المتنبي في الحياة اللندنية: محكمة أدبية.. أم زوبعة صحفية؟ ( 1 - 2) |
بقلم: حسن توفيق...
في عددها الصادر يوم الجمعة 25 مايو- آيار 2007 أعلنت جريدة الحياة اللندنية عن انعقاد محكمة أدبية علي صفحاتها اعتباراً من اليوم التالي، حيث ينبري ثلاثون شاعراً عربياً لمحاكمة العربي العبقري أبي الطيب المتنبي.. وبالفعل فقد توالت حلقات هذه المحكمة وامتدت إلي يوم الأربعاء 30 مايو 2007 قال خلالها الشعراء الثلاثون- ومن بينهم بل كان أولهم عبده وازن المشرف علي صفحات الحياة الثقافية- ما قالوه عن الشاعر الذي تعرض لهجمات وحملات عنيفة طالت شعره وسلوكه خلال حياته، وبعد رحيله عن عالمنا علي حد سواء. وقبل أن نعود إلي جلسات هذه المحكمة التي انعقدت علي امتداد خمسة أيام متتالية، علينا أولاً أن نتساءل عن الجديد الذي قاله الشعراء الثلاثون، سواء أكانوا مع المتنبي أو كانوا ممن يجاهرون بعدائهم له.. أهناك حقاً جديد قدمته محكمة الحياة؟ وللاجابة علي هذا السؤال فإننا نتذكر محاكمات أخري عديدة، عقدت علي امتداد سنة 1996 أي منذ إحدي عشرة سنة، وقد نظمت هذه المحاكمات قناة أوربت العربية الفضائية، ومن بين الذين تعرضوا للمحاكمة شاعرنا العبقري المتنبي من القدامي وشاعرنا العبقري أحمد شوقي من المحدثين الذين أعادوا للشعر العربي بهاءه ورونقه بعد قرون كاملة من الجمود والخمود. المحاكمة الجديدة للمتنبي اتخذت شكل آراء ووجهات نظر يقدمها أصحابها ممن استكتبتهم الحياة علي صفحاتها، أما محاكمات أوربت للمتنبي وآخرين سواه فإنها كانت تتخذ شكلاً تمثيلياً، فهناك منصة يراها مشاهدو تلك القناة علي الشاشة، حيث يجلس القاضي الأساسي وعن يمينه قاضي الميمنة وعن يساره يجلس قاضي الميسرة، وهناك ممثل للادعاء وآخر للدفاع، فضلاً عن عدد من الطلبة والطالبات الذين يجلسون أمام المنصة، باعتبارهم شهود نفي أو إثبات، مع المتهمين الذين تتم محاكمتهم أو ضدهم، وإذا توقفنا هنا عند محاكمة المتنبي في قناة أوربت ومحاكمته عبر جريدة الحياة فإننا نجد الأخيرة تقلد الأولي، وبالتالي فليس هناك حقاً جديد يقال. وفيما يتعلق بالذين شكلوا المحاكمات التمثيلية التي قدمتها أوربت فإنهم جميعاً من اللبنانيين، بينما اكتفي اللبنانيون في الحياة باستكتاب الذين اختاروهم لإبداء آرائهم ووجهات نظرهم، وهم الثلاثون شاعراً عربياً، وكانت النسبة العالية منهم من شعراء لبنان. بالطبع فإني لن أجعل من نفسي قاضياً يقوم بمحاكمة المحكمة الأدبية التي عقدتها الحياة، ولكني أود توضيح الأمور فيما يتعلق بالشعراء الثلاثين الذين تم اختيارهم لكي يحاكموا المتنبي، وهم مختلفون ومتفاوتون، فمنهم من هم مشهورون بحق أو بغير حق، ومنهم من هم مغمورون في سياق الساحة الثقافية والأدبية العربية، وحين أعود إلي هؤلاء جميعاً من مشهورين ومن مغمورين، فإن رصدهم من خلال جوازات سفرهم أو من خلال الأرض - الدولة التي ينتمون اليها، ومن خلال تعريف الحياة نفسها بكل منهم يشير إلي الآتي: 1 - من لبنان: ثمانية شعراء 2 - من سوريا: أربعة شعراء 3 - من العراق: أربعة شعراء 4 - من فلسطين: ثلاثة شعراء 5 - من مصر: ثلاثة شعراء 6 - من السعودية: شاعران 7 - من الامارات العربية: شاعر واحد 8 - من الكويت: شاعرة واحد. 9 - من الأردن: شاعر واحدة 10 - من سلطنة عمان: شاعر واحد 11 - من اليمن: شاعر واحد 12 - من المغرب: شاعر واحد هذا يعني أن الشعراء الذين اختارهم عبده وازن لكي يبدوا آراءهم ووجهات نظرهم في المتنبي، يأتي في المقدمة والصدارة منهم شعراء لبنان، بينما لم يظفر العراق - وهو بلد المتنبي الذي عاش، ثم اغتيل علي أرضه - سوي باربعة مقاعد، ومع هذا فان العراق يعد محظوظا قياسا الي الدول العربية التي يبدو وكأن ليس فيها شعراء عرب مشهورون ومغمورون علي حد سواء، ووفقا لهذا فان الدول التي ليس فيها شعراء هي تسع دول عربية، علي النحو التالي: ليبيا- تونس- الجزائر -موريتانيا (التي يقال عنها انها بلد المليون شاعر!) - السودان- البحرين- قطر- الصومال- جيبوتي. لكل انسان حقه في ان يختار مايشاء ومن يشاء، ولكن من حق كل الذين يتابعون الاختيار ان يروا فيه ما يرون، فهو إما اختيار موضوعي أو أقرب إلي الموضوعية، وإما أنه اختيار عنصري لسبب او لأسباب متنوعة، وإما أنه اختيار عشوائي، وفي كل هذه الحالات لابد أن نتذكر العبارة المأثورة اختيار المرء جزء من عقله وقلبه..) ومن خلال ما تابعناه علي امتداد خمسة أيام، يمكننا ان نتساءل عما اذا كا ما قدمته الحياة اللندنية.. محكمة أدبية كما تقول، أم مجرد زوبعة صحفية كما يقول آخرون؟!. منذ أن ذاع صيت المتنبي خلال حياته العاصفة القصيرة، كان له معجبون يدافعون عنه ويناصرونه، كما كان له أعداء وخصوم يهاجمونه دون هوادة، ومن بين الأعداء والخصوم كان هناك شعراء عرب كثيرون، ممن حسدوا المتنبي أو حقدوا عليه فدبروا له المكائد، محاولين أن يوقعوه في شراكها ولم يكن الشاعر العربي العبقري غافلاً عنهم، بل كان يرقب حسدهم وحقدهم ومكائدهم، ثم يتحداهم أن يبدعوا خيراً من إبداعه، أو ان يثمر الحسد والحقد والمكائد ما يتمناه هؤلاء وهنا أعود إليه.. أعود إلي العبقري.. فقد قال يمدح بدر بن عمار وقد سار إلي الساحل، ثم عاد إلي طبرية، وكأن أبوالطيب قد تخلف عنه، فقال يعتذر اليه: الحب ما منع الكلام الألسنا والذ شكوي عاشقٍ ما أعلنا وحين نتابع ما قاله المتنبي عبر أبيات هذه القصيدة، نعرف أن الأعداء والخصوم والشعراء الحاسدين والحاقدين ومدبري المكائد كانوا يحاولون إيقاعه في أحد شراكهم، وأنه يرد عليهم رداً حاسماً عنيفاً، يزلزل أرواحهم وأعصابهم، وها هو يوجه خطابه لمن يسعي هؤلاء للإيقاع بينه وبين المتنبي، مطالباً إياه بأن ينهاهم عما يرتكبون من الضلال: وانهَ المشيَر عليك فيَّ بضلةٍ فالحر ممتحنٌ بأولاد الزنَا وإذا الفتي طرح الكلام مُعرِّضاً في مجلسٍ أخذَ الكلامَ اللذعنَا ومكايدُ السفهاء واقعةٌ بهم وعداوةُ الشعراء بئسَ المقتني هذا الذي قاله المتنبي في زمانه، يذكرني بما قاله الشاعر العظيم محمود درويش في زماننا وزمانه، حيث قال في حوار مطول أجراه معه في الرباط الدكتور حسن نجمي إنه يتعرض فعلا لحملة قاسية جدا من أغلبية الشعراء الفلسطينيين.. .. لا أشعر أن لديَّ مشكلة مع الشعراء العرب، ولكنني أتعرض دائماً للتشهير والتكفير والتخوين من أغلب شعرائنا الفلسطينيين، وأدعي أنني لم أقرأ ولم أسمع.. . ربما يكون الفارق هنا بين المتنبي ومحمود درويش أن الأول أعلن أنه سمع ما قيل ضده، ولم يسكت عن القائلين من حاسدين وحاقدين، أما الثاني فإنه يدعي - ترفعا وكبرياء - أنه لم يقرأ ولم يسمع ما يقال ضده! ولو أننا عدنا إلي ما قبل محمود درويش، فإننا نجد أن أحمد شوقي العبقري قد تعرض كذلك لحملة شرسة ضده، عندما قام عباس محمود العقاد بالاشتراك مع إبراهيم عبدالقادر المازني باصدار كتاب الديوان في الأدب والنقد وتفرد العقاد في هذا الكتاب بالتهجم القاسي والعنيف علي أمير الشعراء قبل أن تنعقد إمارة الشعر العربي له سنة 1927، أي بعد ست سنوات من صدور الديوان في الأدب والنقد سنة 1921، ووقتها كان العقاد شابا ثائرا، يريد ان يلفت الأنظار إليه بقوة، فما كان منه إلا أن فعل ما فعل وتهجم علي شوقي، وهو ما تراجع عنه فيما بعد. ذكرتني حملات الحاسدين والحاقدين ضد المتنبي بحملات أخري عديدة علي امتداد الأزمنة والأمكنة، وقد استشهدت بمثالين منها، هما ما جري لأحمد شوقي، وما جري ويجري لمحمود درويش. وحين أعود إلي المتنبي علي ضوء ما قالت الحياة اللندنية إنه محكمة أدبية، فلابد أن أتساءل من جديد: ما الجديد فيما قيل؟.. لو أننا عدنا إلي كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي علي بن عبدالعزيز الجرجاني، فإننا نستطيع أن نقرأ - ولو بسرعة - سطورا من مقدمة هذا الكتاب التراثي النقدي المهم، يقول فيها القاضي الجرجاني: .. ومازلت أري أهل الأدب - منذ الحقتني الرغبة بجملتهم، ووصلت العناية بيني وبينهم - في أبي الطيب أحمد بن الحسين المتنبي فئتين: من مطنب في تقريظه، منقطع إليه بجملته.. يلتقي مناقبه إذا ذكرتْ بالتعظيم، ويشيع محاسنه إذا حُكيتْ بالتفخيم.. وعائب يروم إزالته عن رتبته، فلم يسلم له فضله، ويحاول حطه عن منزلة بوأه إياها أدبه، فهو يجتهد في إخفاء فضائله، وإظهار معايبه، وتتبع سقطاته.. . ما قاله القاضي الجرجاني هو بالضبط ما يمكن ان يفسر اختلاف الآراء وتضارب وجهات النظر حول المتنبي علي امتداد الأزمنة والأمكنة العربية، ومن بين ما جري ما تابعناه علي صفحات جريدة الحياة اللندنية، وهذا ما لن أعود إليه وحده، فهناك قبل هؤلاء الشعراء الثلاثين شعراء وكتاب مرموقون وكبار، تفاوتت آراؤهم واختلفت، من بينهم محمد مهدي الجواهري وعمر أبوريشة وعلي أحمد باكثير، وعن هؤلاء ومن جاءوا بعدهم ممن استكتبتهم الحياة سأتوقف في حلقة مقبلة. magnoonalarab@yahoo.com
الراية 4-6-2007
|
المتنبي يؤكد لوسائل الإعلام: ما زلت حياً منذ أكثر من ألف عام(2-2) |
التعليقات (0)