تركي الحمد: السياسي دفع المثقف إلى الانسحاب والركون للعزلة
عالي القرشي : علاقة تربكها الأدبيات التاريخية
هلا الجهني - الحياة : 22 - 12 - 2009
لا تزال العلاقة بين المثقف والسلطة، أو المثقف والمؤسسة الرسمية، يشوبها الكثير من اللبس، غير بعيدة من التأويلات غير البريئة. الموقع الذي تحتله السلطة في الوطن العربي، لم يترك المجال مفتوحاً، للتعاطي معها من دون شبهات. كما ان الوضع الذي آلت إليه الثقافة وانعكاسه على المثقفين العرب أنفسهم، جعل من الثقة في المثقف وقدرته على الإفادة من نفوذ السلطة، دون أن تؤثر فيه سلباً، شيئاً يشبه المستحيل. كتاب كثر اشتغلوا مع السلطة وتقلدوا مناصب، فأفادوا من الهامش الذي تتيحه السلطة للمشتغلين معها، وقدموا للثقافة والمثقفين جزءاً كبيراً، لم يكن ممكناً تحقيقه، دون عون السلطة ونفوذها. عون السلطة ونفوذها ليسا شيئاً هنا، غير الحصول على الدعم المادي، من طريق الإقناع عبر خطط ثقافية مدروسة، ومن هذا النفوذ أيضاً تعطيل البيروقراطية التي كثيراً ما تعوق مثل هذه الخطط.
في الوطن العربي ما تزال العلاقة، على رغم تغير المراحل ومرور الزمن، مشوبة بالحذر، بين الترهيب والترغيب. والطرفان غير بعيداً من الشك. هنا شهادتان من ناقد ومفكر فيهما الكثير من التأمل لهذه العلاقة، ومنعرجاتها.
الدكتور تركي الحمد ... العزلة في شرنقة الذات
الثقافة، السلطة، والمجتمع: تماهي ما لا يتماهى. نحن الآن بصدد ثلاثة أركان رئيسة تتحدد في العلاقة بينها طبيعة السيرورة الاجتماعية، وبالتالي طبيعة التفاعل الاجتماعي: المثقف، السلطة، المجتمع. وإذا أردنا استخدام مقولات تراثية، قلنا الخاصة والعامة. فالسلطة، وفي تاريخنا الاجتماعي، كانت دائماً تشكل لب الخاصة، والمحدد لمجال الخاصة. وبكلمات حديثة، فالسلطة في تاريخنا، هي النخبة الأولى والرئيسة، وهي من يحدد طبيعة ومجال النخب الاجتماعية الأخرى، وفق الطريقة التي تتعامل بها معها، ودرجة قربها أو بعدها عنها. والمثقف، أو المشتغل بحرفة الفكر والثقافة، يرى نفسه نخبة بذاتها، ويتحدد موقعه كنخبة اجتماعية فعلية بطبيعة علاقته بالسلطة السياسية تحديداً. وكلا الطرفين ينظر إلى نفسيهما على أنهما مفارقان للمجتمع الأعم، الذي يبقى عامة مهما علا شأنه.
وكل ركن من هذه الأركان الثلاثة يمتلك منطقه الخاص، أو نظامه الفكري، الذي من خلاله يفكر ويسلك. وتبدو أنظمة الفكر هذه، وبخاصة في حالتنا العربية المعاصرة، متناقضة أشد التناقض. وعندما ندقق النظر أكثر، نجد أن التناقض بين منطق السلطة ومنطق المثقف هو الأكثر بروزاً، أو هو يوضع كذلك وفقاً لآليات الفكر العربي المعاصر التي سبق الحديث عنها. فالسلطة السياسية لا يهمها إلا واقع الحال الآني، لأن هذا الواقع الآني هو المحدد لاستقرارها، وبالتالي وجودها. فجوهر المنطق المسير للسلطة هو دائماً الوجود والبقاء. والمثقف، كما يصور نفسه، إنما يتحدث عن مأمول الحال، دون كبير اكتراث بواقع الحال. وكلا الاثنين يتنافس على المجتمع ومكوناته من اجل اكتساب شرعية الوجود، في صراع واضح على القدرة على التأثير. ومن هذا الصراع، أو قل التنافس، على ترويج كل طرف لمنطقه في المجتمع، تنشأ الإيديولوجيا، بصفتها الخطاب الأكثر قبولاً وإدراكاً لدى فئات المجتمع المختلفة (العامة). والأيديولوجيا في جوهرها، عبارة عن خطاب تبرير وتسويغ، لأي طرف يتبناها، وتخفي في المسكوت عنه أكثر مما تعلن في المتحدث عنه.
وحيث ان «العامة» ميالة بطبعها إلى التلقائية والعاطفية والنفع المباشر، فإنها تكون مذبذبة الاتجاه بين هذين الخطابين الأيديولوجيين: خطاب المثقف المؤدلج، وخطاب السلطة القائمة. وعادة ما يكون لب ايديولوجيا السلطة هو النفع المادي المباشر، مغلفاً بالقيم الثقافية التقليدية المعيشة، أو القيم الأكثر قبولاً لدى شرائح المجتمع الأوسع. أما الأيديولوجيا خارج السلطة السياسية، فعادة ما تكون دائرة حول مبادئ ومثل تصب بدورها في النفع المادي لأطراف المجتمع في النهاية، مثل المساواة والعدالة ونحوها. في حالات الاستقرار النسبي، السياسي والاجتماعي، تكون السلطة أكثر قدرة على احتواء المجتمع، واكتساب ولاء اطرافه المختلفة. ويكون الخطاب الثقافي المؤدلج، هو الأكثر قدرة على الاحتواء وكسب الولاء في حالات عدم الاستقرار النسبي، أو في حال التحولات الاجتماعية الحادة.
فإذا نجحت السلطة وخطابها الأيديولوجي في احتواء المجتمع، فإنها تدفع المثقف إلى الركون إلى العزلة والانسحاب، والتقوقع حول ذاته وأحلامه بعيدة المدى، ملقياً باللوم على الظروف التي وأدت هذه الأحلام. بمعنى، ان المثقف في هذه الحالة يبتعد أكثر وأكثر عن مبدأ الواقع، ويستغرقه مبدأ الحلم بالكلية. من شواهد ذلك ما ذكره روائي مصري في ندوة حول التجربة الروائية، ضمن الأنشطة الثقافية لمهرجان المحبة التاسع في اللاذقية. ففي حديثه عن تجربته الروائية، وسيرته الذاتية، يجيب الروائي عن سؤال حول أهم الأحداث التي أثرت فيه، وجعلته يميل إلى الصوفية في كتاباته الأخيرة، فيقول: «تغيرات كثيرة أثرت بي منها وفاة والدي عام 1980، والتغيرات العنيفة في مصر والعالم العربي، وهي تغيرات أثرت بي كثيراً، وهزتني، ولذلك دخلت إلى عالم التراث الإسلامي» (جمال الغيطاني، وردت في صحيفة عكاظ السعودية، العدد11356، 18/5/1418-19/9/1997 ). ما يقوله الروائي هنا، وهو مجرد نموذج، هو الهروب الثقافي ذاته، والعزلة في شرنقة الذات. فهو يفر إلى التراث الإسلامي حين لا يحتمل الأحداث، بدل أن يبحث في أسبابها. ولعل مثل هذا الوضع يفسر لنا إلى حد كبير تلك النخبوية الهروبية، إن صح التعبير، التي يمارسها المثقف العربي حين لا تسير الأمور وفق هواه. والغيطاني هنا، ليس إلا مثل معاصر ومباشر، وإلا فإن الأمثلة كثيرة. فعندما يتخلى أديب ومفكر مثل «طه حسين «عن مشروعه الثقافي النقدي، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه، الذي استهله في «في الشعر الجاهلي»، و«مستقبل الثقافة في مصر»، ليحط رحاله في «على هامش السيرة»، و«الشيخان»، و «الوعد الحق»، ونحوها من مواضيع، فإنما يعكس ذلك نوعاً من الهروب الثقافي من المهمة الأولى والرئيسية التي نذر المثقف نفسه لها. ذلك لا يعني التقليل من شأن هذه المواضيع علمياً، أو تراثياً، أو إيمانياً، فتلك مسألة أخرى. المقصود هنا أن طه حسين، بصفته نموذجاً لا بصفته الشخصية، هرب من الظروف التي كانت تقف في وجه مشروعه الثقافي النقدي، ولجأ إلى عزلة التراث المريحة، في إطار من نخبوية ثقافية متعالية، تبدو وكأنها تتعامل مع ما يريد الناس، ولكنها في النهاية تعزل حركة الفكر عن حركة المجتمع والعالم من حوله.
ربط الأحلام بعاطفة مشبوبة
وإذا نجح المثقف، أو من يعتبر مثقفاً في العرف العام، في اكتساب قواعد اجتماعية واسعة، عن طريق خطاب أيديولوجي يربط الأحلام الوردية الكبرى بعاطفة مشبوبة (وذلك يكون عادة في فترات التحولات الاجتماعية والسياسية، وفي ظل غياب خطاب سلطة فعال، أو عجز السلطة عن تقديم الحد الأدنى من المنافع، إذ تفقد في هذه الحالة شرعية الانجاز)، فإنه يتحول إلى «زعيم» شعبوي، أو جزء من زعامة شعبوية، مبتعداً بذلك عن الواقع والحلم معاً، ليصبح همه الأوحد الحفاظ على «عصبة» الزعامة ذاتها. ولعل حالة ميشال عفلق من جانب، وحسن الترابي من جانب آخر، تشكل نموذجاً للتحليل السابق.
كيف يمكن الخروج من إشكال المتضادات هذه في حالتنا العربية المعاصرة؟ ام أنه كُتب علينا أن نبقى في دائرة التعارضات الفسيفسائية هذه؟ السؤال حقيقة ذو مضامين نظرية وعملية في ذات الوقت. فمن الناحية النظرية، يمكن الافتراض أن هناك مجالاً للخروج من الدائرة المغلقة لهذا الإشكال وذلك بالجمع الكيفي بين مجالي السلطة السياسية والثقافة، وذلك عن طريق ما يمكن أن نسميه « ثقفنة السلطة « و «وقعنة الثقافة»، بحيث يلتقي المجال السياسي والمجال الثقافي في مبدأ الواقع، الذي هو حركة المجتمع ذاتها، وبذلك تنتهي نخبوية الموقف المفترضة، وتتفاعل الأركان الثلاثة. ولكن يبقى السؤال: كيف يمكن أن يتم ذلك؟ فالمطلوب ليس مجرد الوصف النظري، والخروج بحلول نظرية تجريدية، بقدر ما هو ترجمة الوصف والحل النظريين إلى مخطط عملي، إن صح التعبير، قابل للتطبيق ولو جزئياً. فإن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام، وضياء فانوس على الأرض، خير من لمعان النجوم في السماء. مثل هذا الحل العملي لا يقوم على «الوعظ» والإرشاد، أو مجرد محاولة نشر الوعي به، أو إقناع السلطة والمثقف بوصفة «الثقفنة والوقعنة». فالمسألة في المقام الأول هي مسألة تعارض ذهني وتكويني في الرؤية والسلوك، ومثل هذا التعارض لا يحل بالإقناع وافتراض النوايا الطيبة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإنه حتى لو افترض القدرة على الإقناع بسلامة الحل النظري المجرد، فإن ذلك يكون متعلقاً بالأشخاص. ومهما كانت مزايا الأشخاص وسجاياهم، فإنهم يظلون كيانات موقتة، تنتهي سياساتهم وسلوكياتهم بمجرد انتهائهم، وليس هناك من ضمان لاستمرار من بعدهم على رأيهم. ومجرد إلقاء نظرة عجلى على معظم الأنظمة السياسية المعاصرة يبين هذه النقطة.
مأسسة الحياة يكمن الحل
إن حل «إشكال» السلطة، الثقافة والمجتمع، إنما يكمن في تجسيد الفكرة في واقعة، أو ترجمة المبدأ إلى مأسسة سياسية أو اجتماعية. بمعنى آخر، في مأسسة الحياة السياسية والاجتماعية. فالمؤسسة ليست إلا فكرة متجسدة على أرض الواقع، ومن هنا تنبع قيمتها وفاعليتها، من حيث كونها وعاء تلتقي فيه حركة السلطة والمثقف والمجتمع بشموله. فالمؤسسة عبارة عن شريان سياسي واجتماعي تمر من خلاله الحركة الاجتماعية، بما فيها السياسية، بشكل منظم ومتحكم فيه، مما يحول دون تلك الانفجارات العميقة المزلزلة في الحياة الاجتماعية والسياسية. وبذلك فإن المأسسة تشكل نوعاً من شبكة شريان وأوردة في حياة أي كيان اجتماعي وسياسي، يحقق الاستقرار والاستمرارية للنظام السياسي، ومجالاً للتعبير عن الذات والحاجة، والمشاركة لبقية أطراف المجتمع، وفي مقدمتهم المثقفين أنفسهم. وبذلك فإن المأسسة تقطع الطريق على نهوض أي خطاب أيديولوجي متوتر، أو زعامة شعبوية معينة. كما أنها، أي المأسسة، تمثل نقطة التقاء للخاصة والعامة، تقضي على تلك النخبوية الفسيفسائية، التي تدور فيها النخب وبقية مكونات المجتمع في أفلاكها الخاصة، ودوائرها المنعزلة.
وإذا كانت الدولة هي التجسد التاريخي للفكرة المطلقة عند هيغل، من حيث إنها، وخاصة الدولة القومية الحديثة، الإطار الذي فيه تذوب تناقضات العام والخاص، المطلق والمحدود، الفرد والجماعة، السلطة والمجتمع المدني، فإن المؤسسة هي التجسد الملموس لكل ذلك في داخل الدولة ذاتها. ولكن كل ذلك يستلزم وجود دولة ايجابية افتراضاً، وفق تعبيرات عبدالله العروي، تكون بمثابة القلب من الكيان محل التحليل.
الدكتورعالي القرشي ... علاقة تربكها الأدبيات التاريخية
يبدو أن العلاقة بين الطرفين يغبش عليها ويربكها الأدبيات التاريخية لتلك العلاقة، والنظر الحذر فالسلطة المتحكمة والقمعية تخشى سطوة الثقافة ووعيها، والنخب الثقافية تخشى التقريب ثم التدجين، ولذا كان الأمر في حاجة إلى الثقة، وكبح سطوة الحذر. ونحن في هذه البلاد التي تنشر ثقافة الانفتاح والتعددية، وتبث قيم احترام الآخر والحوار مع المخالف والمختلف أرادت لهذه المؤسسات الثقافية، التي تعمل تحت مظلة العمل الرسمي أن تخدم الحراك الثقافي، وأن تسخر إمكانات الدولة لاستنفار واستثمار الطاقات الثقافية والإبداعية. فوجود الدول وفعلها من وجود الشعوب، ووجود الشعوب وحضورها يكون بحضور فعلها الثقافي والإبداعي. لكن الأمر يحتاج إلى خطوات في تنظيم هذه المؤسسات وفعلها الثقافي، لعل أولها يظهر في الاستفادة من واقع التجربة القائمة، ودراسة ما فيها من سلبيات تمثلت في الاتكاء على السلطة الرسمية لإنشاء سلط وتحكمات في المسار الثقافي وفق إرادة من تسنمو هذه الأمكنة، فعاثوا قمعاً، واستدناء لمن يرغبون وحجراً وتضييقاً على من لا يحبون، ومشكلات الأندية الأدبية دليل على ذلك. فكم من إقصاء تم بسب هذا التسلط الممنوح. وكأن حضور بعض النخب في الإدارة الثقافية ليس لإدارة الثقافة وخدمة الإبداع، بل لإضفاء شرعية الهيمنة، وهذا الأمر ينبغي أن تتنبه له وزارة الثقافة والإعلام لأنه يشوه هذه العلاقة، ويشوه أهداف الوزارة، ويضعه في إطار هواجس المثقف المرتبكة نحو هذه العلاقة. فالمثقف متى ما شعر بحرية التعبير التي أفضلت بها حركة الإصلاح التي يقودها، ويحرص عليها خادم الحرمين الشريفين سيستثمر طاقاته، ويستدعي إبداعات، لذلك أرى أن هذا الأمر يحول دون تحقيق أهداف الوزارة بل يشوهها، وينحرف بها عن مسارها.
لكني على ثقة من أن تخطو الوزارة خطوات يقودها مهندس التشكيل الجديد
للأندية الأدبية الدكتور عبدالعزيز السبيل لمجاوزة هذا التسلط، الذي يتقنع بتسلط ترفضه المؤسسة الرسمية.
التعليقات (0)