قال محدثي: من أراد أن يعيش هانئًا، هادئ البال، قرير العين، منسجمًا مع نفسه، بعيدًا عن التناقض في القول والعمل، فليكن صادقًا مع نفسه، ومع غيره من الناس، وليكن بعيدًا كل البعد عن التبعية لأحد، وليكن ممن يجيدون التمسك بأفكارهم ومبادئهم، وممن يحسنون الدفاع عن قضايا أممهم وشعوبهم، وممن يحسنون الدفاع أيضًا عن أفكارهم ومبادئهم ومواقفهم التي تقتضيها هذه الأفكار، وتستوجبها هذه المبادئ.. ومن أراد أن يكون ذا شخصيةٍ مؤثرةٍ في توجهات الناس من حوله، فاعلةٍ في سير الحوادث والأحداث، متفاعلةٍ معها، متأثرةٍ بها، مؤثرةٍ فيها، فليكن مؤمنًا بما يقول، مؤمنًا بالمبادئ والأفكار التي يتبناها، ويدعو إليها، ويعمل من أجل تسويقها؛ فالإيمان يمنحه التوازن، ويكسبه الاتزان، ويعطيه القدرة على محاورة الآخرين وإقناعهم، الأمر الذي يؤدي إلى انتصار الفكرة التي يتبناها، ويدعو إليها.. وقد لا يؤدي كل ذلك إلى انتصارها أيضًا ولكنه –يقينًا- يؤدي إلى شعورٍ عميق في نفس صاحبها بالارتياح لأنه حاول، ولأنه بذل جهده، وقام بواجبه، ثم إنه سيظل يعمل من أجل كسب مزيدٍ من الأنصار والمؤيدين لفكرته، وسيظل يعمل من أجل تمحيص هذه الفكرة وتطويرها، وتخليصها من الشوائب، وإخضاعها للمنهج العلمي في البحث، وتقريبها من أفهام الناس، ومن مدارك النخب الثقافية والسياسية والاجتماعية والإعلامية، وحشد المؤيدين والأنصار وصولاً إلى القوة والانتشار والرواج والانتصار.. إن الإيمان والمثابرة والصدق مع النفس أمورٌ لا بد منها، ولا غنًى عنها لكل مشتغلٍ بالفكر، ولكل مشتغلٍ في القضايا العامة التي غالبًا ما تتوقف عليها مصائر البلاد، ومصائر العباد، وغالبًا ما تؤدي إلى الهدف المنشود إن كان المشتغلون فيها من المخلصين العاملين الأوفياء الأكفياء المثابرين المؤمنين بما يقولون ويفعلون، وقد تؤدي إلى عكس ذلك إن كانوا غير ذلك، وقد يطول أمد هذه النتيجة العكسية على أرض الواقع، وقد يقصر، بحسب الاستمرار بالنهج المؤدي إليها، أو العدول عنه إلى سواه، وهكذا تكون النتائج –على الأغلب- وليدة المقدمات، لا عشوائيةً تصنعها المصادفات كما يقول أصحاب هذه النظريات والتوجهات.
قلت لمحدثي: لم أفهم شيئًا مما قرعت به رأسي في هذا الصباح الرمضاني الملتهب من شهر آب.
قال: اسمعني جيدًا: لقد كنت، ولا أزال، وسأبقى ضد القمع والظلم والاستبداد الذي قد تمارسه الدول، ويمارسه كثير من الأفراد أيضًا خارج إطار هذه الدول، أو داخل هذا الإطار.. كما كنت، ولا أزال، وسأبقى إلى جانب حقوق الإنسان التي نصت عليها الشرائع السماوية والأعراف والقوانين الدولية، وأنت تعلم أنني قد تعرضت بسبب هذه الأفكار والمواقف لألوانٍ شتى من العقوبات منذ عقود.. وأنت تعلم أنني لم أتغير على الرغم من كل وسائل الإغراء والوعيد... فما الذي يحدث اليوم يا عزيزي؟ ما كان حتى الأمس القريب فضائل يثاب عليها الإنسان أصبح اليوم في عرفهم رذائل يُعاقَب عليها!! وأما الحريات التي يرفعون لواءها، ويتشدقون بها، ويحاربون من يتهمونهم بقمعها، فهي سلاحهم ضدي!! يحاربون هذه الجهة أو تلك، وهذه الدولة أو تلك بدعوى أنها تقيد الحريات العامة، وتكمم أفواه الناس، وفي الوقت نفسه يحاربونني بهذا السلاح، ويصادرون حقي في القول والتفكير والتعبير، وهذا أمرٌ في غاية الغرابة والتناقض بعد خمسين عامًا أو يزيد قلت خلالها كثيرًا مما أريد، ولكي تتضح معالم الصورة أكثر فإن هذه الإجراءات التعسفية الظالمة إما أن تكون موجهةً ضدي لأسبابٍ شخصية فهي باطلة، وإما أن تكون صادرةً لأسبابٍ إدارية مهنيةٍ وهي أيضًا باطلة، وإما أن تكون الأسباب سياسيةً وهي هنا أكثر من باطلة، مهما كان المستوى الذي صدرت عنه، لأنه ليس من حق أحد غريبًا كان أو قريبًا، كبيرًا أو صغيرًا، أن يمنعني من قول ما أريد، ولا سيّما إذا كان هذا الذي أقوله مستوفيًا كل شروط الخُلُق والأدب، ومستوفيًا كل شروط النشر، ومراعيًا كل أخلاقيات المهنة، ومتمتعًا بالحد الأقصى من سمو الفكر واللغة والأسلوب!!! لا أعتقد أن من حق أحد أن يقيد حريتي بعد كل هذه التجارب، وبعد كل هذا العمر، وبعد كل هذا الإنتاج الغزير الوفير في ميادين الأدب والثقافة والسياسة والفكر، ولا أعتقد أن أحدًا من الممكن أن يربح قضيةً وقف فيها ضد أبسط حقوق المواطن، وضد أبسط حقوق الكاتب والمؤلف، وضد أبسط الحقوق السياسية التي كفلها قانون البلد، وسائر القوانين المرعية في هذا المجتمع الدولي، ووقف فيها أيضًا ضد نفسه، فكان متناقضًا، وكان معتديًا متجاوزًا كل الحدود!!.
قلت: هوّن عليك يا رجل، من يسمعك يظن أن الأرض قد زلزلت زلزالها، وأن الأرض قد أخرجت أثقالها!! إن كثيرًا من الأمور التي ذهبت في تفسيرها كل مذهب هي أبسط كثيرًا مما تتصور.. وإن هنالك تفسيراتٍ كثيرةً لم تتطرق إليها مما تقتضيه ظروف العاملين، وضغط العمل، ولا سيّما ونحن في صيف حار، ونتائج امتحان عام، وموسم زيارات صيفية، وقُرب افتتاح المدارس والمعاهد والجامعات، هذه القضية التي تثيرها هنا يمكن أن تُسوى في أقل من دقيقةٍ تتحدث فيها إلى رأس العمل، وأنا واثقٌ؛ أن الأمور ستسوى إن كانت هنالك أمور كهذه التي تتحدث عنها، وثق أيها الإنسان أن التناقضات في هذا الوجود كثيرة، وأن المتناقضين كُثرٌ، وأن أسباب ذلك كثيرة، وثق أنني سأثير هذه القضية على أعلى المستويات، لا لأنها قضيتك، ولكن لأنها مما يتعلق بشكلٍ من ديمقراطية هذا الشعب وحريته التي يفخر بها ويفاخر، وهي عندنا "سكر زيادة" كما كان يقول الراحل ياسر عرفات.
التعليقات (0)