مصطلح "مثقف"، نحته السياسي الفرنسي جورج كليمنصو (1841-1929) زعيم الجمهوريين الراديكاليين، ورئيس وزراء فرنسا (1906-1909)، (1917-1920) وهو من نفّذ قانون فصل الدولة عن الكنيسة. وكان سبب نحت هذا المصطلح، لتسمية نفر من "الصهاينة الفرنسيين" منهم أميل زولا، ومارسيل بروست، وأندريه جيد، الذين انتصروا للضابط الفرنسي اليهودي دريفوس، الذي لفقت له قيادة الجيش الفرنسي تهمة التخابر مع العدو الألماني، فحكم عليه القضاء العسكري بالنفي إلى "جزيرة الشيطان". وشقَّ هؤلاء الكتّاب عصا طاعة الأمة، وطالبوا بإعادة محاكمة دريفوس، وتمَّ العفو عنه. ومنذ ذلك الوقت، أصبح المثقف يدافع عن الحقيقة ضد الأمة، وعن الفرد ضد المؤسسات.
-2-
فمن هو المثقف الحديث، وما هي مهمته؟
من خلال ما قام به المثقفون في الغرب، وفي أجزاء معينة من العالم العربي، نستطيع أن نضع تعريفات أوليّة للمثقف ومهامه المناطة به، في كل زمان ومكان على الوجه التالي:
1- المثقف الحديث، هو من يساهم في تحضير الأذهان في مجتمعه، للتكيّف مع متطلبات، وضرورات عصره.
2- يدعو المثقف الحديث، إلى إلغاء المواطنة السالبة المحرومة من حقوقها العامة، وإقامة المواطنة الموجبة الداعية إلى تحويل كافة المواطنين، بغض النظر عن ديانتهم، وعرقهم، وطائفتهم إلى مواطنين، متساوين في الحقوق والواجبات مع باقي المواطنين الآخرين. وذلك طبقاً لـ "إعلان حقوق الإنسان" الصادر عام 1789 الذي نصّت مادته الأولى على: "إن الناس يولدون أحراراً، ويظلون أحراراً، متساوين في الحقوق".
3- يدعو المثقف الحديث، إلى ردم الفجوة التاريخية بين الدولة الطائفية وبين دولة ما بعد القومية، إلى حيث تصبح الأمة/الدولة، تطويراً غير مسبوق لمواطنة عابرة للقوميات، والإثنيات، والديانات، والطائفيات. ولكي يكونوا جميعاً على كافة الأصعدة، وفي جميع المجالات.
4- يتمتع المثقف الحديث بالشجاعة والجرأة الفكرية والسياسية الكافية، لطرح الأسئلة على المشاكل الحقيقية، التي يعاني منها مجتمعه، والتعرّف على الانسدادات المزمنة التي تشلّ الفكر، وتُغيّب العقل، وتسبب العُقم في المواهب، وتطرد الأدمغة المفكرة خارج حلبة الأوطان.
5- يقوم المثقف الحديث، بإنتاج الفكر النقدي، الذي يساعد على الانتقال من القطعي إلى المبرهن عليه، ومن المسلم به إلى المتناقش فيه، ومن القراءة العابرة للتاريخ إلى القراءة التاريخية للنص، لجعله في متناول العقل، ومتكيفاً مع متطلبات الحياة الاجتماعية.
6- المثقف الحديث لا يخترع مسوخه من الزعماء المزيفين. ففي العالم العربي صنع بعض المثقفين العرب أصناماً سياسية لهم في الستينات. ثم وقعوا في مأزق هزيمة الصنم، وفي مأزق موته. ويقول المفكر السوري جورج طرابيشي إن المثقفين العرب في هذه الحالة كانوا في مأزقين: الذعر حتى الموت إزاء ذلك المخلوق، والإعجاب حتى التماهي معه. وما هذا إلا لأن المثقف العربي لا يزال - عامة - فاقد الفعالية التاريخية، باحثاً عن آباء وهميين يحتمي بهم.
7- هناك عدة قيم كونية أساسية على المثقف الحديث أن يتسلح به ويدافع عنها، وهي قيم جديدة على الثقافة العربية كالفكر النقدي، والفرد المستقل، وحقوق الإنسان، والحداثة السياسية، وأخيراً قيمة الاقتصاد الحديث. وفي صريح العبارة فثقافتنا العربية لم تعترف بحرية الفرد في اختيار ملابسه، وأفكاره، وقناعاته، وقيمه، باستقلال تام عن السلطة الأبوية الاجتماعية والسياسية.
8- يتبنى المثقف الحديث أفكار الحضارة الحديثة. فالحضارة الحديثة ابنة لثلاثة اكتشافات في الوعي الأوروبي: اكتشاف جاليلو لكروية الأرض، وداروين لنظرية التطور، وفرويد للاشعور. وهكذا لم تعد الأرض مركز الكون، ولا الإنسان مركز الكائنات، ولا العقل سيد بيته، بل اتضح أن الإنسان محكوم باللاعقل؛ أي اللاشعور.
9- يقوم المثقف الحديث بتنشيط ذكاء قارئه. ولا يخدره بتقريض أوهامه عن نفسه. وهذه مهمة نقدية أولاً، تكون على المثقف أن يجددها دوماً. كما أن من مهام المثقف الاصطدام دوماً بالأحكام المسبقة، وبالأخطاء الشائعة.
10- المثقف الحديث ليس مطرب السهرة. ويعتبر المثقف الحديث مثقفاً غير شعبي، لأنه ليس ديموغاجياً، ولا يتملق جمهوره، ولا يُسمعه ما يريد أن يسمع، ولكنه يُسمعه ما يجب أن يسمع.
11- المثقف الحديث يقف إلى جانب الحداثة، والعقل، والتجديد، والديموقراطية ضد التوتاليتارية، وحرية المرأة ضد استعبادها.
12- يؤمن وينادي المثقف الحديث بالتلاقح الثقافي بين الثقافات المختلفة. فالثقافة محكومة بقانون التلاقح؛ أي التأثير والتأثر المتبادلين. ويشبّه المفكر التونسي العفيف الأخضر، قانون التلاقح الثقافي بجهاز الهضم، الذي يأخذ ما هو مفيد للإنسان، ويطرد الضار منه. وهو يهضم عناصر من الثقافات الوافدة، مع الاحتفاظ بما هو جوهري في الثقافة الأصلية. وهذا ما تمَّ بالفعل عندما تلاقحت الثقافة العربية في العصر العباسي مع الثقافة الإغريقية والهندية والفارسية. فهذه الثقافات كانت وثنية، ولكنها لم تؤثر على ثقافة التوحيد العربية - الإسلامية.
13- يستخدم المثقف الحديث كافة الوسائل وكافة المنابر، لكي يوصل رسالته إلى المتلقين. وعلى المثقف الحديث ألا يترك الساحة الثقافية والإعلامية للمتطرفين، الذين غالباً ما يعملون- بوعي أو بدونه - ضد الإيمان الديني الحقيقي. فعلى المثقف العربي أن يجد لنفسه موطئ قدم حقيقياً وفاعلاً. وهذا مستطاع لدى المثقف الحديث، فيما لو أراد وأقدم بكل شجاعة.
14- وقد يستغرب القارئ الآن، عندما نقول، إن المثقف الحديث لا يُعبِّر عن ضمير الأمة. فـ "تعبير المثقف عن ضمير الأمة" اعتبرته التوتاليتارية الفاشية، الستالينية والنازية "أمراً قاطعاً" بالمعنى الكانطي؛ أي واجباً أخلاقياً ملزماً، وإلا فالعصا لمن عصى. لأن التوتاليتارية تعريفاً هي تذويب الفرد في الأمة، لجعله نسخة طبق الأصل منها، ينطق بلسانها، ويفكر برأسها الجمعي لا بنفسه.
15- إن وقوف المثقف إلى جانب الأمة وإلى جانب الدهماء ضد الحقيقة، هو خيانة المثقف لأمته. وقد أطلق عليه الكاتب الفرنسي جيل باندا في 1927 "خيانة المثقفين" الذين يتطابقون مع ضمائر أمتهم الخربة، بدلاً من التطابق مع الحقيقة، ومع القيم الإنسانية والعقلانية الديموقراطية، حتى لو جرّعهم ذلك السم الناقع الذي تجرّعه سقراط. إن شعار "أمتي دائماً على حق"، شعار شوفيني، لا يليق بالمثقفين، بل بالمتعصبين لأممهم، أو لفريق الكرة، أو للمطرب الغنائي المحبب لديهم.
-3-
هذا التعريف للمثقف الحديث تعريف مثالي بكل المقاييس، وهذه المهمات التي كلَّفنا المثقف الحديث بها مهمات مثالية، ربما لا تنطبق على 5% من المثقفين في التاريخ، والذين نطلق عليهم "شهداء الحق والحقيقة". في حين أن خيانة المثقفين للحقيقة الخالدة، كانت واضحة وبارزة على مرِّ العصور، وفي مختلف الأمكنة.
منقول
http://www.alwatan.com.sa/news/writerdetail.asp?issueno=3081&id=9816&Rname=23
التعليقات (0)