكن إذا سال الدم الكردي على يد طرفٍ ثالث، فإن هذه الخلافات لا تلبث أن تختفي و لا يعود أحد يتذكرها، أو يتذكر من بدأ بإطلاق الرصاصة الأولى: الطرف الكردي الموحد أم الطرف الآخر المعادي، الذي يشبه في الحالة الفلسطينية الطرف المعادي للفلسطينيين جميعاً.
نقطة أخرى يمكن إثارتها، و هي تبين بوضوح مَن مِن الأطراف يتحلى بروح المسؤولية في المجلس الوطني، فإذا كان المكون العربي في المجلس قد لجأ إلى أسلوب الفهلوة عندما إجتمع خفيةً، بعيداً عن المكون الكردي، و أعطى لنفسه الحق في إصدار بيانٍ يعلم بأنه لا يحوز على قبول شقيقه الكردي، فما رأي مصدري البيان، أن يلجأ المكون الكردي إلى المعاملة بالمثل، و ذلك باللجوء إلى الأسلوب ذاته، و إصدار بيان إدانة للحكومة التركية بسبب عملياتها العسكرية، و بذلك يصبح المجلس مجلسين عند أول إختبار يواجهه، و يكون النظام قد جنى ثمار نضالات المجلس.
ينبغي لمثل هذه الخطيئة أن لا تتكرر، لكي لا لا ينسف المجلس نفسه بنفسه، فتضيع بذلكلاالمزيد من الدماء سدىً بحثاً عن ممثل جديد للثورة، و إذا كان المجلس الوطني، و هو الذي لا يزال يتعثر في إنطلاقته، يظن بأنه قد أنجز مهامه، و يمتلك فائضاً من الوقت، و مصراً على حشر نفسه فيما لا يعنيه، فيجب عليه، و هو المفترض فيه مقارعة الدكتاتورية، أن يكون تدخله، إذا كان لا بد منه، لمصلحة الشعوب، أو على الأقل بدعوة الأطراف كافة إلى ضبط النفس، أي أن يقل خيراً أو يسكت، و بذلك لا يضع نفسه في مرمى سهامه ذاتها.
التعليقات (0)