المثقفون.. من بناء الدولة إلى الهرولة وراء السلطة
( إن التلاعب بالأفكار كالتلاعب بالأسعار في الأسواق )
في إحدى دراساته تحدث شيخ القومية العربية – ساطع الحصري - أو منظرها، أو لسانها أو عينها – سمه ما شئت – تحدث عن انفصام يعانيه مثقفون ومفكرون عرب بين شعاراتهم وممارستها، دون أن يطرف لهم قلم مراجع لها؛ وجل ما يمكنهم قوله، ما قاله المرحوم عبد الرحمن منيف ( إن أغلب الذين ينادون بالفضيلة ليس لديهم الوقت الكافي لتطبيقها )، ثم ما هي الفضيلة التي يتحدثون عنها في شعاراتهم ونظرياتهم؟ بالتأكيد ليست الفضيلة المطلقة، إذ لو كانت كذلك لانطبعت عليهم قبل مستمعي خطاباتهم. ولذا انقسمت الفضيلة لديهم إلى دينية وليبرالية وماركسية وديمقراطية وفضيلة معولمة. أحد الكتاب نقل حال المثقفين في العلم العربي في مجلة العربي بأنهم لا يجيدون إلا التصفيق في المؤتمرات.
الحالة هذه – الانفصام – لم تكن وليدة اللحظة بل كان لها أسبابها الموضوعية منها تقسيمات المرجعيات الفكرية، ويمكن تصور مثال لذلك وهو تقسيمات العصور الأدبية، فعندما يقولون العصر الجاهلي فيعنون به المرحلة التي تسبق الإسلام، والعصر الإسلامي يقصدون به الخلافة الراشدة، والعصر الأموي فينسبونه للدولة الأموية، وكذلك العباسي للعصر العباسي. أعد القراءة واستخرج الرابط العجيب الذي يجمع بين هذه التقسيمات. فهل اُعتُمِدَ الزمان، أم النوع؟
فإن قلنا بالأول ( الزمان ) فهو لا يجري على نحو الانفصال، بل يجري على نحو الاتصال؛ وإن قلنا بالثاني ( النوع ) فإن الشعراء المسلمين لم ينقرضوا بعد الخلافة الراشدة، بل هم باقون ما بقي الزمان.
المثقفون الذين يبدعون في تكثير المصطلحات مبتغين الدقة والتفريق بين المعاني يراوغون كثيرا عندما يقعون تحت وهج مصابيح وسائل الإعلام الحديثة وسهولة الحصول على الألقاب الجميلة( باحث، مفكر، مختص بالشؤون... )، يراوغون، ويبدعون، ويبتدعون مصطلحات يرهنون حياتهم لها ثم ينقلبون عليها، بل وينتقمون منها شر انتقام، ووقفة سريعة لرصد بعض مفكري الفضائيات لتعرف؛ أين كانوا؟ وإلى أين انتقلوا؟ من اليسار إلى اليمين – آسف هذا سابقا – أما الآن من محطة فضائية إلى أخرى، ومن مايك إلى آخر وصعب علينا – نحن العامة – فهم الحال، وحرُمَ السؤال، وخفي المقال. وكفى بـ ( المترجم الخائن ) و ( تغريدة البجعة ) شاهدا.
كان المثقفون يمارسون دورا مستقلا ودافعا في الحياة، ولا يمكن تجاوز دورهم في مناهضة الاستعمار وإخراجه من الدول العربية، وبناء الدولة الحديثة ليرقوا بشعوبهم، فكان مصيرهم الوقوع في صراع مع السياسي لاختلاف الرؤى والوسائل وأخيرا الغايات، فقد رحبت الدولة بالمثقف بعضا من الوقت وسرعان ما تحولوا في نظر الدولة الحديثة - التي يقوم عليها السياسي - من مناوئي الاستعمار إلى عملاء الاستعمار.
هؤلاء المثقفون بادلوا الأنظمة السياسية السباب فوصفوهم بأذناب الاستعمار وأنهم دليل على خروجه من الباب ودخوله من الشباك، وتحوله إلى الإمبريالية العالمية وعملائها، فصبت جهودهم وإعمال أفكارهم نحو صراع داخلي طويل يكون على حساب القضية الإستراتيجية ( القضية الفلسطينية ) وسيؤول إلى توافق، وتبادل تجارب، سنوضحها بعد قليل تحت شعار ( بدنا نعيش ).
وأما من تحالف مع الدولة الحديثة فقد انبرى في صراع تحت شعار ( التقدمية والرجعية )، بين التيارات الفكرية الحديثة والتيارات الدينية، أحالت الصراع بمجمله من تشابك بين الداخل والخارج إلى الداخل، اعتقادا من التيار الديني بحركاته أن الإيمان بالفكرة وحدها سيوصل الأمة إلى رغد العيش والعزة والكرامة؛ إلا أنها ستراجع نفسها لتكتشف أنها تبحث عن مثالية الفكرة دون اتساقها مع الزمان والمكان، وأنها تبحث عن الأحكام الشرعية الأولية دون الثانوية مع تقدم الأخيرة على الأولى لاضطرار الأمة بأزماتها. ودون اهتمام بفقه مقاصد الشريعة.
وما إن تصل إلى بصيص أمل حتى يكون شعارها تصفية حساباتها الداخلية مع التيارات الأخرى بعنوان العدو الداخلي قبل العدو الخارجي والأمة حيرى ترى التقدم في غير المسلمين، تحاول معرفة الأسباب الموضوعية، فيركنها خطباؤها - الذين لا ينسون الإدغام بغنة وغير غنة – لقصص التاريخ ومثاليتها تتلذذ بها دون ممارسة العمل ووعي الآية الكريمة ( كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ).
تمضي الأيام فيحقق التيار الديني نجاحه بالثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني – رضوان الله تعالى عليه – ويعقد مؤتمر سري في إحدى الدول الأوربية بمرجعية إخوانية عن سر نجاح هذه الثورة ضد أقوى نظام استبدادي في الشرق الأوسط ( شرطي المنطقة )، وتأتي التأييدات من كل مكان؛ وفجأة نرى هؤلاء المؤيدين يقودون معركة طائفية، يكون التلاعب فيها بحسب المتلقي ( الخطر الفارسي – حماية البوابة الشرقية- المجوس )، ونسوا دور مصر في بداية الثورة حيث التعاون المتبادل بين الحركات الثورية أيام الزعيم جمال عبد الناصر، ونحن العامة علينا أن نسير واثقي الخطى ونبدل وجهات نظرنا بين عشية ضحاها وأن ننقلب من مؤيدين إلى معارضين.
وكانت النتيجة هي عشقنا للقائد المهيب الركن صدام حسين حامي البوابة الشرقية، وتصدى المثقفين لبناء هذه الزعامة، وخطورة سقوط البوابة الشرقية للحصن، ولو سقطت – لا سمح الله – فإن العرب لن تقوم لهم قائمة لأن البوابة الغربية مأمونة الجانب، وصارت المطابع تبيض كتبا، وفكرا يدعم تمثالا ينصب وسط بغداد، والأموال تغدق عليه من كل مكان، والشعب العراقي ( قاتله الله لا يعي حقيقة المعركة، فكلهم عملاء ما عدا حزب البعث ) ووضع الملايين في السجون، وهرب أمثالهم خارج حدود العراق من المعركة الحقيقية وهذا طبعهم ( من قبل ومن بعد )، ( قاتلهم الله أنى يؤفكون ).
فجأة أقفل المهيب الركن البوابة الشرقية بليل، مكتشفا خطأ قادسيته وأنها ليست معركته الحقيقية وإنما أم المعارك التي ستكون ضد الدول العظمى وهي ( أم ) فلا بد أن تكون بمستواها، وهكذا تصبح الكويت ميدان أم المهالك متنكرا لكل جميل، والمفكرون والمثقفون – حفظهم الله ورعاهم وسدد إلى كوبونات النفط خطاهم – أصبحوا في الثاني من آب 1990م يدافعون عن احتلال المهيب للكويت، والبقية منهم مترددة لا تدري أين ستكون الغلبة، وهم يريدون أن يكملوا صيفهم في لندن وباريس، والأقرب أنها ستكون من نفط الكويت الذي سيوزع على الشعوب العربية، وكأنه لا تأتي هذه الفكرة إلا على كاهل نفط الكويت لا نفط العراق الرخيص.
ولأن الطُعم كان شهيا فقد انقسم النظام العربي وفق صراع داخلي، أسال لعاب جميع الطبقات ذوي الأقلام من الطرفين وحمدنا ربنا أنه لم ينتحر أحد من المثقفين، كما حدث أثناء اجتياح إسرائيل للبنان ( 82م ) رغم أن الأول غير متوقع وطعنة في الظهر، والثاني متوقع وطعنة في الوجه؛ الأول أخ، والثاني عدو وشتان بين الاثنين؛ ولكن ماذا لو كانت القنوات الفضائية العربية موجودة في ذلك الوقت؟ كيف سيكون وضعنا؟
ومن ابتعد عن السياسة من المثقفين والمفكرين من كل التيارات، ناوبهم رجال دين لم يعدموا الحيلة عن ولادة صراع تحت شعار ( حماية المقدسات ) أو ( كبح التطاول على المقدسات ) فشُغِلَ العامة بمظاهرات تحت هذين الشعارين، وتحت شعار حماية الأدب من قلة الأدب، وتركوا مؤرخين، وعلماء دين من السلف الصالح من جميع المذاهب ألفوا كتبا فيها مما هو أعظم .. كفانا الله شرور أنفسنا.
ثم رأينا مؤسسات فكرية ومراكز أبحاث يبزغ نورها معتمدة المال، تدفع مبالغ تغري المثقفين، وتعيد لهم اعتبارهم بسفرهم السنوي إلى مصايف أوربا، ليتمكنوا من إعمال عقولهم، ويكونوا السياج الحامي لذوي مؤسساتهم تحت شعار ( بدنا نعيش ) بعد أن تعبوا من المعركة القومية سنين طويلة يحملون قلم القضية المصيرية، وآن لهم أن يتقاعسوا.. – آسف زلة لسان – أن يتقاعدوا ويتركوا الراية فقد نقلت على الزنود لتحتضن الـ...، وتلعن الساعة التي أبعدت عنهم الرأي الآخر، والمسامحة، والمصافحة، والمقابلة، والمواددة، والمناصرة، والمباوسة .. استغفر الله.
بدأ الأقلام يندبون حظهم العاثر على ضياع وقتهم وسباق زملائهم نحو الملكيات، والكوبونات، والهدايا، والعطايا؛ وراحوا يتعلمون التغزل بذوي المال، حتى لو أدى إلى الانبطاح – كما يقولون سابقا – والانصياع، بل والتآمر على رفقاء الدرب بكشف ما كان مخفيا، والانتقال من تلميع الفكر إلى تقديس ذوي مؤسسات الفكر.
القضية الكبرى التي شغلت العرب شعوبا وأحزابا ومفكرين ومثقفين هي قضية فلسطين، كنا ندفع الغالي والنفيس أرواح وأموال ( ريال فلسطين ) كي يتحول إلى رصاصة تقتل العدو، ندفعه ونحن في المدرسة ( المرحلة الابتدائية ) ثم صرنا ندفعه ليتحول إلى وسادة يتيم، وأم يمكنها توفير الحليب لرضيعها. وأخيرا عزت النفوس قبل الأيدي لنصدر الفتاوى، وولى زمان تمجيد العمليات الفدائية، والاستشهادية مؤدين للأقلام ( المأجورة ) التي علمتنا مثل هذه الأفكار فائق الاحترام والإجلال، ثم كبرنا ونضجنا ووعينا، فأفتينا بحرمة العمليات الاستشهادية في الكيان الغاصب.. – اللعنة على هذا اللسان يبدو أنه لم ينضج بعد – في دولة إسرائيل لأنها تشوه النضال الفلسطيني، والإسرائيليون صورتهم تلمح أكثر برش وجوههم بدماء الأطفال، وعندما يزيلون كل قذى طفل من أعينهم، وتنوح وتعول الأم ( فلسطين ) على أولادها باكية، نادبة، صراعهم على إرث، ولما يدفن الشهيد. وصارت فلسطين تحتضر عطشى ولا يمكن لأي يد أن تسقيها لتنقذها إذ ستقطع لأنها يد إرهابية.
وبعد أن نُسِيَ المهيب الركن فجأة يتذكرونه عندما تأتي الأساطيل الحربية، ويتنادبون عليه لا على العراق الجريح الذي دفع من الضحايا الملايين بحصار ظالم يستهدف الشعب، حتى يبلغ به الدعاء بإرسال المنقذ والمخلص، وحين قيل إذا كان صدام خائفا على العراق فلينقذ العراق بتنحيه، ولكن المصطلحات على أتم الجهوزية لكيلها على صاحب الرأي.
ثم هبت قنوات فضائية تتنافس على كلمات وإشارات المهيب الركن، وينصب العزاء في 9-4-2003م، ويكفيك تذكر صورة المحلل الاستراتيجي جعفر قاسم في ذات اليوم بعد سقوط الصنم، كيف اعتصر رأسه متوقفا عن التعليق وما زال، وكأننا مازلنا عباد أصنام. أما من يقتل الشعب الجريح فلا يهم بل اللعنة على هذا الشعب.
حينها انقلب الأعداء بالأمس إلى أصدقاء اليوم، البعثيون الذين حُكِمَ بكفرهم في الكتب التي صدرت عشية احتلال الكويت تحمل فتاوى علماء المسلمين بكفر صدام وحزبه ومعاداته للحركات الإسلامية، انقلب الحال إلى مودة وإخاء وإبطال إعمال مبدأ التولي والتبري تجاههم وتكثيف الجهود ضد ( أذناب الاحتلال ) بداية، و ( أبناء العلقمي ) آخرا، و ( أحفاد الصفويين ) أخيرا؛ أما الاحتلال فعليه ألا يدفع الضريبة، ويكفيك مقارنة أرقام القتلى من الشعب العراقي، والمحتل الأميركي.
ونرى مثقفا نال درجة الدكتوراة في ( دور الشيعة في تأسيس العراق الحديث ) ينقلب على ما سطرته يده، بل ويقلب الحقائق، هذا المفكر والباحث – ربما – ينطبق عليه ما قاله ساطع الحصري وهو أخبر به. ففي رسالته ذكر القبائل والعشائر التي تعاونت مع الاحتلال البريطاني في بداية القرن الماضي، لكنه ينساهم الآن ولا يذكر العلة بوقوفهم مع المحتل البريطاني ووقوقهم ضد المحتل الأميركي، ويغفل الظلم الذي ألحق بالشيعة بتخطيط مسز بل وأوصل الوضع لما لم وصل إليه. ولم يحاول أحد من عقلاء الحكومات العراقية المتعاقبة أن توازن الأمور، وكما عبر السيد هاني فحص في إحدى مقالاته في صحيفة الحياة أننا متورطون على كل حال، فعندما ننطوي تحت القومية نتهم بالشعوبية، وعندما يثور النجف الأشرف إثر الاعتداء الثلاثي على مصر فلا عين ترى، ولا أذن تسمع؛ وعندما نساهم في ثورة العشرين نستغفل، وعندما نسطر ونشارك في ثورة 14 تموز 1958م يسحب البساط منا؛ ماذا سنفعل؟!! ( بتصرف ).
حينها لا بد من تحول المعركة من مجابهة الاحتلال الأميركي، إلى طائفية مقيتة تستهزئ بانتصار حزب الله عام 2006م، وتغيير المعادلة الإعلامية عبر أقلام كانت في يوم من الأيام تحارب إسرائيل وكأن الموازين غير الموازين.
بالأمس القريب كان دورنا العربي يساهم في انقلاب مصدق في إيران ولا نعتبر ذلك تدخلا بل مساندة لحق الشعوب التي تقبع تحت نير الطغيان في تقرير مصيرها، واليوم.. ترى ما الذي حصل؟!!أمأمأأمهيناي
الآن صرنا نترقب الوضع في لبنان أكثر من القضية الفلسطينية.. أليس من حقنا.. أن نلعن الأقلام المأجورة التي غذت عقولنا بالوقوف ضد إسرائيل والاهتمام بقضية مصيرية أضاعها أصحابها؛ فما بالنا نهتم بها.
أيها المثقفون.. أيها المفكرون.. أيها الباحثون.. يا أصحاب مراكز الأبحاث التي تعمل بجميع العملات
أما آن لكم أن تتقوا الله في شعوبكم...
أم ما زال في المسلسل بقية..
التعليقات (0)