المثقف ينبغي ان يدخل معترك العمل السياسي لا كسياسي محترف يهتم بالثقافة، بل كمثقف محترف يهتم بالسياسة. وهكذا يستطيع أن يحـّرر نفسه من خدمة"مراكز القوى". انتماؤه الأساسي، الذي هو أوسع وأهم من أي انتماء آخر، هو الى الفكر والثقافة وليس الى السياسة. بل انه يستطيع أن يقلب الآية ويفرض على السياسة أن تنتمي بتبنيّ رؤيته.
وإذ يربط المثقف المسؤولية السياسية بمسؤولية ثقافية (وبالتالي, أخلاقية- روحية)، فانه يفتح الطريق أمام نقد شامل للعملية السياسية ذاتها. مثلاً، الجانب الماكيافيللي في السلوك السياسي: بدلاً من مبدأ " الغاية تبّـرر الوسيلة " الذي أدّى ويؤدّي إلى نتائج فاجعة، فان المثقف يدعو إلى مبدأ " انسجام الغاية والواسطة " (أو الهدف والوسيلة"). ينبغي أن يكونا متوافقين كلياً، ومتماثلين في القيمة الأخلاقية ذاتها. إذ لا يمكن تحقيق هدف انساني بوسائل لا إنسانية، أو بناء مجتمع عادل بوسائل أو طرق غير عادلة. فهذا يؤدي إلى تشويه انسانية الهدف وعدالة المجتمع على حدّ سواء. وهو يعني(حتى في إطار ديمقراطي تغليب التعامل اللا أخلاقي في العملية السياسية. وبالتالي فانه يخلق جواً من الاحباط واللا مبالاة واليأس في المجتمع، ويقود الى نقص التطلع الديمقراطي وتثبيت الدكتاتورية والحكم الفردي.
الاعتراف بذلك يعني أيضاً رفض مفهوم دور النخبة القيادي في تغيير المجتمع كيفياً وفقاً لرسالة ايديولوجية، أو تبرير تاريخي، أو روية يوطوبية، الخ. فميكانيزم ممارسة السلطة من قبل النخبة يؤدي دوماً، رغم نيـّاتها الأخلاقية المعلنة، إلى خلط النخبة بالهدف أو تحويلها إلى هدف قائم بذاته. لهذا بدلاً من أن تكون أدارة لتحقيق غاية اجتماعية معينة فإنها تصبح هي الغاية ذاتها. مثل هذه الأنظمة تدخل بالضرورة في تناقض مع أهدافها وتتحول إلى أشكال جديدة من الاستبداد.لهذا فان المثقف يرفض،كوهم ضارّ،ادعاء أية فئة ، مهما كانت،بحق استثنائي في تغيير المجتمع بمعزل عن العملية الديمقراطية. فالطريقة الوحيدة المشروعة والفعـّالة لإدارة المجتمع هي الجهد التعاوني الحّر المشترك الذي تقّره المؤسسات الدستورية المنتخبة على نحو ديمقراطي من قبل كافة الأفراد.
كل هذا يبين أهمية منبر ثقافي مستقل في بلورة وتثبيت وعي عقلاني- دمقراطي بحقوق الأفراد ودورهم في الميادين الروحية/الأخلاقية والاقتصادية والسياسية كأساس لبناء مجتمع من العدل والحرية والوفرة. تمثل هذا الوعي لابد أن يكون علمياً، في إطار المعرفة الجديدة في ميادين الطبيعة والمجتمع، وبالتالي خارج الأطر السياسية التقليدية.
التعليقات (0)