مواضيع اليوم

المتنبي في الحياة اللندنية: محكمة أدبية.. أم زوبعة صحفية؟

حسن توفيق

2009-03-02 23:50:09

0

 

المتنبي في الحياة اللندنية: محكمة أدبية.. أم زوبعة صحفية؟ ( 1 -  2)


بقلم: حسن توفيق...

في عددها الصادر يوم الجمعة 25 مايو- آيار 2007 أعلنت جريدة الحياة اللندنية عن انعقاد محكمة أدبية علي صفحاتها اعتباراً من اليوم التالي، حيث ينبري ثلاثون شاعراً عربياً لمحاكمة العربي العبقري أبي الطيب المتنبي.. وبالفعل فقد توالت حلقات هذه المحكمة وامتدت إلي يوم الأربعاء 30 مايو 2007 قال خلالها الشعراء الثلاثون- ومن بينهم بل كان أولهم عبده وازن المشرف علي صفحات الحياة الثقافية- ما قالوه عن الشاعر الذي تعرض لهجمات وحملات عنيفة طالت شعره وسلوكه خلال حياته، وبعد رحيله عن عالمنا علي حد سواء.
وقبل أن نعود إلي جلسات هذه المحكمة التي انعقدت علي امتداد خمسة أيام متتالية، علينا أولاً أن نتساءل عن الجديد الذي قاله الشعراء الثلاثون، سواء أكانوا مع المتنبي أو كانوا ممن يجاهرون بعدائهم له.. أهناك حقاً جديد قدمته محكمة الحياة؟ وللاجابة علي هذا السؤال فإننا نتذكر محاكمات أخري عديدة، عقدت علي امتداد سنة 1996 أي منذ إحدي عشرة سنة، وقد نظمت هذه المحاكمات قناة أوربت العربية الفضائية، ومن بين الذين تعرضوا للمحاكمة شاعرنا العبقري المتنبي من القدامي وشاعرنا العبقري أحمد شوقي من المحدثين الذين أعادوا للشعر العربي بهاءه ورونقه بعد قرون كاملة من الجمود والخمود.
المحاكمة الجديدة للمتنبي اتخذت شكل آراء ووجهات نظر يقدمها أصحابها ممن استكتبتهم الحياة علي صفحاتها، أما محاكمات أوربت للمتنبي وآخرين سواه فإنها كانت تتخذ شكلاً تمثيلياً، فهناك منصة يراها مشاهدو تلك القناة علي الشاشة، حيث يجلس القاضي الأساسي وعن يمينه قاضي الميمنة وعن يساره يجلس قاضي الميسرة، وهناك ممثل للادعاء وآخر للدفاع، فضلاً عن عدد من الطلبة والطالبات الذين يجلسون أمام المنصة، باعتبارهم شهود نفي أو إثبات، مع المتهمين الذين تتم محاكمتهم أو ضدهم، وإذا توقفنا هنا عند محاكمة المتنبي في قناة أوربت ومحاكمته عبر جريدة الحياة فإننا نجد الأخيرة تقلد الأولي، وبالتالي فليس هناك حقاً جديد يقال.
وفيما يتعلق بالذين شكلوا المحاكمات التمثيلية التي قدمتها أوربت فإنهم جميعاً من اللبنانيين، بينما اكتفي اللبنانيون في الحياة باستكتاب الذين اختاروهم لإبداء آرائهم ووجهات نظرهم، وهم الثلاثون شاعراً عربياً، وكانت النسبة العالية منهم من شعراء لبنان.
بالطبع فإني لن أجعل من نفسي قاضياً يقوم بمحاكمة المحكمة الأدبية التي عقدتها الحياة، ولكني أود توضيح الأمور فيما يتعلق بالشعراء الثلاثين الذين تم اختيارهم لكي يحاكموا المتنبي، وهم مختلفون ومتفاوتون، فمنهم من هم مشهورون بحق أو بغير حق، ومنهم من هم مغمورون في سياق الساحة الثقافية والأدبية العربية، وحين أعود إلي هؤلاء جميعاً من مشهورين ومن مغمورين، فإن رصدهم من خلال جوازات سفرهم أو من خلال
الأرض - الدولة التي ينتمون اليها، ومن خلال تعريف الحياة نفسها بكل منهم يشير إلي الآتي:
1 - من لبنان: ثمانية شعراء
2 - من سوريا: أربعة شعراء
3 - من العراق: أربعة شعراء
4 - من فلسطين: ثلاثة شعراء
5 - من مصر: ثلاثة شعراء
6 - من السعودية: شاعران
7 - من الامارات العربية: شاعر واحد
8 - من الكويت: شاعرة واحد.
9 - من الأردن: شاعر واحدة
10 - من سلطنة عمان: شاعر واحد
11 - من اليمن: شاعر واحد
12 - من المغرب: شاعر واحد
هذا يعني أن الشعراء الذين اختارهم عبده وازن لكي يبدوا آراءهم ووجهات نظرهم في المتنبي، يأتي في المقدمة والصدارة منهم شعراء لبنان، بينما لم يظفر العراق - وهو بلد المتنبي الذي عاش، ثم اغتيل علي أرضه - سوي باربعة مقاعد، ومع هذا فان العراق يعد محظوظا قياسا الي الدول العربية التي يبدو وكأن ليس فيها شعراء عرب مشهورون ومغمورون علي حد سواء، ووفقا لهذا فان الدول التي ليس فيها شعراء هي تسع دول عربية، علي النحو التالي: ليبيا- تونس- الجزائر -موريتانيا (التي يقال عنها انها بلد المليون شاعر!) - السودان- البحرين- قطر- الصومال- جيبوتي.
لكل انسان حقه في ان يختار مايشاء ومن يشاء، ولكن من حق كل الذين يتابعون الاختيار ان يروا فيه ما يرون، فهو إما اختيار موضوعي أو أقرب إلي الموضوعية، وإما أنه اختيار عنصري لسبب او لأسباب متنوعة، وإما أنه اختيار عشوائي، وفي كل هذه الحالات لابد أن نتذكر العبارة المأثورة اختيار المرء جزء من عقله وقلبه..) ومن خلال ما تابعناه علي امتداد خمسة أيام، يمكننا ان نتساءل عما اذا كا ما قدمته الحياة اللندنية.. محكمة أدبية كما تقول، أم مجرد زوبعة صحفية كما يقول آخرون؟!.
منذ أن ذاع صيت المتنبي خلال حياته العاصفة القصيرة، كان له معجبون يدافعون عنه ويناصرونه، كما كان له أعداء وخصوم يهاجمونه دون هوادة، ومن بين الأعداء والخصوم كان هناك شعراء عرب كثيرون، ممن حسدوا المتنبي أو حقدوا عليه فدبروا له المكائد، محاولين أن يوقعوه في شراكها ولم يكن الشاعر العربي العبقري غافلاً عنهم، بل كان يرقب حسدهم وحقدهم ومكائدهم، ثم يتحداهم أن يبدعوا خيراً من إبداعه، أو ان يثمر الحسد والحقد والمكائد ما يتمناه هؤلاء وهنا أعود إليه.. أعود إلي العبقري.. فقد قال يمدح بدر بن عمار وقد سار إلي الساحل، ثم عاد إلي طبرية، وكأن أبوالطيب قد تخلف عنه، فقال يعتذر اليه:
الحب ما منع الكلام الألسنا
والذ شكوي عاشقٍ ما أعلنا
وحين نتابع ما قاله المتنبي عبر أبيات هذه القصيدة، نعرف أن الأعداء والخصوم والشعراء الحاسدين
والحاقدين ومدبري المكائد كانوا يحاولون إيقاعه في أحد شراكهم، وأنه يرد عليهم رداً حاسماً عنيفاً، يزلزل أرواحهم وأعصابهم، وها هو يوجه خطابه لمن يسعي هؤلاء للإيقاع بينه وبين المتنبي، مطالباً إياه بأن ينهاهم عما يرتكبون من الضلال:
وانهَ المشيَر عليك فيَّ بضلةٍ
فالحر ممتحنٌ بأولاد الزنَا
وإذا الفتي طرح الكلام مُعرِّضاً
في مجلسٍ أخذَ الكلامَ اللذعنَا
ومكايدُ السفهاء واقعةٌ بهم
وعداوةُ الشعراء بئسَ المقتني
هذا الذي قاله المتنبي في زمانه، يذكرني بما قاله الشاعر العظيم محمود درويش في زماننا وزمانه، حيث قال في حوار مطول أجراه معه في الرباط الدكتور حسن نجمي إنه يتعرض فعلا لحملة قاسية جدا من أغلبية الشعراء الفلسطينيين.. .. لا أشعر أن لديَّ مشكلة مع الشعراء العرب، ولكنني أتعرض دائماً للتشهير والتكفير والتخوين من أغلب شعرائنا الفلسطينيين، وأدعي أنني لم أقرأ ولم أسمع.. . ربما يكون الفارق هنا بين المتنبي ومحمود درويش أن الأول أعلن أنه سمع ما قيل ضده، ولم يسكت عن القائلين من حاسدين وحاقدين، أما الثاني فإنه يدعي - ترفعا وكبرياء - أنه لم يقرأ ولم يسمع ما يقال ضده!
ولو أننا عدنا إلي ما قبل محمود درويش، فإننا نجد أن أحمد شوقي العبقري قد تعرض كذلك لحملة شرسة ضده، عندما قام عباس محمود العقاد بالاشتراك مع إبراهيم عبدالقادر المازني باصدار كتاب الديوان في الأدب والنقد وتفرد العقاد في هذا الكتاب بالتهجم القاسي والعنيف علي أمير الشعراء قبل أن تنعقد إمارة الشعر العربي له سنة 1927، أي بعد ست سنوات من صدور الديوان في الأدب والنقد سنة 1921، ووقتها كان العقاد شابا ثائرا، يريد ان يلفت الأنظار إليه بقوة، فما كان منه إلا أن فعل ما فعل وتهجم علي شوقي، وهو ما تراجع عنه فيما بعد.
ذكرتني حملات الحاسدين والحاقدين ضد المتنبي بحملات أخري عديدة علي امتداد الأزمنة والأمكنة، وقد استشهدت بمثالين منها، هما ما جري لأحمد شوقي، وما جري ويجري لمحمود درويش.
وحين أعود إلي المتنبي علي ضوء ما قالت الحياة اللندنية إنه محكمة أدبية، فلابد أن أتساءل من جديد: ما الجديد فيما قيل؟.. لو أننا عدنا إلي كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي علي بن عبدالعزيز الجرجاني، فإننا نستطيع أن نقرأ - ولو بسرعة - سطورا من مقدمة هذا الكتاب التراثي النقدي المهم، يقول فيها القاضي الجرجاني: .. ومازلت أري أهل الأدب - منذ الحقتني الرغبة بجملتهم، ووصلت العناية بيني وبينهم - في أبي الطيب أحمد بن الحسين المتنبي فئتين: من مطنب في تقريظه، منقطع إليه بجملته.. يلتقي مناقبه إذا ذكرتْ بالتعظيم، ويشيع محاسنه إذا حُكيتْ بالتفخيم.. وعائب يروم إزالته عن رتبته، فلم يسلم له فضله، ويحاول حطه عن منزلة بوأه إياها أدبه، فهو يجتهد في إخفاء فضائله، وإظهار معايبه، وتتبع سقطاته.. .
ما قاله القاضي الجرجاني هو بالضبط ما يمكن ان يفسر اختلاف الآراء وتضارب وجهات النظر حول المتنبي علي امتداد الأزمنة والأمكنة العربية، ومن بين ما جري ما تابعناه علي صفحات جريدة الحياة اللندنية، وهذا ما لن أعود إليه وحده، فهناك قبل هؤلاء الشعراء الثلاثين شعراء وكتاب مرموقون وكبار، تفاوتت آراؤهم واختلفت، من بينهم محمد مهدي الجواهري وعمر أبوريشة وعلي أحمد باكثير، وعن هؤلاء ومن جاءوا بعدهم ممن استكتبتهم الحياة سأتوقف في حلقة مقبلة.
magnoonalarab@yahoo.com

الراية 4-6-2007

 

المتنبي يؤكد لوسائل الإعلام: ما زلت حياً منذ أكثر من ألف عام(2-2)

كم تطلبون لنا عيباً فيعجزكم ويكره الله ما تأتون والكرم


بقلم: حسن توفيق

أحياناً أتخيله في إحدي الساحات العربية العامة.. يتحلق حوله صحفيون ومذيعون، وقد اندس بينهم مخبرون سريون وحاسدون وحاقدون.. كل واحد من هؤلاء يتهيب أن يبادره بسؤال أو أن ينطق في حضرته كلمة.. الذين يحملون أجهزة تسجيل ومايكروفات يقفون بعيدا.. إنهم يدركون ان حرارة صوت هذا الذي يقف أمامهم شامخا قد تخلخل هذه الأجهزة وتزلزل أقوي مايكروفون!.. انهم يعرفون أنهم أمام العبقري العربي أبي الطيب المتنبي.. من فرط التهيب، يتصورون أن قد طال بهم الترقب.. ما بين غمضة عين وانتباهتها يأتيهم الصوت الذي يترقبون سماعه.. يأتي صوته حاسما كالسيف، مهيبا كالنسر.. ماذا تترقبون؟ ماذا تريدون أن أقول؟.. هذا أنا أقف أمامكم.. أمام ما تسمونه وسائل الإعلام.. وها أنذا أؤكد للحاضرين وللغائبين أني ما زلت حيا منذ أكثر من ألف عام.
يتجرأ أحد الواقفين بسؤال.. يتلعثم قليلا ثم يستجمع شجاعته الهاربة.. يقول: ألا تضايقك الحملات العنيفة التي تتعرض لها من جانب أعدائك وخصومك منذ أن طبقت شهرتك الآفاق؟
كالسيف الذي في حده الحد بين الجد واللعب يأتيه الرد: أين هم الأعداء والخصوم الذين تتحدث عنهم؟.. إنهم مجرد فقاقيع، للحظات تظهر، وفي لحظات تتلاشي..
وما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلتُ شعراً أصبح الدهر منشداً
فسار به من لا يسير مشمراً
وغني به من لا يغنِّي مغرداً
تتلاحق الأسئلة.. أسئلة المحبين المتذوقين تبدو واثقة من شمس العبقرية الساطعة في كل زمان.. أسئلة الحاسدين تتعلثم.. أسئلة المتاجرين بالزوابع الصحفية تتجمد.. كالفقاقيع تتلاشي.. يمتطي المتنبي حصانه العربي الأصيل.. يحيي من يحبونه ولا يستثني من يحسدونه.. يغادر الساحة العربية العامة.. في الأرجاء تتردد أصداء قادمة من زمان بعيد:
ان كان سركمو ما قال حاسدنا
فما لجرح إذا أرضاكمو ألمُ
كم تطلبون لنا عيباً فيعجزكم
ويكره الله ما تأتون والكرمُ
مما تخيله القلب.. أعود الي الواقع.. الواقع يقول ان احدي الجرائد العربية قد حشدت ثلاثين شاعراً عربياً، لكي تحاكم المتنبي من خلالهم.. والواقع يدفعنا للتساؤل عما إذا كان هناك حقاً جديد قد قدمته الحياة اللندنية، خاصة وأن قناة أوربت قد سبقتها منذ إحدي عشرة سنة.. ومن المؤكد أو المرجح أن مثل هذا التساؤل قد انبثق عندما كان المشرف علي استكتاب الشعراء الثلاثين في الحياة - عبده وازن - يتهيأ لاعداد حلقات المحكمة الأدبية فهو يقول منذ البداية: ماذا تعني العودة الي المتنبي اليوم، بعد أكثر من عشرة قرون علي رحيله؟ بل ماذا يعني أن يعيد ثلاثون شاعرا
عربياً قراءة المتنبي وكأنهم يعيدون اكتشافه، محاكمين إياه من التهم التي كيلت له وما أكثرها؟ ويرسم عبده وازن ملامح ما قدمته حلقات المحكمة الأدبية قائلاً: ثلاثون شاعراً من العالم العربي، من مدارس وأجيال مختلفة، يتصدون لأسطورة المتنبي، يحاكمونه كل علي طريقته، يعلنون حبهم الخارق له أو يخفون شيئاً من الغيرة حياله أو يجاهرون بمآخذهم عليه... .
لن أعيد ما قلته بشأن حرية الاختيار، فمن بين الشعراء الثلاثين الذين اختارهم عبده وازن- اللبناني- ثمانية من شعراء لبنان، ومن بين الشعراء الثلاثين من توقفوا تماماً عن الابداع الشعري، ولكي يظلوا في الصورة أخذوا يثيرون زوابع صحفية بعيدة كل البعد عن القضايا الأدبية الجديرة بالاثارة أو المناقشة، ومن بين هؤلاء كذلك من كرروا تهماً عديدة ضد المتنبي رغم أنهم أنفسهم مهتمون بها، وعلي سبيل المثال، فإن الذين أشاروا إلي تكسب المتنبي هم أنفسهم يتكسبون ومازالوا يتكسبون، رغم الفارق الهائل بالطبع بين العبقري والشعراء الذين يتفاوتون في أحجامهم وأوزانهم وقيمة ما يكتبون.
لا يعرف الشوق إلا من يكابده .. وكذلك لا يعرف قيمة العباقرة إلا من كانوا كباراً من ناحية ومنصفين صادقين من ناحية ثانية.. للدلالة علي ما أقول يكفي أن نعود إلي شرح أبي العلاء المعري لديوان المتنبي، وإلي الشروح التي توالت من بعده.. حيث شرح الديوان كثيرون من الأعلام، من بينهم أبو الفتح عثمان بن جني وأبو البقاء العكبري والشيخ ناصيف اليازجي والعلامة عبدالرحمن البرقوقي. وإلي جانب شروح الديوان، هناك دراسات عديدة، قديمة وجديدة، من بينها- علي سبيل المثال- كتاب القاضي الجرجاني الوساطة بين المتنبي وخصومه وكتاب ابن سيده شرح مشكل أبيات المتنبي وهناك دراسة لطه حسين بعنوان مع المتنبي وأخري لمعروف الرصافي بعنوان نظرة إجمالية في حياة المتنبي وهناك دراسة لإبراهيم العريض بعنوان فن المتنبي بعد ألف عام ودراسة لعبدالوهاب عزام بعنوان ذكريات أبي الطيب بعد ألف عام إلي جانب الدراسة التي كتبها المستشرق ريجيس بلاشير بعنوان أبو الطيب المتنبي- دراسة في التاريخ الأدبي وقد كتب هذا المستشرق الكبير دراسته بروح العالم المتأني الذي لا يسعي بالطبع لإثارة زوبعة صحفية أو لشهرة وقتية، وفي الفصل الأول من القسم الثاني يدرس بلاشير كل ما كتب من نقد لشعر المتنبي، مقسماً إياه إلي نقد مناويء و نقد محابٍ و نقد محايد وينطلق إلي دراسة ما كتب عن الديوان في أوساط مصر والشام في العصر الوسيط، وما كتب عن المتنبي في المغرب العربي، وما كتب عنه في العالم العربي الحديث وما كتبه المستشرقون عن الشاعر العبقري.
إلي جانب الدراسات العديدة، فإن مجلات أدبية عربية أفردت أعداداً خاصة كاملة للاحتفاء بالمتنبي، من بينها- مثلاً- مجلة الهلال التي أصدرت عدداً خاصاً في الذكري الألفية للمتنبي وقد صدر هذا العدد في يوليو- تموز سنة 1935 وممن ساهموا في الكتابة فيه محمد حسين هيكل وعيسي اسكندر وعباس محمود العقاد وأحمد أمين وخليل مطران وعلي الجارم وشفيق جبري والأمير شكيب أرسلان وعبدالرحمن صدقي وعلي أدهم وسامي الكيالي، ومازلت أعود إلي هذا العدد الذي أعتز بأني أقتني نسخة منه بين الحين والآخر، لأنه عدد زاخر وممتع ومفيد، ولم يصدر بالطبع- وقتها سنة 1935 - لإثارة زوبعة صحفية!
بعد اثنتين وسبعين سنة من صدور عدد مجلة الهلال طلعت علينا جريدة الحياة - اعتباراً من يوم السبت 26 مايو- آيار 2007- بما أسمته محكمة أدبية للمتنبي ومن بين الذين تم اختيارهم لكي يحاكموا هذا العربي العبقري د. غازي القصيبي- علي أحمد سعيد أسبر الذي اختار لنفسه اسم أدونيس - سميح القاسم- شوقي بغدادي- أحمد عبدالمعطي حجازي- د. عبدالعزيز المقالح- د. جودت فخر الدين- محمد علي شمس الدين. وهنا أتوقف ولو بالإشارة إلي بعض ما قيل.
يحاول الدكتور غازي القصيبي أن يداري إعجابه بالمتنبي في ثنايا ما قاله، ولكنه يجاهر بإعلان ما يتصور أنه يهتم به هذا الشاعر العربي العبقري حيث يقول: كان المتنبي- شاء عاشقوه أو كرهوا- شاعراً أجيراً.. . ولو أن الدكتور القصبيي الشاعر- الوزير قد طبق ما قاله عن المتنبي علي من سبقوه وومن عاصروه ومن لحقوا به لأدرك أنه يلغي دواوين كاملة لشعراء عرب، وتذكر جيداً أن كثيرين من الشعراء العرب في القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين يمكن أن تنطبق عليهم- بكل بساطة- تهمة أنهم أجراء، سواء أكانوا أجراء لدي أناس أثرياء أو لدي سلطة من السلطات الحاكمة.. أتذكر هنا مفارقة تدعو للسخرية أو للرثاء.. قبل غيابه عن عالمنا، قال الشاعر الكبير عمر أبوريشة- في حوار صحفي أجري معه- إن المتنبي شحاذ دون أن يتذكر عمر أبوريشة انه كان يعيش في ضيافة المملكة العربية السعودية، وان الحكومة قد خصصت له مكافأة شهرية ثابتة، وانه لهذا السبب امتنع عن الذهاب إلي بيروت لإلقاء قصيدة كان قد كتبها عن الزعيم العربي الخالد جمال عبدالناصر، وقد اختفت هذه القصيدة تماماً حتي بعد غياب صاحبها عن عالمنا، ولم يبق منها سوي مطلعها، وهو عندي وعند بعض الذين عرفوا وقتها.. المتنبي شحاذ... قالها شاعر لم يتجرأ علي إلقاء قصيدة حتي لا تنقطع عنه الأموال التي كان يتلقاها.. ويستطيع الدكتور غازي القصيبي أن يتذكر بنفسه أمثلة أخري عديدة علي شعراء القرن العشرين الذين يهاجمون المتنبي باعتباره أجيراً وباعتباره شحاذاً بينما هم أنفسهم شحاذون أجراء!!.
أما الشاعر سميح القاسم، فعلي الرغم من اعتراضه الواضح علي مسلكية المتنبي السياسية إلا أنه ينتقل من عصر شاعرنا العبقري إلي عصرنا ليرصد ما رصده، قائلاً: .. لا بد من التنبيه إلي أن حداثة المتنبي وامريء القيس من قبله، تظل أرقي وأنقي وأبقي من كل التهريج الحداثوي السائد فيما يسمي بالحركة الشعرية العربية والتي هي في رأيي غير المتواضع ليست حركة وليست شعرية وليست عربية!.. .
وباعتداده الزائف بنفسه، يحاكم أحمد عبدالمعطي حجازي شاعرنا العربي العبقري فيقول: .. وأنا لا أشك في شاعرية المتنبي، ولا أنكر شهرته العريضة، لكني أنكر مبالغات المحدثين عنه وأشك فيما يدعونه عن إعجابهم به ومعرفتهم إياه، لأن معرفته تتطلب علماً وذوقاً لا يتوافران دائماً ولا يجتمعان إلا للقليل النادر من الناس.. .
وفي موضع آخر يقول أحمد عبدالمعطي حجازي: .. والمتنبي لا يتورع عن أن يجعل ممدوحيه آلهة قادرين علي كل شيء، وأن يجعل مهجويه أرانب وغنماً وكلاباً.. ولو أن حجازي قد طبق ما قاله عن شعر المتنبي علي شعره هو، لكان تذكر أنه مدح الزعيم العربي الخالد جمال عبدالناصر، وخصص قصائد كاملة لهذا الغرض الشعري وغير الشعري، إلي أن رحل الزعيم عن عالمنا، فإذا به ينقلب تماماً، لكي يتحدث عن استبداد عبدالناصر وديكاتوريته.. و... و...
وإذا كان حجازي- بلهجة العالم ذي الذوق الرفيع- لا يشك في شاعرية المتنبي فإنه وبالتأكيد لا يشك في شاعريته هو.. وهو القائل:
سلة ليمون
والولد ينادي بالصوت المحزون
عشرون بقرش
بالقرش الواحد عشرون..!!
في الخاتمة، لا بد من الشكر أوجهه لجريدة الحياة اللندنية، لأنها أتاحت لي- دون أن تقصد- أنأنتزع نفسي من شواغلها، وأن أتجول سعيداً ومبهوراً في أجواء شاعرية العربي العبقري أبي الطيب المتنبي، الذي يبحث حاسدوه عن عيب له لكنهم يعجزون، بينما يظل هو حياً بعد أكثر من ألف سنة، وان كان ينام قرير العين، معتداً- عن حق- بما حققه خلال حياته القصيرة العاصفة:
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
Magnoonalarab@yahoo.com

الراية5-6-2007




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !