المتشابه في القرآن / الجزء الثاني
من كتاب/ قضايا تهم كل مسلم
تأليف: إبراهيم أبو عواد .
...............................
[3] قال اللهُ تعالى : } وَجَاءَ رَبُّكَ { [ الفجر : 22] .
والمعنى : جَاءَ أمرُ ربِّك وآياته العظيمة. فاللهُ تعالى مُنَزَّه عن الحركة والانتقال . فهاتان الصفتان من صفات الأجسام المخلوقة.واللهُ تعالى هو الخالق وليس مخلوقاً،وليس جِسماً تَطرأ عليه التَّغيُّرات. فسُبْحان الذي يُغيِّر ولا يَتغيَّر. ونحن عندما نقول عن فلان: جاءه الموتُ أو جاءه المرضُ ، فلا نَعني أن الموت والمرض يتحركان ويمشيان . وإنما نَقصد معنىً مجازياً يَفهمه كلُّ عربي .
وقال البيضاوي في تفسيره ( 1/ 489 ) : (( أي : ظَهرت آياتُ قُدرته وقَهره ، مِثل ذلك بما يَظهر عند حضور السُّلطان مِن آثار هَيْبته وسياسته )) اهـ .
واللهُ تعالى جَعَلَ مجيءَ الآيات مجيئاً له سبحانه تعظيماً لِتِلك الآيات ، ورَفْعاً لشأنها . كما في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه ( 4/ 1990 ) : عن أبي هريرة _ رضي الله عنه _ قال : قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : (( إن اللهَ _ عَزَّ وَجَلَّ _ يَقولُ يَوْمَ القيامة : يا ابْنَ آدم مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْني )).
ومن المعلوم أن اللهَ تعالى مُنَزَّه عن المرض . ومَن أَثْبتَ المرضَ لله تعالى اعتماداً على ظاهر الحديث فقد كَفَرَ . والمقصود بالحديث هو تشريف العبد ، ورفع مكانته .
قال النووي في شرحه على صحيح مسلم ( 16/ 125) : (( قال العلماء : إنما أضاف المرض إليه _ سبحانه وتعالى _ والمراد العبد ، تشريفاً للعبد ، وتقريباً له )) اهـ .
وقال ابن كثير في البداية والنهاية ( 10/ 327 ) : (( روى البيهقي عن الحاكم عن أبي عمر ابن السماك عن حنبل أن أحمد بن حنبل تأوَّلَ قولَ الله تعالى: ) وَجَاءَ رَبُّكَ ( [ الفجر: 22] أنه: جاء ثوابه ، ثم قال البيهقي : وهذا إسناد لا غبار عليه )) اهـ .
وها هُوَ الإمام أحمد بن حنبل مؤسس المذهب الحنبلي الذي يَنْسب " السلفيون " أنفسهم إليه ، يُؤَوِّل الآيةَ. وله تأويلات كثيرة جداً خصوصاً في فِتنة خَلق القرآن ، وتصدِّيه للمعتزلة الذين احتجوا ببعض الآيات القرآنية ، فما كان منه إلا أن تأوَّلها .
أمَّا ابنُ تيمية فغارقٌ في أوهامه، حيث يقول في بيان تلبيس الجهمية ( 1/ 27 ) : (( إذا صُرِّح بنفي الجسمية وَجب التصريح بنفي الحركة ، فإذا صُرِّح بنفي هذا عَسر ما جاء في صفة الحشر من أن الباري يَطَّلع على أهل المحشر ، وأنه الذي يلي حسابهم كما قال تعالى : ) وَجَاءَ رَبُّكَ والْمَلَكُ صَفَّاً صَفَّاً ( ... فيجب أن لا يُصرَّح للجمهور بما يَؤول عندهم إلى إبطال هذه الظواهر ، فإن تأثيرها في نفوس الجمهور إنما هُو إذا حُملت على ظاهرها )) اهـ .
هذا الكلامُ شديد الخطورة ، ولنا معه وقفات :
أ ) يجب التصريحُ بنفي الجسمية ونفي الحركة عن الله تعالى . فكلُّ جِسم مُركَّب من أعضاء وبحاجة إلى مكان يحتويه ، ولا بد للجسم من حَيِّز يَشغله . والحركةُ تعني الانتقال من مكان إلى مكان ، وتتضمن معاني الزوال والغياب والتغيُّر . وهذه الصفات مختصة بالحوادث المخلوقة . فاللهُ تعالى كان موجوداً ولا شيء معه ، وهو موجود قبل المكان والزمان ، فليس سبحانه جِسماً متحيِّزاً ومحصوراً في مكان . واللهُ تعالى مُنَزَّه عن الحركة ، لأن الحركة تغيُّر . واللهُ تعالى لا يَتغيَّر ، ولو كان اللهُ تعالى متغيِّراً لكانَ مخلوقاً يَطرأ عليه العَدَمُ والزوالُ والحضورُ . وهذا مُحال بحقِّه سبحانه .
ب ) إذا تمَّ نفي الجسمية والحركة ، فلن يَصْعب فهم قَوْله تعالى : ) وَجَاءَ رَبُّكَ والْمَلَكُ صَفَّاً صَفَّاً ( . فالمجيءُ المقصود به ليس حركةً ولا انتقالاً ولا زوالاً . وقد وضَّحنا تأويلَ الآية .
ج ) أمَّا قَوْلُك " فيجب أن لا يُصرَّح للجمهور بما يَؤول عندهم إلى إبطال هذه الظواهر " . فنقول إننا نُبطِل الشبهاتِ التي قد تَعلق في أذهان العوام الذين قد يَفهمون الآية على أن الله تعالى يتحرك وينتقل من مكان إلى مكان . فنحنُ نُبطِل الحركةَ والانتقال ، وننفيهما عن الله تعالى ، ولا نُبطِل الآيةَ القرآنية .
د ) أمَّا قَوْلُك " فإن تأثيرها في نفوس الجمهور إنما هُو إذا حُملت على ظاهرها ".
فنقول إن ظَاهرَ الآية ) وَجَاءَ رَبُّكَ ( هو الحركة . والحركةُ مَنْفيةٌ عن الله تعالى ، لأنها تغيُّر . والجميعُ يَعْرفون أن اللهَ تعالى يُغيِّر ولا يَتغيَّر. كما أن قَوْلَك مُخالِفٌ للسلف والخلف معاً ، فلم يَقُلْ أحدٌ من علماء المسلمين إن الآيات المتشابِهات تُحمَل على ظاهرها، وإن تأثيرها في نفوس الناس إذا حُملت على ظاهرها . بل قال الذين لا يُريدون التأويلَ إن قراءة الآية تفسيرها ، فيُؤْمَن بها ، ولا تُفَسَّر ، ولا تُتَوَهَّم ، ولا يُقال كَيْف .
هـ ) إن ابن تيمية يُجوِّز الحركةَ على الله تعالى ، لأنه يُؤْمِن بحمل النَّص على ظاهره . ومعلومٌ أن الحركة لم تَرِدْ في القرآن ولا السُّنة ولا أقوال السلف ولا أقوال الخلف. فمن أين جاءَ ابن تيمية بهذه العقيدة وهو الذي يَزْعم أنه مُتَّبع للكتاب والسُّنة ؟!.وهذا مؤشرٌ واضح على انحرافه العَقَدي.
[4] قال اللهُ تعالى : } ثُمَّ استوى إلى السماء { [ البقرة : 29] .
الاستواءُ هنا بمعنى القَصْد ، ويَعود إلى صفة الإرادة . أي : قَصَدَ إلى خلقها .
قال البيضاوي في تفسيره ( 1/ 271 ) : (( قصد إليها بإرادته )) اهـ .
وفي تفسير القرطبي ( 1/ 291 ) : (( وقال البيهقي أبو بكر أحمد بن علي بن الحسين : قَوْلُه } استوى { بمعنى أقبل صحيح ، لأن الإقبال هو القَصْد إلى خلق السماء ، والقَصْدُ هو الإرادة ، وذلك جائز في صفات الله تعالى ، ولفظةُ } ثُمَّ { تتعلق بالخلق لا بالإرادة )) اهـ .
[5] قال اللهُ تعالى : } الرَّحْمنُ عَلى العَرْش استوى { [ طه : 5] .
المعنى : الرحمنُ على عَرْشه عَلا ، وهذا العُلُوُّ عُلُوُّ المكانة لا المكان . فاللهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن المكان.
قال الطبري في تفسيره( 8/ 391): (( يقول تعالى ذِكْره: الرحمن على عرشه ارتفع وعلا )) .
ولا يَخفَى أن طريقة السلف أو غالبية السلف هي إمرار الآية مِن غَير تكييف ، ولا تحريف ، ولا تشبيه ، ولا تعطيل ، ولا تمثيل .
والاستواءُ لا يُمكن حَمْله على معنى الاستقرار والتمكن ، لأن الاستقرار والتمكن من صفات الأجسام . فالمستقرُّ لا يكون إلا جِسماً ، إمَّا مِثل العَرش أو أكبر منه أو أصغر. وهذا مُحال في حَقِّ الله تعالى الْمُنَزَّه عن المكان والزمان ، فهو سبحانه لا يَحُلُّ في الأشياء ، ولا تَحُلُّ الأشياءُ فيه . وما أدَّى إلى مُحال فهو مُحال .
وقال الرفاعي الحسيني في البرهان المؤيد ( ص 18 ): (( وسُئل الإمام أحمد _ رضي الله عنه _ عن الاستواء فقال : استوى كما أَخْبَر لا كما يَخطر للبشر )) اهـ .
وهذا يدل على الإيمان بكلام الله تعالى دون زيادة أو نقصان، وإهمال الوساوس السَّيئة ، وترك الخواطر البشرية المعجونة بالخيال والنقص والوهم . وكلُّ ما في بَالِك ، فاللهُ تعالى بِخِلاف ذلك .
والجدير بالذِّكر ، أنه لا يَجوز القول : يا مُسْتوي ، ولا يَجوز أيضاً التَّسمِّي بعبد المستوي .
وقال الحصني في دفع شُبه مَن شَبَّه وتمرد ( ص 18): (( وسُئل الإمام الشافعي _ قَدَّس الله رُوحه _ عن الاستواء فقال : آمنتُ بلا تشبيه ، وصَدَّقْتُ بلا تمثيل ، واتهمتُ نفْسي في الإدراك ، وأمسكتُ عن الخوض فيه كل الإمساك )) اهـ .
وهذه القاعدةُ الشافعية الجليلة لها أربعة أركان :
أ ) الإيمان بلا تَشبيه : الإيمانُ بالآية على مُراد الله تعالى ، دون تشبيه الخالق بالمخلوق ، أو تشبيه المخلوق بالخالق . فاللهُ قديمٌ لا يَطرأ عليه العَدَمُ ، والمخلوقاتُ حوادث وُجدت بعد العَدَم .
ب ) التصديق بلا تمثيل : التصديقُ بالآية ، وطَرد الخيالاتِ والأوهام التي قد تَسْبح في ذِهن الإنسان . فصفاتُ الله تعالى لا تُشبِه صِفاتِ المخلوقين . فالتمثيلُ وهمٌ لا يجوز الخوضُ فيه .
ج ) اتهام النَّفْس في الإدراك : إن الإنسانَ كائنٌ ضعيف ، عقلُه محدود ، وهو يَجهل حقيقةَ نَفْسه المخلوقة التي بَين جَنْبَيْه ، فكيف سَيُدرِك حقيقة الخالق العظيم ؟ . وكما قيل :
حقيقةُ المرءِ لَيْسَ المرءُ يُدرِكها فَكَيْفَ يُدرِكُ كُنهَ الخالقِ الأزلي
ولا يَعْرِفُ اللهَ إلا اللهُ. أمَّا المخلوقات فهي ضعيفة وعاجزة أمام عَظَمةِ الله _ سبحانه وتعالى _. والطريقُ الوحيدُ لمعرفة الله تعالى هو العجزُ عن معرفته .
د ) الإمساكُ عن الخوض فيه : إن الإنسانَ لا يَمْلك العِلمَ والقُدرةَ على البحث في ذات الله تعالى . وعلى المرءِ أن يتفكَّر في مخلوقات الله ، ولا يتفكَّر في ذات الله ، لأن عقلَ الإنسانِ القاصرَ لا يَستطيع الوصولَ إلى حقيقة الذات الإلهية . فلا يَعْرف اللهَ إلا اللهُ .
وقد اختلف المتأوِّلون في تفسير الاستواء . فذهبت المجسِّمةُ إلى أن الاستواء هو الاستقرار . وقال بعضُ العلماء : معناه الارتفاع والعُلُوُّ ، وقال آخرون : معناه الْمُلْك والقُدرة . وذَهبت المعتزلةُ إلى أن الاستواء بمعنى الاستيلاء والقهر معتمِدين على قول الشاعر :
قد استوى بِشْر على العراق مِن غَير سَيْفٍ ودَم مهـراق
وقد تَمَّ تخصيصُ العَرش لأنه أعظم المخلوقات ، فإذا استولى اللهُ تعالى على العرش وقَهَره ، وهو أعظم المخلوقات ، فَمِن باب أَوْلى أن يكون مُسْتولياً على باقي المخلوقات ، وقاهراً له ، وهي _ بالتأكيد _ أقل شأناً من العَرش .
قال العَيْني في عمدة القاري ( 25/ 111) : (( وأُنكِر عليهم بأنه لا يُقال استولى إلا إذا لم يكن مُسْتولياً ثم استولى ، واللهُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ لم يزل مُسْتولياً قاهراً غالباً )) اهـ .
وفي الحقيقة ، إن تأويل المعتزلة مُتوافق مع الشرع واللغة . وهذا لا يتعارض مع سيطرة الله المطْلقة على مخلوقاته . فاللهُ قاهرٌ لمخلوقاته على الدوام بلا انقطاع . كان سُبْحانه مُسْتولياً على الخلائق ، وما زالَ مُسْتولياً . والاستيلاءُ هو القُدرةُ التامة الخالية مِن مُعارِض .
أمَّا الشُّبهة التي أُثيرت حول تأويل المعتزلة فيمكن الردُّ عليها بقول الله تعالى : } لِمَن الْمُلْكُ اليَوْمَ { [ غافر : 16] . فهل كان الْمُلْكُ لغير الله تعالى قَبْل هذا اليوم ثم صارَ له سُبحانه ؟ . الجواب : لا .
وعَلَيْه ، فإن تفسير الاستواء بالاستيلاء لا يَعني أن اللهَ تعالى لم يَكن مُسْتولياً على العَرش ثم صارَ مُسْتولياً عليه . فهو سبحانه مُسَيْطِر على كُل شيء . كانَ وما زالَ .
وقال الإمام الغزالي في قواعد العقائد في التوحيد ( ص 9 ) : (( وأنه مُسْتَوٍ على العرش على الوجه الذي قاله ، وبالمعنى الذي أراده ، استواءً مُنَزَّهاً عن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال . لا يَحْمله العرش، بل العرش وحَمَلته محمولون بلُطف قُدرته ، ومقهورون في قبضته . وهو فَوْقَ العرش والسماء ، وفَوْقَ كُل شيء ... فَوْقِيَّةً لا تزيده قُرباً إلى العرش والسماء ، كما لا تزيده بعداً عن الأرض والثرى )) اهـ .
وهذا الكلامُ النَّفيس لا بد أن نتوقف عنده ، فنقول :
أ ) اللهُ تعالى مُسْتَوٍ على العَرش كما ذَكَرَ في كتابه المجيد لا كما يَخْطر للبشر . نُؤمِن بهذا الاستواء على مُراد الله تعالى .
ب ) المماسةُ والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال من صفات الأجسام المخلوقة ، ومحصورة مكانياً وزمانياً . واللهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن المكان والزمان .
ج ) العَرشُ لا يَحمل اللهَ تعالى ، لأنه سبحانه غنيٌّ عن كُل شيء ، وليس بحاجة إلى أَي شيء .
ولو كان العَرشُ يَحمل اللهَ تعالى ، لكانَ اللهُ عاجزاً مُفْتَقِراً إلى غَيْره ، وهذا مُحال . فاللهُ تعالى قائمٌ بذاته ، ومُسَيْطِر على كُل شيء .
د ) العرشُ وحَمَلته خاضعون للهِ تعالى ، ومَحْمولون بلُطف قُدرته ، مُفْتَقِرون إليه سبحانه ، وهو الغنيُّ عنهم. وقد قال اللهُ تعالى : } ويَحْمِل عَرْشَ ربِّكَ فَوْقهم يومئذ ثمانيةٌ { [ الحاقة : 17].
هـ ) اللهُ فَوْقَ كُل شيء ، ولَيْس فَوْقه شيء . هو العَلِيُّ الأعلى . وفَوْقِيَّةُ اللهِ تعالى لا تُقاس بالمسافات والزمن ، فهي فَوْقِيَّةُ المجدِ والعَظَمةِ والقَهرِ والجبروتِ ، وعُلُوُّ المكانة .
وقال الحصني في دَفع شُبه مَن شَبَّه وتمرَّد ( ص 41 و42 ) : (( فمن ذلك ما أخبر به أبو الحسن علي الدمشقي في صحن الجامع الأموي عن أبيه قال : كُنا جلوساً في مجلس ابن تيمية ، فَذَكَرَ وَوَعظَ وتعرَّض لآيات الاستواء ، ثم قال : واستوى اللهُ على عَرشه كاستوائي هذا . قال : فوثب الناسُ عليه وثبة واحدة، وأنزلوه من الكرسي ، وبادروا إليه ضرباً للكم والنعال وغير ذلك، حتى أوصلوه إلى بعض الحكام ، واجتمع في ذلك المجلس العلماء فشرع يناظرهم ، فقالوا : ما الدليل على ما صَدر مِنك ، فقال : قَوْله تعالى : } الرَّحْمنُ عَلى العَرْش استوى { ، فضحكوا منه وعرفوا أنه جاهل ، لا يَجري على قواعد العِلم ، ثم نقلوه ليتحققوا أمره ... وكان قَد غَرَّه بنفْسه ثناء العوام عليه ، وكذا الجامدين من الفقهاء العارين عن العلوم التي بها يجتمع شمل الأدلة على الوجه الْمَرْضي . وقد رأيتُ في فتاويه ما يتعلق بمسألة الاستواء ، وقد أطنب فيها وذَكَرَ أموراً كلها تلبيسات ، وتجريات خارجة عن قواعد أهل الحق ، والناظر فيها إذا لم يكن ذا علوم وفطنة وحُسن رؤية ظَنَّ أنها على مِنوال مَرْضي ، ومِن جُملة ذلك بعد تقريره وتطويله إن الله معنا حقيقة ، وهو فوق العرش حقيقة )) اهـ .
لقد وَصَفَ اللهُ ذاتَه العَلِيَّةَ ، فقال سبحانه وتعالى : } لَيْسَ كَمِثْله شَيء { [الشُّورى:11] . واللهُ تعالى استوى على العَرش كما ذَكَرَ لا كما يَخطر للبشر . ولا يمكن تشبيه الخالق بالمخلوق ، ولا المخلوق بالخالق .
والذين يُصِرُّون على إثبات مكان لله تعالى ، ويؤمنون بالنصوص على ظواهرها ، نقول لهم إن اللهَ تعالى يقول : } وَهُوَ اللهُ في السَّماواتِ وفي الأرضِ {[ الأنعام : 3 ] .
وظاهرُ الآيةِ أن اللهَ تعالى موجود في السماوات وفي الأرض . وكما هو معلومٌ فإن الموجود لا يَكون في مَكانَيْن . إذن ، فظاهرُ الآيةِ غير مُراد . وأنتم مُلْزَمون بالتأويل . والمعنى : إن اللهَ تعالى هو المعبود في السماوات وفي الأرض .
وقال الزركشي في البرهان ( 2/ 83 ) : (( واستدلت الجهميةُ بهذه الآية على أنه تعالى في كل مكان ، وظاهر ما فهموه من الآية من أسخف الأقوال )) اهـ .
وقال القرطبي في تفسيره ( 7/ 195) : (( وقد كان السلف الأول _ رضي الله عنهم _ لا يقولون بنفي الجهة ، ولا ينطقون بذلك ، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرتْ رُسله ، ولم يُنكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة ، وخُصَّ العرش بذلك لأنه أعظم مخلوقاته ، وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تُعلَم حقيقته )) اهـ .
لنا وقفات مع هذا الكلام :
_ السلفُ الصالحُ كانوا يَداً واحدةً ، وفق منهج واحد . يَعتمدون على التسليم الكامل بالنصوص الشرعية وفق مُراد الله تعالى ورسوله r، ويستندون إلى السليقة العربية بلا شوائب ، ويبتعدون _ كلَّ البُعد _ عن الجِدال . ولكنْ عندما جاءت الفِرَقُ الضالةُ بشُبهاتها ، وأثارَ بعضُ الناس قضايا دِينية حسَّاسة لم تكن مطروحة في عصر السلف ، كان لِزاماً الخوض في هذه القضايا للدفاع عن الإسلام، والرد على الخصوم بأسلحتهم العقلية والجدلية، ودفعِ الشُّبه والأباطيل. وهذا أدَّى إلى نشأة عِلم الكلام ، وهو العِلمُ الذي يستخدم الحجج العقلية والبراهين المنطقية لإثبات العقائد الإسلامية . وهذا العِلمُ لم يَخُضْ فيه السلفُ الصالحُ بسبب اجتماع الناس على أمر واحد ، ولكنْ حين كَثُرت الشبهاتُ المثارة اضطرَّ علماءُ الإسلام إلى استخدام عِلم الكلام لحماية الإسلام ، وحراسةِ عقائد الناس .
وتعبيرُ " الجهة " لم يكن معروفاً عند السلف الصالح لأنه لم يَرِدْ في القرآن والسُّنة، وإنما ظَهر في فترة لاحقة . وهُم لم يَخوضوا في هذا المصْطَلَح .
والسلفُ الصالحُ لم يُثبِتوا جهةً لله تعالى ، فهو سبحانه مُنَزَّه عن المكان والزمان . وإذا اعتقدوا أن اللهَ تعالى في السماء ، أو أن الله تعالى فوق عَرْشه ، فالمقصودُ بهذا هو عُلُوُّ المكانة لا المكان ، ورِفعةُ القهر والسُّلطان والجبروت . والسلفُ الصالحُ أعلم الناس بأن الله تعالى لا يَحُلُّ في شيء مِن خَلْقه ، والسماوات مخلوقة .
واللهُ تعالى فوق عَرْشه ، وهذه هي فَوْقِيَّةُ القهر والعَظَمة . وبالقطع ، فالسلفُ الصالحُ لا يَقصدون أن الله تعالى جالس على عرشه ، أو أن العَرش مكانٌ له سبحانه . فاللهُ تعالى كان موجوداً ولا عرش ولا سماوات . فأين كان اللهُ قبل خلق العرش والسماوات ؟! . لقد كان اللهُ ولا مكان ولا زمان ، لأن المكان والزمان مخلوقان. وهو سبحانه كما كان ( لا يتغيَّر ) ، وهو الآن حيث كان ( بلا مكان ) . فلا تعارض بين تنزيه الله عن المكان ، وبين فَوْقِيَّة القهر والمجد . أمَّا السماءُ فهي جهة العُلُو المعنوي ، أي إنها جهة العَظَمة والمجد والقوة ، لا أنها جهة الله تعالى المحصور فيها . ولو كان اللهُ في السماء حقيقةً، لكانت السماء أكبر من الله تعالى، وعندئذ لا معنى لكلمة " اللهُ أكبر " . وهذا لا يقول به عاقل .
واللهُ تعالى يقول : } الرَّحْمنُ عَلى العَرْش استوى { . وهذه الآيةُ حقٌّ لا باطل ، وحقيقة لا مِراء فيها، لأن كلامَ اللهِ حقيقة وليس كذباً. وبالتالي ، فاستواءُ اللهِ حقيقة كما هو مَذْكور في الآية على مُراد الله تعالى مع تَنْزيه الله تعالى عن مُشابَهة مخلوقاته . هذا هو معنى أن الاستواء حقيقة . إن الحقيقةَ كما ذَكَرَ اللهُ تعالى لا كما يَتصوَّر البعضُ في خيالهم المريض ، وأذهانهم القاصرة . وليس معنى الحقيقة أن اللهَ تعالى جالس على العَرش، أو أن العَرش يَحْمله سبحانه، أو أن العَرش مكانه . فهذه الأمورُ مَنْفِيَّةٌ عن الخالق العظيم ، لأنها من خصائص الأجسام المخلوقة . ولا يُعقَل إضفاء خصائص المخلوقات على الخالق . فالخالقُ خالقٌ ، والمخلوقُ مخلوق .
أمَّا قَوْلُ القرطبي : " وإنما جهلوا كيفية الاستواء " . فهذه العِبارةُ خاطئةٌ تماماً ، لأن اللهَ تعالى لا كَيْفَ له ، وصفاته مُنَزَّهة عن التَّكيُّف . وما قاله القرطبي مخالفٌ لمنهج السلف الصالح الذين كانوا يقولون في المتشابِهات : يُؤْمَن بها ، ولا تُفَسَّر ، ولا تُتَوَهَّم ، ولا يُقال كَيْف . فمِن أين جاء القرطبي بالكيفية ؟ . فاللهُ مُنَزَّه عن الكيفية ، وصفاته تعالى لا يُسْأل عنها بِكَيْف .
وقد روى مسلم في صحيحه ( 1/ 350 ): عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( أقرب ما يكون العبد مِن رَبِّه وهو ساجد )) .
وهذا يشيرُ بوضوح إلى نفي المكان والجهة عن الله تعالى ، فالعبدُ في أكثر حالاته انخفاضاً يكون أقرب ما يكون لخالقه تعالى .
وفي شرح السيوطي لسُنن النَّسائي ( 2/ 226) : (( وقال البدر بن الصاحب في تذكرته : في الحديث إشارة إلى نفي الجهة عن الله تعالى ، وأن العبد في انخفاضه غاية الانخفاض يكون أقرب ما يكون إلى الله تعالى )) اهـ .
وقال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى ( 6/ 343 ) : (( وأما قولهم : الذي نطلب منه أن يعتقده أن ينفي الجهة عن الله والتَّحيُّز ، فالجواب مِن وجوه :أحدهما : إن هذا اللفظ ومعناه الذي أرادوه ليس هو في شيء من كُتب الله المنْزَلة مِن عنده ، ولا هو مأثوراً عن أحد من أنبياء الله ورُسله ، لا خاتَم المرسَلين ولا غيره ، ولا هو أيضاً محفوظاً عن أحد من سلف الأُمَّة وأئمتها أصلاً )) اهـ .
إن اللهَ تعالى مُنَزَّهٌ عن الجهةِ والتَّحيُّزِ . وهذا المعنى موجود في القرآن والسُّنة رغم أن الجهة والتَّحيز لم يُذكَرا كمفهومَيْن. وهذا ليس أمراً غريباً، فهذان التعبيران جديدان . وكثيرٌ من التعابير لم تُذكَر حَرفياً . ومع هذا فلا يُوجَد تعبير خارج عن هيمنة القرآن والسُّنة بسبب اشتمالهما على القواعد الكُلية التي ينضوي تحتها التفاصيل الجزئية مهما اختلف الزمانُ والمكانُ .
ولو كان اللهُ تعالى في جهة أو في حيِّز ، لكانَ محصوراً في مكان ، ومقهوراً في حيِّز ، وخاضعاً لصفات الحوادث . واللهُ تعالى أكبر من كُل شيء . وهو سبحانه قديمٌ كان قَبْل الجهاتِ وقبل كُل حيِّز . فهو موجود سبحانه بلا مكان ، لأنه غنيٌّ عن كُل شيء، لا يَحتاجٌ مكاناً يَحُل فيه، ولا جهةً يتواجد فيها. واللهُ تعالى مُنَزَّه عن الحلول في الأشياء، فلا مكان يحتويه ولا زمان يَحُدُّه، لأنه سبحانه خالق الزمان والمكان . وكان الله موجوداً قبل العرشِ والزمانِ والمكانِ والجهاتِ وكلِّ المخلوقات ، ولا شيء معه . } لَيْسَ كَمِثْله شَيء { [الشُّورى:11] .
وفي تفسير القرطبي ( 1/ 291 ) : (( رُوِيَ عن مالك _ رحمه الله _ أن رَجلاً سأله عن قوله تعالى : } الرَّحْمنُ عَلى العَرْش استوى { ، قال مالك: الاستواءُ غير مجهول، والكَيْف غير معقول، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، وأراك رَجل سوء ! ، أخرجوه )) اهـ .
إن الاستواءَ مَعلومٌ لأنه مذكور في القرآن ، والكيف غير مَعقول. ولا نقول إن الكَيْف مجهول، فلا يُقال كَيْف ، لأن اللهَ تعالى لا كَيْف له، والإقرار بالاستواء إيمان لأنه تصديق بالقرآن ، وإنكاره كُفر لأنه تكذيب لكلام الله تعالى . وعلى الله الرسالة ، وعلى رسوله البلاغ ، وعَلَيْنا التسليم .
وفي فتح الباري ( 13/ 406) : (( وأخرج البيهقي بسند جيد عن عبد الله بن وهب ، قال : كُنَّا عند مالك ، فَدَخَلَ رَجل ، فقال : يا أبا عبد الله ، } الرَّحْمنُ عَلى العَرْش استوى { ، كيف استوى ؟ . فأطرق مالك ، فأخذته الرحضاء ، ثم رَفع رأسه ، فقال : الرحمن على العرش استوى كما وصف به نَفْسَه ، ولا يُقال كَيْف ، وَكَيْف عنه مرفوع ، وما أراك إلا صاحب بدعة ، أَخْرِجوه )) اهـ .
وفي مجمع الحكم والأمثال : (( رُوِيَ أن الزرمخشي سَأل الإمام الغزالي عن قول الله تعالى :
} الرَّحْمنُ عَلى العَرْش استوى { ، فأجاب :
قلْ لمن يفهمُ عني ما أقـــــولُ
اتْركِ البَحْثَ فذا شرحٌ يطـــولْ
ثَمَّ سِرٌ غامضٌ من دُونِـــــه
ضُرِبَتْ بالسيفِ أعناقُ الفحــولْ
أنتَ لا تعرفُ إِياكَ ولا تـــدري
مَن أنتَ ولا كيفَ الوصـــولْ
لا ولا تدري صفاتٍ رُكِّبَــــتْ
فيكَ حارَتْ في خفاياها العقــولْ
أينَ مِنكَ الروحُ في جوهرِهـــا
هل تراها أو ترى كيفَ تجــولْ ؟
أنتَ أكلَ الخبزِ لا تعرفُـــــه
كيفَ يجري فيكَ أم كيفَ يَحـولْ
فإِذا كانتْ طواياكَ الـــــتي
بَيْن جَنبيْكَ بها أنت جهـــولْ
كيفَ تدري مَن على العرشِ استوى
لا تقلْ كيفَ استوى كيفَ الوصولْ
فهو لا كَيْفٌ ولا أينٌ لـــــهُ
هوَ ربُّ الكَيْفِ والكَيْفُ يجــولْ
وهو فَوْق الفَوْقِ لا فَوْقٌ لـــه
وهوَ في كلِّ النواحي لا يــزولْ
جَلَّ ذاتاً وصفاتٍ وعَـــــلا
وتعالى رَبُّنا عمَّا تقـــــولْ
التعليقات (0)