الابتعاد عن الأصدقاء والمقربين يكون في بعض الأحيان خارج نطاق الإرادة الشخصية لما تفرضه مشاغل الحياة وزحمتها من موانع تحول دون تحقيق هذا التواصل الاجتماعي، ورغم ذلك فهو لا يمنع من السؤال والتعرف على أحوال بعضنا البعض، سيما ان (الموبايل) قرّب البعيد واختصر المسافات، ولكن تبقى الزيارة وتجشم عناء الطريق للقاء الأحبة فيها نكهة روحية ونفسية خاصة سرعان ما تلقي بظلالها الإيجابية على منظومة العلاقات الاجتماعية، قبل أيام قصدت أحد الأصدقاء الذي طالما أشبعني لوماً وأسمعني كلمات قاسية لسبب انقطاعي عن زيارته وكلما قصدني يجدني غارقاً في زحمة العمل، بعد أن استقبلني استقبالاً حاراً لم يخلُ من كلمات العتب اللذيذ، دخلنا المنزل حيث صالة الاستقبال التي كانت مكتظة بالضيوف والأقارب من كبار السن وصغارهم، وبعد السلام والتحية قلت لصديقي: يبدو أن زيارتي جاءت في وقت غير مناسب، فقال: لا تعظم الأمور فالمسألة طبيعية جداً سيما أن اقاربي اعتادوا على حل مشاكل العشيرة في منزلنا خصوصاً أن شيخ العشيرة هو عمي، سألته هل هناك مسألة استوجبت هذا الاجتماع فقال نعم والأفضل لك أن تستمع فإن المجالس مدارس: بعد الشد والجذب في الكلام الدائر بين الجالسين تبين أن هناك خلافا قد حصل داخل العشيرة دفع بعض أطرافها إلى الانفصال عنها، ولكن حنكة ودهاء ذلك الشيخ افشلت محاولات تفتيت العشيرة بعد أن روى لهم حكاية مفادها: كانت هناك قبيلة ذائعة الصيت لها مهابة كبيرة بين القبائل، محترمة من قبل الجميع، وتحمل تاريخ يمتد في عمق الأصالة، يرأسها رجل مسن ذو هيبة ووقار، يعرف حدود الله، ينتصر لقومه إذا مسهم الظلم ويأخذ الحق منهم إذا اعتدوا على الغير وكان يحث أبناء القبيلة على الوحدة ورص الصفوف ونبذ الفرقة، وفي يوم أصيب الرئيس بوعكة صحية أجبرته على الرقود في الفراش، والمتعارف عليه في العرف القبلي أن يتولى أبنه أو شقيقه مهام رئاسة القبيلة وما كان من ابنه الشاب إلا أن يتصدى لهذه المسؤولية، وما أن تسلم مهامه حتى بدأت الانشقاقات وأخذ التفكك يسري في مفاصل تلك القبيلة القوية الموحدة، الى أن انشطرت إلى ثلاثة أجزاء وتدار من ثلاثة رؤساء، ما جعلها فريسة سهلة للقبائل الأخرى التي كانت تتحين الفرصة لتمزيق أوصالها فأخذت المصائب تنزل على رأس القبيلة الواحدة تلو الأخرى، وفي نهاية المطاف أدرك الجميع أن لا سبيل أمامهم للخلاص من المصائب والاعتداءات إلا بالعودة تحت راية واحدة وإذابة جليد النرجسية المفرطة، هل تريدون أن يحدث هذا معكم وتكونوا لقمة سائغة؟ ان سبب ضعف العراق في هذه المرحلة هو انقسامه على نفسه، فالكل يريد أن يحكم والكل يسعى أن يكون هو الرئيس سيما ان الكثير من الدول كانت ولم تزل تغذي وتعمل على تمزيقه إلى ثلاثة أجزاء لاضعافه وبسط هيمنتها عليه ليسهل سرقة ثرواته النفطية وغير النفطية ومنعه من لعب دوره الاقليمي، ولو كان الجميع متوحدين تحت راية واحدة فسيعجز الآخرون عن النيل منه، ولكن هذه هي سياسة فرّق تسُد التي يتبعها الأصدقاء الأعداء. اعتقد اننا اذا اردنا أن نكون بلداً موحداً وقوياً يهابه الأعداء قبل الأصدقاء، ما علينا إلا التلاحم ورص الصفوف في وطن يتسع للجميع ولا يضيق بأحد سواء كان مسلما أو مسيحيا ـ عربيا أو كرديا ـ وخلاف ذلك علينا التهيؤ للمزيد من الويلات وعدم الاستقرار الأمني وتناثر الأشلاء واراقة الدماء عبر مفخخات الفكر الارهابي وحينها سوف لا نفكر فيما يحتاجه المواطن من خدمات بسيطة فعندها يكون الشغل الشاغل كيف نحمي الكرسي.
التعليقات (0)