عبد الهادي فنجان الساعدي
لماذا لا يمتلك المثقف العراقي اية سلطة ، بينما نجده في الدول المتقدمة يقف في الصف الأول من القادة والموجهين لكل منظومات المجتمع هناك ؟!! هل هو ذنب المثقف نفسه .. ام الدولة .. ام المجتمع .. ؟ .. أم أن هذه الاسباب كلها مجتمعة هي التي جعلت من حالة الثقافة مهنة المهمشين والذين لا يعكسون تاثيراتهم في المجتمع العراقي كما يعكسها اقرانهم على مختلف مناحي الحياة .
(لا يمكن لاحد ان يصبح مفكرا عظيما ، ما لم يكن العقل دليله ، مهما كانت النتائج)(1).
لقد استطاع المفكر والاديب الفرنسي الوجودي جان بول سارتر ان يقود اكبر مظاهرة سياسية تندد بالاحتلال الفرنسي للجزائر في داخل باريس عاصمة فرنسا . صحيح ان جبهة التحرير الوطني الجزائرية هي التي كانت تكافح من اجل استقلال الجزائر الا ان التظاهرات التي كانت تقودها العناصر الثقافية في فرنسا كان لها تاثير كبير في الشارع الفرنسي وقد جعلت من القيادات السياسية في البلد تعاني من ازمة ازاءاهم عنصر من عناصر الحراك الفكري والثقافي في بلد الثقافة وعاصمة الفن باريس .
(أن رجل الفكر هو الذي يمد الممارسة السياسية باراء واحكام وقيم ونظريات وفلسفات المعادلة الضرورية لوجود الدولة والثقافة والتاريخ والسياسة والفكر وبدونها لا يمكن توقع شيء افضل لما هو موجود في ظروف العراق الحالية)(2).
كيف سيقف الفكر امام البندقية الغبية او الكاتم المبرمج على تصفية الصفوة وشرايين البلد وركيزة المجتمع من الشباب . انها معادلة رهيبة اصبح من الصعب حلها في الظرف الحالي بعد ان وقفت الدولة بكل غباء امام القتل بنوعيه الفردي والجماعي وهي لا تمتلك سوى كتل الكونكريت والسيطرات التي لا يمتد حكمها الا لاربعة امتار مربعة من كل جانب . اما هذا التكبيل المريع للاجراءات فلا يفسر الا بارتباطه ببرامج الاحتلال متعدد الجنسيات وكومبيوترات الدوائر المخابراتية الاجنبية او بعدم وجود القدرة على السيطرة لقلة الخبرة وعدم وجود النزاهة والطمع بحيازة اكبر قدر ممكن من اسلاب الاضطرابات . وهذا ما يفسر وجود الجثث مرمية بالقرب من المناطق المحاذية للامتار الاربعة التي تحكمها السيطرات الحكومية .
(خلافا للعسكريين الذين لم يروا من الهزيمة غير مظهرها العسكري . كما فعلنا مع هزيمتي 1948-1967 ، في حين راى المثقفون فيها هزيمة للمجتمع كله، بسائر مؤسساته التي لم تعد معاصرة لعصرها ، وطالبوا بالتماهي مع فرنسا التي (حققت العقل) بثورتها وكذلك فعلت اليابان في 1868 وفي 1945 ، وكذلك فعلت تركيا بعد اسقاط الخلافة في 1924)(3).
كيف يتاتى للمثقف ان يعيش كل هذه الظروف ولا يصاب بازمة قلبية او سكتة دماغية بعد أن فقد القدرة على مواصلة الحياة اقتصاديا وبعد أن فقد سلطته التي يتمتع بها اقرانه في مختلف انحاء العالم . لقد اصبح المثقف اكثر عرضة للقتل والتشريد والدمار من غيره لانه يزاحم اكثر الناس فقرا على الارصفة واصبح اكثر الناس تسكعا وهو يتابط كل معاناته المشتركة مع سكان الارصفة والعوائل التي تعيش تحت الجسور وفي مؤسسات الدولة المدمرة والمعسكرات التي هجرها الجيش بعد ان هربت قياداته العسكرية والسياسية في اول يوم من دخول الامريكان الى العراق او بشكل ادق الى بغداد والذين يحسدون سكان الصرائف واحياء التنك على السقف الذي يؤيهم .
(أن المثقف الحقيقي هو صانع المستقبل العراقي ، فالمثقف الحقيقي هو العنصر الجوهري في تاريخ وعي الذات القومي والاجتماعي والسياسي والروحي كما ان المثقف الحقيقي هو موقف اجتماعي وفي هذا يكمن مضمون وظيفته السياسية انه يصنع ويؤسس المضمون الاجتماعي للسياسة عبر وضعها الدائم على ميزان الحكم الاخلاقي والجمالي فهو القوة التي ترهب السلطة كما انه السلطة التي ترهب القوة)(4).
عندما وظف المثقف امكانياته في خدمة الدولة فقد سلطته على الدولة واصبح شرطيا سلاحه القلم . لقد حدث ذلك منذ قرون عديدة عندما اصبح على مفترق طرق بين ان يكون مع الحق فيكون مصيره الموت او الحرمان من العطاء كما حدث مع المحدث الاسلامي وركن السنة النبوية عبد الله بن مسعود عندما حرمه الخليفة الراشدي الثالث من العطاء حتى وفاته او ان يكون مع السلطة الغاشمة كما حدث مع الكثير من المثقفين والمحدثين واصحاب النفوذ الذين التجاوا الى احضان معاوية بن ابي سفيان هربا من العدالة المحمدية التي انتهجها علي بن ابي طالب في توزيع العطاءات دون تمييز عرقي او اثني او اجتماعي . والتيار الثالث هم الذين فضلوا الجلوس على التل وهو اسلم الطرق .
عندما التجأ عقيل بن ابي طالب الى معاوية هربا من عدالة علي وطمعا في عطاء معاوية سأله هذا الاخير عمن هو افضل ، هو ام علي بن ابي طالب قال عقيل (الصلاة وراء علي اتم واللقمة مع معاوية أدسم ولكن الجلوس على التل اسلم) .
(ليس هناك من قوة لا تعترف بالسلطة كالمثقف والثقافة ، كما انه ليس هناك من سلطة اقوى من سلطة الثقافة والمثقف . وهي مفارقة تعيها السلطة دوما بينما يجهلها المثقف غالبا . وهي الثغرة التي تتغلغل منها السلطة الغاشمة وفيها تعبث ايضا بالسلطة الديمقراطية)(5).
أن هناك يقينا مفقودا الان وهو ان القوة التي تملكها الثقافة والمثقف الحقيقي تتحكم في مستقبل أي امة من امم العالم وليس الدولة فقط . ولكن بافتراض الدولة فليس هناك من مستقبل حقيقي ثابت من دون الثقافة والمثقف ، فروسيا لم تنهض من خلال الكرملن ولا من خلال الجيش الاحمر ولكن الكرملن والجيش الاحمر نهض من خلال سلطة بوشكين وديستويفسكي وجايكوفسكي وتولستوي وليرمنتوف وغوغول وهؤلاء هم الذين صنعوا لينين وقادة ثورة اكتوبر الكبرى والجيش الاحمر والاتحاد السوفيتي الذي دمرته السلطة البيروقراطية . فحيث تحل البيروقراطية تزيح الثقافة التي هي السلطة الحقيقية وديناميكية التقدم والتطور وعنصر الحيوية في أي نشاط سياسي او انساني او اجتماعي . لقد دمرت البيروقراطية اكبر دولة اشتراكية في العالم وها هي تدمر في طريقها كل المؤسسات والاحزاب الثورية العريقة وتقتات على كل منجزات الثقافة وتحتل كل المواقع التي خلقتها الثقافة ليقود المثقف من خلالها حركة الحياة .
ليس هناك من بلد يستطيع ان يقف من خلال رجل واحد كبريطانيا . فلو قدر لبريطانيا ان تدمر بعد ان ذهبت كل المستعمرات التي كانت لا تغيب عنها الشمس وانتهت سلطة بريطانيا العظمى وبدأ الايرلنديون يغزون لندن عاصمة اكبر دولة استعمارية في القرن التاسع عشر والعشرين لكان شكسبير واعماله الرائعة كافية ان تبقى اسم بريطانيا في الاذهان الى قرون عديدة. لقد بقي هذا الشاعر المسرحي العبقري مؤشرا على عظمة بريطانيا من خلال مؤلفاته منذ القرن السابع عشر وحتى الان والظاهر انه سيبقى هكذا مع عظماء ومثقفي بريطانيا يحملون بلدهم ليعبروا به عبر المحيطات .
لقد قتل فاتك الاسدي اكبر شعراء العربية والاسلام بعد ان تنقل هذا الكيان الذي كان وما زال (ماليء الدنيا وشاغل الناس) في كل ارجاء هذه الصحراء التي بقيت تحمل القاتل والقديس وتحمل في باطنها النفط وعلى اديم رمالها الدم .
ما زال المتنبي يتكرر مفردا بين جيل وجيل حتى القرن العشرين عندما ظهر الشاعر الفذ محمد مهدي الجواهري . اما فاتك فما زال يظهر بكل سؤاته جماعيا حتى لقد اصبح فاتك القرن العشرين اكثر فتكا ودموية من فاتك الاسدي .
اننا من اكثر الامم التي تقتل أنبياءها(6) وهي بذلك تقتل الثقافة والعلم والفكر والمستقبل . فاية لعنة تحمل هذه الصحراء اللعينة الغريبة .
(مصطلح مثقف نحته السياسي الفرنسي جورج كليمنصو (1841-1929) زعيم الجمهوريين الراديكاليين ورئيس وزراء فرنسا (1906-1909) (1917-1920) وهو من نفذ قانون فصل الدولة عن الكنيسة . وكان سبب نحت هذا المصطلح تسمية نفر من (الصهاينة الفرنسيين) منهم اميل زولا ومارسيل بروست واندريه جيد الذين انتصروا للضابط الفرنسي اليهودي (دريفوس) الذي لفقت له قيادة الجيش الفرنسي تهمة التخابر مع العدو الالماني فحكم عليه القضاء العسكري بالنفي الى (جزيرة الشيطان) وشق هؤلاء الكتاب عصا طاعة الامة وطالبوا باعادة محاكمة دريفوس وثم العفو عنه . ومنذ ذلك الوقت اصبح المثقف يدافع عن الحقيقة ضد الامة وعن الفرد ضد المؤسسات)(7).
ان الاسئلة تتراكم وهذا الكم الهائل من الكوارث لا يمكن الوقوف ازاءه مفردا ولكن بالتاكيد لن يكون السلاح البندقية ، لانها اصلا هي السبب في كل هذه الكوارث فما من تهديد بسيط او اعتداء ساذج الا وينطلق العربي الى البندقية لحل هذا النزاع الذي كان من الممكن ان يحل باشارة بسيطة من العقل . اننا امة الثارات وامة السيف وامة البندقية ولهذا السبب اصبحنا امة الهزائم والكوارث المتكررة . كل ذلك لم يدفعنا الى التفكير في يوم ما بسبب هزائمنا وانكساراتنا المتتالية .
(ان المثقف من يتمتع بالشجاعة والجرأة الفكرية والسياسية الكافية لطرح الاسئلة عن المشاكل الحقيقية التي يعاني منها مجتمعه والتعرف على الانسدادات المزمنة التي تشل الفكر وتغيب العقل ، وتسبب العقم في المواهب وتطرد الادمغة المفكرة خارج حلبة الاوطان)(8).
اتفق مجموعة من اقرباء احد الشهداء المغدورين في شارع من شوارع بغداد الراقية والهادئة التي اصبحت صالحة للغدر ورمي الجثث ، مع سائق اسعاف حكومي على انتشال شهيدهم بمبلغ (300) دولار وعندما وصلوا الى مكان الجثة وجدوا قريبا منها جثة اخرى لشاب صغير لا يتجاوز عمره (13) سنة قضى مغدورا ايضا فحاولوا ان ينتشلوه الا ان سائق الاسعاف رفض ذلك قائلا بانهم اتفقوا معه على نقل جثة واحدة فقط واصر على ذلك .. قلت بان هذا السائق هو الارهابي الحقيقي الذي شارك في قتل كل هذه الجثث التي كانت مرمية على جانبي الطريق .
هل لهذا الحادث علاقة بالمروءة ام الشهامة ام ان الثقافة والمثقف ليس لهما مكان في هذا البلد الذي لم يكن يوصف الا مقرونا بكلمة السلام فهو بلد السلام ودار السلام ومدينة السلام .
(ليس هناك من قوة في ظروف العراق الحالية قادرة فعلا للنهوض به من خراب الماضي اكثر من المثقفين رغم كل الدمار والخراب الهائلين اللذين تعرض لهما او تعرضت لهما الثقافة والمثقفين والقضية هنا ليست فقط استعداد المثقفين التلقائي لقبول فكرة الحرية والاحتمال فحسب بل بسبب الترابط العضوي بين الرؤية العقلانية والنزعة الانسانية القائمة في صلب فكرة الثقافة)(9).
(ما من قوة في الارض / ترغمني على محبة مالا أحب / وكراهية مالا اكره / ما دام هناك / تبغ وثقاب وشوارع)(10) وهكذا يصنع المثقف سلطته بعيدا عن السلطة وبنفس الوقت تعرف السلطة كيف تستفيد من الثقافة والمثقف في اعادة ترميم كل الخراب والدمار الذي اصاب مكوناتها والحلقة الاخيرة والاساسية هو المجتمع ويقينه الاكيد بانه لا يملك مقومات وجوده الحقيقية الا من خلال سلطة المثقف الذي يعتبر (مكان القطب من الرحى)(11).
الحواشي:
(1) جون ستيوارت مل (1806-1873) .
(2) انظر صحيفة المدى العدد 851 في 13/كانون الثاني/2007 لقاء اجراه مازن لطيف علي مع المفكر د. ميثم الجنابي .
(3) انظر محامي الشيطان شاكر النابلسي ص102-103 .
(4) د. ميثم الجنابي المصدر نفسه .
(5) المصدر السابق نفسه .
(6) قول الرسول (ص) (علماء أمتي افضل من انبياء بني اسرائيل) .
(7) شاكر النابلسي / محامي الشيطان ص263 .
(8) العفيف الاخضر / من المواطنة السالبة الى المواطنة الموجبة / جريدة (الحياة) لندن 19/7/2001 .
(9) د. ميثم الجنابي المصدر نفسه .
(10) من قصيدة للشاعر المبدع محمد الماغوط .
(11) من خطبة للامام علي بن ابي طالب .
التعليقات (0)