ويلٌ لأمة تكثرُ فيها المذاهبُ والطوائف وتخلو من الدين ، ويلٌ لأمة تلبسُ مما لا تنسج وتأكلُ مما لا تزرع وتشربُ مما لا تعصر ، ويلٌ لأمة تحسبُ المُستَبدَّ بطلاً وترى الفاتحَ المُذلَّ رحيماً -- جبران خليل جبران .
يعيش المجتمع العراقي الآن حالة من التجهيل العام بدئت تنمو وتسود بشكل ملحوظ ، بفعل الواقع المتخلف بأغلب مستويات الحياة التي يعيشها المجتمع ، وبفعل النُخب السياسية والرموز الاجتماعية التي تصدّرت المسرح العراقي والتي لاتفكر إلابمصالحها ومنافعها الذاتية ، وبفعل التراكمات السياسية والاجتماعية التي خلفتها الضروف والأزمات في مراحل حكم العراق السابقة ، وكما هي طبيعة السلطة والحكم التي يسيطر عليها هنا مراكز النفوذ الحزبي والواجهاتي في الغالب . وبفعل الكثير من الشعارات التي تُبطِن عكس ما تُظهِر ، تولَّد الجهل العام الذي هو انعكاس ونتيجة لذلك الوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي المتخلف في البلد . والجهل العام هو نتاج تعبئه أيديولوجية وسياسية منحرفة تقوم بها مجموعة من القوى والكُتل الحزبية التقليدية المسيطرة على رقاب المجتمع باستغلال الموروثات التقليدية في تركيبة المجتمع ونزعته الروحية الدينية ، وتكييف الطاعة الدينية والعائلية والقبلية والولاء العقائدي والوطني إلى الموروث العام في حياة المجتمع العراقي وبثَّه في لاوعي المجتمع والأمة ، وهو الذي يتولد عنه إصرار أفراد المجتمع بأنهم على الطريق السوي بينما هم في واقع الحال منقادون بصورة عمياء ، فيصبح هناك توزيع مبدئي تفرضه طبيعة المجتمع وطبيعة السلطة التي قد تحجب أنواع من المعرفة أو جميعها عن المجتمع بطبقاته المختلفة بسبب تباين وعيه وتجهّله بشتّى الأساليب والسلوكيات التي يراها المجتمع وفق ما هو مرسوم له على أنّها عين الصواب ، ثم تزوده بالمعرفة اليقينية عن الطاعة لكي توفر فيه الانقياد والطاعة حتى لو كانت ضد مصالحه ، وهذا يعتبر أخطر أنواع التجهيل ، إذ أن المجتمع هنا غافل عن جهله ولا يدري بأنه جاهل فيرى نفسه عالما بالحقيقة فيتركب جهله من جهلين ، جهل بالواقع وجهل بهذا الجهل فيكون جهلهُ مركَّب ، وخطورة هذا الجهل المركب أن رموز السلطة والنفوذ تستغله لدى الناس من أجل فرض مالا يفرض أو رسم صورة لما يخالف إدراك الحقيقة عن هذا الأمر أو ذاك . وهنا في ما يخص موضوعنا عن المجتمع العراقي ، استخدمت مؤسسة التجهيل الغدر والحيلة والتربص والخداع بالمجتمع العراقي مع باقي جهات داخلية وخارجية حزبية ومؤسساتية مصلحية ومستفيدة إلى أن وصلوا الى حالة أتمام إضعاف المجتمع العراقي ثم الإحاطة به ومحاولة تفتيته وتدميره تدميراً ممنهجاً بدءً من تفكيك نسيجه ومكوناته وأنتهاءً بعقيدته ، والجميع الآن يعرف ويرى ويعيش مايجري اليوم في واقع الشعب العراقي بشكلٍ عام من مصائب وويلات وضروف وأزمات مصنوعة قد أشتركت جميع الرؤوس المتنفذة والمتسلطة بصناعتها وأيجادها .
فالجهل المركَّب هنا مع مرور الزمن أصبح بمعنى عدم المعرفة وعدم الفهم وأصبح الطريقة والأسلوب الذي يؤدي بالسلوك المجتمعي إلى استخدام الرفض القاطع لكل الأشكال التوضيحية والمعرفية التربوية في مناهج الأصلاح والمصلحين ورفضه أغلب دعاوي الأصلاح من قبل العلماء والمُفكّرين المُجدّدين ! لأنها بطبيعة الحال وحسب هذه الفكرة تتقاطع كلياً مع ذلك الأعتقاد وذلك الولاء الذي تربى عليه المجتمع ! ، لذلك مانلاحظه في أغلب شعارات هؤلاء هو التعبير عن الولاء والطاعة والعصبيّة العمياء حتى لو تقاطعت مع مباديء دينهم وعلى حساب وطنهم ، حتى أصبح هذا السلوك حاضراً في مجتمعنا بشكل وصورة يومية وبتحريض ودفع ومباركة رموز السلطة والمؤسسة الدينية والاعلاميّة ، الذين جَيَّروا طاعة الشعب وحُبَّه وولائه لدينه وعقيدته ووطنه لمصالحهم الشخصية ومناصبهم الدنيوية .
كل ذلك نجد هذه الرموز التي كانت نائمة وفي سُباتٍ عميق في عهد النظام السابق والتي تحكم الآن تتحدث عن الوحدة وأنه لاخيار آخر بديل لطريق الوحدة ، أو ان الوحدة هي الخيار المطروح كما في طروحاتهم وأصواتهم الأخيرة رغم أنهم كانوا من أدوات تفكيك هذه الوحدة ومؤسسيه ، والحقيقة أن هذه القناعة الراسخة بهذه الشعارات وتطبيقها على الواقع فرضتها المصلحة الخاصة لهؤلاء مخالفة لأي مصلحة عامة ، وبهذا الأسلوب وهذه الأدوات هؤلاء قد سَمَّموا المعرفة عند المواطن البسيط وبتسخير الإعلام المظلل لمراكز النفوذ والسلطة ، لأنها هي التي تملك المال والقوة وتقود إرادة الشعب المسكين بالتعبئة والتظليل .
إذن ، المشكلة التي تدعونا للوقوف حيالها هو الوقوف أمام الجهل بمعرفة واقعه ومكامنه ومحاولة تفكيكه وأعلان الحقائق التي لا تحتاج إلى قوة كما صورته بعض هذه الجهات للمواطن العادي أو التابع لهم ، ومن ثم الحقيقة التي يجهل بها المواطن معرفة تلك الأمور والتي يخطئ في حكمه ومواقفه تجاهها بسبب جهله وانقياده الأعمى ، وتوعيته بكيفية تمثل هذا الإنسان أُسُس التعايش الطبيعيّة، ويسلك بقناعة الرضى بحق الاختلاف والاعتراف بالآخر، وإذا كانت وسيلته القوة كما هي وسيلة السلطة السياسية والرموز والواجهات الأخرى ، فأية معرفة تصبح لهم بطريقة كهذه غير الجهل وهو الأمر الذي أصبح مرفوضا في عالم اليوم ، عالم الحقوق الإنسانية ونبذ كل أشكال القوة والعنف كوسيلة لتحقيق أي هدف كان . لذلك معركتنا الآن هي مع الجهل بكل انواعه وأشكاله ، هذا النقطة المهمة في حياة مجتمعنا التي يستغلها الرموز والواجهات وأهل السلطة والنفوذ . في أحيان نجد أنفسنا عاجزين عن تفسير أسباب هذا التخلّف في معرفة قضايا الأُمة وأحوالها ، فمن المفترض أننا كعراقيين نحن الذين يجب علينا أن نوصل رسالتنا للعالم ، بأنَّ شعبنا وبلدنا مظلوم ، ولكن كيف ذلك وفئة كبيرة وليست بالقليلة في مجتمعنا غير مبالية بما يحدث ولاتعرف حتى مايحدث ؟ هل السبب في هذا هو التربية ام القبليّة ام هو منعاً للضر وطلبا للعافية ، أم ان هذا بسبب تأثير نظام الحكم القمعي السابق الذي قمع أي نشاط سياسي هدَفهُ التغيير ام هو من مُرشّحاته ، فأنتج هذا ثلّة من الخائفون الذين ابتعدوا عن أي شي إسمه (سياسة ) أم أن هنالك أسبابآ أخرى لا نعرفها ؟
الأسباب كثيرة ومتشعبة ، فلو نظرنا ببداية اساسيّة إلى الأماكن التي تؤثر على الشاب وفي عملية تكوين اهتماماته نجد أنها لا تبشر بالخير ، ولو نظرنا إلى المدرسة التي يتلقى فيها الشاب المرحلة التأسيسية لوجدنا المناهج وطرق التدريس عقيمة ولا توسع مدارك الطلاب ولا يأتي التدريس على سيرة او يتناول أحوال الأمة أو ربط الدروس بما يحصل الآن إلا ما ندر وبأسلوب خجول .
أما في البيت والعائلة فربُّ المنزل مشغول بتأمين الرزق لعياله ويأتي إلى البيت ليرتاح لا ليزعج نفسه بمصائب الأمة وهمومها، وأنا لا أعتبر ذلك عيبا أو منقصة ولكن لا افراط ولا تفريط ، وهناك نقطة مهمة أن أغلب الآباء هم من الجيل السابق والذي لم يعايش الإعلام وتطوراته ولم تكن متابعة أخبار الأمة والعالم والتفاعل معها متوفر بالسهولة التي نراها اليوم ، اضافة إلى النكسات التي عاصروها بدءا من الضروف الصعبة وقساوة نظم الحكم السابقة الى هذه النكبات والأزمات والمآسي والويلات التي يعيشها الآن ، وغيرها الكثير من النكبات والمظالم التي ولَّدت لديهم شعورا بالهزيمة والأنكسار إلا ما رحم ربّي .
بداية نظن ان الحل يكون بكسر حاجز الخوف والتأسيس الى طُرق الأحاطة والمعرفة ، وربط حالة الشعور الوطني والانساني والتفاعل مع قضايا البلد والأمة على السواء ، حتى يُصار بالتالي الى تكوين فهم عام من الشعور بالمسؤولية وغرسه في وعي المجتمع . وعلى المجتمع في هذا الخظم ان يعي ضرورة ترك العرقيّة والحزبيّة والتكتّليّة المقيتة التي وضعتها افكار وايديولوجيات هدفها زعزعة أمن البلد كانت الى وقت قريب غريبة على مجتمعنا . مما يعني وعي الجميع وليس لنا الإنطواء على أنفسنا وتناسي مصاب مجتمعنا ووطننا وأمتنا ، لأننا بطبيعة الحال من افراد هذا المجتمع الذي هو بالتالي جزء لا يتجزء من الأمة . أما النقطة الأهم والتي لا يمكن اغفالها أن بلدنا وأمتنا محكومة بقيادات ليست أهلا لذلك ، قيادات أهلكت الحرث والنسل والأخضر واليابس ، فقد أصبحت أذناب في يد أعداء الأمة يساندها في ذلك طابور من العلماء الذين لبسوا جلود الضأن على قلوب الذئاب ويناصرهم طابور من القنوات والصُحف والكُتّاب .
لذا يجب علينا وعلى الشباب بصفة خاصة أن يعوا ما يُحاك ضد بلدنا وضد شعبنا وديننا وقد آن لهذه الجموع أن تستيقظ وأن تعيد مجدها، وتستحضر تأريخها وتستلهمه الهمّة والعزيمة ، وحري بنا أن نتوحد وليس التفريق والشتات . وفهم مايدور حولنا من أمور سياسية ولو بصورة نسبية فالسياسة كما وصفها أحدهم : لعبة قذرة ، لكن لا أحد يتبرع لتنظيفها .
هذه النتيجة النهائية لموضوع شائك و متشعب ، ومما يزيد في مدى مصداقية هذه النتيجة ، أن التناول في مستجدات السياسة يعتبر من المحرمات عند بعض الشعوب و الأمم، ( دع ما لله لله، و دع ما لقيصر لقيصر ) ، المفترض من الناس أن يكون لديهم الحد الأدنى من الوعي السياسي ، مثلما يكون لديهم الحد الأدنى من التعليم و الصحة و الثقافة والدين .
التعليقات (0)