المتشابه في القرآن / الجزء الثالث
من كتاب/ قضايا تهم كل مسلم
تأليف: إبراهيم أبو عواد .
.........................
[6] قال اللهُ تعالى : } ثُمَّ استوى على العَرْش { [ الأعراف : 54] .
استوى اللهُ تعالى على العَرْش كما ذَكَرَ في القرآن ، لا كما يَدور في خيالاتِ الناس . وفي فتح الباري ( 13/ 406) : (( وأخرج الثعلبي مِن وَجه آخر عن الأوزاعي ، أنه سُئل عَن قوله تعالى : } ثُمَّ استوى على العَرْش { ، فقال : هو كما وَصَفَ نَفْسَه )) اهـ .
وقال ابن كثير في تفسيره ( 2/ 294 ) : (( فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جداً ليس هذا موضع بسطها ، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح ، مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه ، وغيرهم من أئمة المسلمين قديماً وحديثاً ، وهو إمرارها كما جاءت مِن غير تكييف ، ولا تشبيه ولا تعطيل ، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبِّهين مَنفي عن الله ، لا يُشبِهه شيء مِن خَلْقه )) اهـ .
وبالتأكيد ، نحن نَصِفُ اللهَ تعالى بما وَصَفَ به ذاته العَلِيَّة ، وبما وَصَفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. ومَن شَبَّه اللهَ تعالى بخَلْقه، أو شَبَّه خَلْقَه به سبحانه ، فقد كفرَ . ومَن جَحد ما وَصفَ اللهُ به نَفْسَه ، فقد كفرَ . ولا بد من إثبات ما أَثْبته اللهُ لنفْسه على الوجه الذي يَليق بجلال الله تعالى ، ونفي النقائص عنه _ سبحانه وتعالى _. فهو الكاملُ ، وصفاته كاملة ، لا يَطرأ عليها النقصُ ولا العَدَم . وكلُّ ما في بالِك ، فاللهُ بِخِلاف ذلك . وكلُّ ما في بالك فهو هالك .
وهناك أشخاص يقولون إن اللهَ استوى على العَرْش بذاته . وهذه اللفظة " بذاته " لم تَرِد في القرآن والسُّنة ، فيجب رَفْضها . وكما هو معلوم ، فالسلفُ الصالح لم يقولوا: استوى على العرش بذاته . بل آمَنوا بما وَرد ، ورَفضوا ما لم يَثْبت بالدليل مما لا يَجوز عليه سبحانه .
ورَوى البخاري في صحيحه ( 1/ 159 ) : عن أنس _ رضي الله عنه _ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يُناجي رَبَّه _ أو إن رَبَّه بَيْنه وبين القِبلة_ فلا يَبزقن أحدكم قِبَل قِبلته ولكن عن يساره أو تحت قَدَمَيْه )) .
وهذا الحديثُ ينفي الجهةَ والمكانَ عن الله تعالى. فقولُ النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن رَبَّه بَيْنه وبين القِبلة ))، يعني أن العبدَ عندما يتوجَّه للقِبلة ، فإنما يَقصد اللهَ تعالى الذي يَسمع كلامَ عبده ، ويَرى مكانَه ، ويَستجيب دُعاءه . وقد شَرَّفَ اللهُ القِبلةَ ، فصارت مكاناً شريفاً عظيماً ينبغي احترامه وتقديسه . وبالتأكيد ، لا يُوجد عاقلٌ يَعتقد أن اللهَ تعالى محصور بين العبد والقِبلة ، أو أن هذا المكان هو مكان لله تعالى . فالحديثُ يجب أن يُفهَم ضمن سياقات اللغة العربية ، والقواعدِ الشرعية .
وقال الحافظ في الفتح ( 1/ 508 ) : (( وقد نزع به _ أي بالحديث _ بعض المعتزلة القائلين بأن الله في كل مكان ، وهو جهل واضح ، لأن في الحديث أنه يَبزق تحت قَدَمه ، وفيه نقض ما أصَّلوه . وفيه الرَّد على مَن زَعم أنه على العَرش بذاته )) اهـ .
يعتقد البعضُ أن اللهَ تعالى في كُل مكان . وهذه العقيدة تُفهَم وفق معنيَيْن . المعنى الأول : أن اللهَ تعالى مُحيط بكل شيء ، يَعلم كلَّ شيء ، ولا شيء يَغيب عنه . وهذا معنى مقبول . أمَّا المعنى الآخر ، فاللهُ تعالى في كل مكان بذاته ، وهذه عُقيدة كُفرية مرفوضة ، لأنها تعني أن اللهَ تعالى موجود في أماكن القذارة والنجاسة ، وهذا لا يقول به مُسْلم .
وبعضُ الناس يعتقدون أن اللهَ تعالى على العرش بذاته، وهذه العقيدة الكُفرية يَعتنقها بعض الذين يَنسبون أنفسهم إلى المذهب الحنبلي. والحديثُ النبوي"إن رَبَّه بَيْنه وبين القِبلة" يَهدم عقيدتهم الفاسدة . فلو كان اللهُ تعالى على العرش بذاته ، فكيفَ يكون سبحانه بين العبد وبين القِبلة ؟! . أضف إلى هذا أن لفظة " بذاته " لم تَرِد في القرآن والسُّنة ولم يتفوَّه بها السلفُ الصالحُ . وهذه لفظة تعني أن اللهَ تعالى محصور في مكان ، وموجود في حيِّز على العرش . وهذا مرفوضٌ نَقلاً وعقلاً .
ومن العقائد الجنونية ، اعتقاد أن اللهَ تعالى يُقعِد رسولَه مُحمَّداً صلى الله عليه وسلم على العَرْش . وهذه الهلْوسة السخيفة لا تستحق أن نُضيِّع الوقتَ في تفنيدها ، فهي عقيدة ساقطة. وقد ذَكَرَ ابن القيم في بدائع الفوائد ( 4/ 841 ) أبياتاً جنونية بهذ المعنى :
(( حديث الشفاعة عن أحمـد إلى أحمد المصطفى مسنــده
وجاء حديث بإقعــــاده على العرش أيضا فلا نجحـده
أَمِرُّوا الحديث على وجهــه ولا تدخلوا فيه ما يُفســده
ولا تُنكِروا أنه قاعــــده ولا تُنكروا أنه يُقعـــده )) !
[7] قال اللهُ تعالى : } كُلُّ شَيء هالِكٌ إِلا وَجْهَهُ { [ القَصَص : 88] .
هذه الآيةُ تردُّ على المجسِّمة الذين يَعتقدون أن لله تعالى جوارح وأعضاء ، لأنها تقول إن كُل شيء هالك إلا وجه الله . ولو كان اللهُ تعالى مُركَّباً من أعضاء وجوارح ، فسوفَ تَهْلك كلها ما عدا الوجه . وهذا لا يقول به عاقل . والمعنى المعتمَد : أن كُلَّ شيء هالك إلا الله تعالى ، فهو الحَيُّ الذي لا يَموت ، كَتبَ الموتَ على الخلائق ، وتفرَّد بالبقاء .
قال الطبري في تفسيره ( 10/ 119 ): (( فقال بعضهم: معناه : كل شيء هالك إلا هو )) .
وقال ابن كثير في تفسيره ( 3/ 533) : (( فعبَّر بالوجه عن الذات )) اهـ .
وقال التميمي في اعتقاد الإمام ابن حنبل ( 1/ 294 ) : (( ومذهب أبي عبدالله أحمد بن حنبل _رضي الله عنه _ أن لله عَزَّ وَجَلَّ وَجهاً لا كالصُّوَر المصوَّرة ، والأعيان المخطَّطة ، بل وجه وَصَفَه بقوله : } كُلُّ شَيء هالِكٌ إِلا وَجْهَهُ { ، ومَن غَيَّر معناه فقد ألحدَ عنه ، وذلك عنده وجه في الحقيقة دون المجاز ، ووجهُ الله باقٍ لا يَبْلى ، وصفةٌ له لا تفنى ، ومَن ادَّعى أن وجهه نفْسه فقد ألحدَ )) اهـ .
ولنا وقفات مع هذا الكلام :
أ ) قَوْلُك " لله عَزَّ وَجَلَّ وَجهاً لا كالصُّوَر المصوَّرة والأعيان المخطَّطة " . هذا الكلامُ مخالفٌ لمنهج السلف والخلف معاً، ومخالفٌ لمنهج الإمام أحمد الذي كان يقول عبارته المشهورة " كما ذَكَرَ لا كما يَخطر كالبشر " . أي إنه يُؤمن بكلام الله على مُراد الله تعالى كما ذَكَرَ في القرآن ، لا كما يَخطر في خيالات الناس وأذهانهم . ومعروفٌ أن منهج السلف الصالح هو إمرار الآية كما جاءت مِن غير تكييف ، ولا تشبيه ، ولا تعطيل . فمن أينَ أَتيتَ بعبارتك " لله عَز وجَل وجهاً ... " ونَسبتها للإمام أحمد ؟! .
ب ) أمَّا قَوْلُك " وذلك عنده وجه في الحقيقة دون المجاز " ، فهذه العِبارة مخالفة لمنهج السلف والخلف معاً ، وضد منهج الإمام أحمد . فالوجهُ على الحقيقة يعني العُضو المعروف . ولَيْتكَ قرأتَ الآيةَ، وآمنتَ بكلام الله تعالى دون زيادة أو نقصان ، كما كان يَفعل الإمام أحمد الذي يَنسب المجسِّمةُ أنفسهم إليه ، وهو منهم بَريء .
ج ) وقَوْلُك " ومَن ادَّعى أن وجهه نفْسه فقد ألحدَ ". فهذه هرطقة تُثير الضحكَ . ووفق هذه العِبارة سيكون نسبة كبيرة من علماء المسلمين عبارة عن ملاحدة . وكلُّ ذَنبهم أنهم ملتزمون بالكتاب والسُّنة ودلالات اللغة العربية . فأيُّ مُسْلم يَعرف اللغةَ العربية يُدرِك أن معنى الآية :
} كُلُّ شَيء هالِكٌ إِلا وَجْهَهُ { ، أن كلَّ شيء هالك إلا الله تعالى. يَفهم الآيةَ على السليقة العربية، حتى وهو لا يَعرف شيئاً عن العلوم الشرعية . وبشكل عام ، فنحن نُنَزِّه الإمام أحمد عن هرطقات مُجسِّمة الحنابلة الذين يَنسبون أنفسهم إليه زُوراً .
[8] قال اللهُ تعالى : } وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْني { [ طه : 39] .
تتضمن الآيةُ معنى العناية والإحسان . أي : إن اللهَ تعالى مُحسِن إليكَ ، ومُحيطكَ بعنايته .
قال ابن الجوزي في زاد المسير ( 5/ 284 ) : (( قال قتادة : لِتُغَذَّى على محبتي وإرادتي . قال أبو عبيدة : على ما أُريد وأُحِب . قال ابن الأنباري : هو من قول العرب غُذِّي فلان على عَيني ، أي على المحبة مني )) اهـ .
وقال ابن كثير في البداية والنهاية ( 1/ 241) : (( قال قتادة وغير واحد من السلف : أي تُطعَم وتُرَفَّه وتُغذَّى بأطيب المآكل ، وتلبس أحسن الملابس بمرأى مني وذلك كله بحفظي )) اهـ .
وهذا هو المعنى المقبول لغوياً . فالقرآنُ نزلَ بلسان العرب . ومن غير المعقول أن يُخاطِب اللهُ تعالى الناسَ بما لا يَفهمونه .
ولا يخفَى أن قتادة من أئمة السلف الصالح . وانظرْ إلى قَوْل ابن كثير " قال قتادة وغير واحد من السلف " ، فهذا يدل على أن التأويل كان معروفاً ومعتمَداً عند السلف الصالح، ولم يكن بدعةً اخترعها الأشاعرة أو الخَلَف _ كما يظن بعضُ الجهَّال _ .
وعلى الجهة الأُخرى ، انظرْ ماذا يَقول ابن القيم في بدائع الفوائد ( 2/ 238 ) : (( قال السهيلي: إذا علمتَ هذا، فاعلم أن العَيْن أُضيفت إلى الباري تعالى كقوله: } وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْني { حقيقةً لا مَجازاً كما توهَّم أكثر الناس ، لأنه صفة في معنى الرؤية والإدراك )) اهـ .
وإليكَ الرد على هذا الكلام :
أ ) عبارة " حقيقة لا مجازاً " تعني أن العَيْن جارحة ، واللهُ تعالى مُنَزَّه عن الجوارح ، فلو كان اللهُ تعالى مُركَّب من الأعضاء والجوارح لكانَ فقيراً إليها ، ومحتاجاً لها ، ولصارَ مُشابِهاً لمخلوقاته العاجزة. واللهُ تعالى غنيٌّ عن كُل شيء، وكلُّ شيء بحاجة إليه . وهو سبحانه } لَيْسَ كَمِثْله شَيء { [الشُّورى:11].
ب ) قَوْلُك أن العَيْن أُضيفت إلى الباري حقيقةً لا مجازاً، لا دليل عليه. وهو مخالفٌ تماماً لمنهج السلف والخَلَف معاً . فمن أينَ اخترعتَ هذه العِبارة ؟! .
ج ) قَوْلُك " لا مَجازاً كما توهَّم أكثر الناس " . فيه تشنيع على علماء المسلمين من السلف والخَلَف الذين فهموا الآيةَ بمعنى العناية والرعاية . وهؤلاء العلماء لَيْسوا من الناس بمعنى العوام ، بل هُم قادة الناس في مجال العِلم .
د ) قَوْلُك " لأنه صفة في معنى الرؤية والإدراك". كلامٌ ساقطٌ فيه تشبيه الله تعالى بمخلوقاته ، فاللهُ تعالى لا يَحتاج عَيْناً لكي يَرى بها ، ولا يَحتاج أُذناً لكي يَسمع بها . فهو سبحانه غنيٌّ عن كل شيء ، مُنَزَّه عن الجوارح والأعضاء التي هي من خصائص المخلوقات العاجزة . فالإنسانُ العاجز لا يَقدر على الرؤية والإدراك بدون عَيْن لأنه مخلوق ناقص عاجز مُركَّب ، ومفتقر إلى الأعضاء والجوارح . أمَّا اللهُ تعالى فهو الخالق العظيم الْمُنَزَّه عن النقص والحاجة . والخالقُ الكاملُ لا يُشبِه المخلوقَ الناقص . } لَيْسَ كَمِثْله شَيء وهو السميع البصير { [الشُّورى:11].
هـ ) وإذا كُنتُ تعتقد أن " العَيْن " في الآية على الحقيقة لا المجاز ، وتقوم بإثباتها كما تتوهَّم . فماذا تقول في قول الله تعالى : } وَاصْنَع الفُلْكَ بأعْيُنِنا { [ هُود : 37]. هل لله تعالى أعين كثيرة كما في الآية ، أَم له عَيْن واحدة كما في الآية : } وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْني { [ طه : 39] ؟! . تعالى اللهُ عمَّا يقول الجاهلون والمجسِّمة عُلُوَّاً كبيراً .
[9] قال اللهُ تعالى : } وَاصْنَع الفُلْكَ بأعْيُنِنا { [ هُود : 37].
والآيةُ تتضمن معنى الحفظ والعناية والرعاية . كما في الآية } وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْني { .
قال القرطبي في تفسيره ( 9/ 28 ) : (( أي بمرأى مِنَّا وحيث نراك . وقال الربيع بن أنس : بحفظنا إياك حفظ مَن يَراك . وقال ابن عباس _ رضي الله عنهما _ : بحراستنا . والمعنى واحد فعبَّر عن الرؤية بالأعين ، لأن الرؤية تكون بها ، ويكون جميع الأعين للعَظَمة لا للتكثير )) اهـ .
[10] قال اللهُ تعالى : } لِمَا خَلقتُ بِيَدَيَّ { [ ص : 75].
هذه الآيةُ تُخبرنا أن الله تعالى قد خَلَقَ آدم r بِيَدَيْه ، وفضَّله على إبليس اللعين . وبالتأكيد ، إن اللهَ تعالى مُنَزَّهٌ عن الجوارح . فلا يمكن حَمْل اليَدَ على الجارحة . وأيضاً لا يمكن حَمْلُها على القوة والقُدرة ، فحينئذ يَبطل تفضيل آدم صلى الله عليه وسلم على إبليس ، ولا يُصبح هناك أفضلية لآدم صلى الله عليه وسلم ، بسبب وقوع الاشتراك بين آدم وإبليس ، فكلاهما مخلوق بقُدرة الله تعالى . ولقالَ إبليس اللعين : وأنا أيضاً خَلقتني بيديكَ كما خَلقتَ آدم ، فلا فضلَ له عليَّ .
وأيضاً، لا يجوز حَمل اليَد على معنى النِّعمة،فالنِّعمُ مخلوقة.ومِن المُحال خَلقُ المخلوق بمخلوق، ففاقدُ الشيء لا يُعطيه. قال القرطبي في تفسيره ( 6/ 224): (( فلم يَبْقَ إلا أن تُحمَل على صفتين تعلقتا بخلق آدم ، تشريفاً له دون خلق إبليس )) اهـ .
لقد أضافَ اللهُ تعالى إلى نَفْسه خلقَ آدم تكريماً له ، وتشريفاً لقَدْره . ومَع أن اللهَ تعالى خالق كُل شيء ، فقد أضاف إلى نَفْسه بعضَ المخلوقات تشريفاً مِثل : بيت الله ، مساجد الله ، ناقة الله .
[11] قال اللهُ تعالى : } وقالت اليهودُ يَدُ اللهِ مَغْلولة { [ المائدة : 64].
وبالطبع ، لم يكن اليهودُ يَقْصدون بهذه العِبارة أن لله تعالى يَداً ( جارحة ) في حالة الانقباض . وإنما كانوا يَقْصدون أن اللهَ تعالى بخيل لا يُنفِق عليهم .
أمَّا سبب نزول الآية ، فعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال : (( قال رَجل من اليهود يقال له النباش بن قيس : إن رَبَّك بخيل لا يُنفِق )) { رواه الطبراني ( 12/ 67) ، وقال الهيثمي في المجمع ( 7/ 81) : (( ورجاله ثقات )) .}. فأنزل الله تعالى : } وقالت اليهودُ يدُ الله مغلولة { الآية .
وقال الطبري في تفسيره ( 4/ 639 ) : (( يعني بذلك : أنهم قالوا : إن الله يَبْخل علينا ويمنعنا فضله ، فلا يفضل كالمغلولة يده الذي لا يَقْدر أن يَبسطها بعطاء ، ولا بذل معروف ، تعالى الله عمَّا قالوا )) اهـ .
وفي تفسير سفيان الثوري ( ص 104 ) : (( } قالت اليهودُ يَدُ اللهِ مَغْلولة { . قالوا : لا يُنفِق شيئاً )) اهـ . ولا يخفَى أن هذا تأويل مِن قِبَل أحد أئمة السلف ، وهو الإمام سفيان الثوري .
وقد رَدَّ اللهُ تعالى على اليهود فقال سبحانه : } بَل يداه مَبْسوطتان { [ المائدة : 64] .
والمعنى الذي يَفْهم العاقلُ هو أن الله تعالى كريم ، وليس بخيلاً . وليس هذا الفَهْم بحاجة إلى تبحُّر في العِلم ، ولا يحتاج إلى معارك متخيَّلة بين السلف والخَلَف .
وقال البيضاوي في تفسيره ( ص 345 ) : (( ثنَّى اليد مبالغة في الرَّد ، ونفي البخل عنه تعالى وإثباتاً لغاية الجود ، فإن غاية ما يبذله السَّخي مِن ماله أن يُعْطِيَه بِيَدَيْه )) اهـ .
وقال ابن تيمية في الجواب الصحيح ( 4/ 413 ) : (( واليهود أرادوا بقولهم : } يد الله مغلولة { أنه بخيل ، فكذَّبهم اللهُ في ذلك ، وبَيَّن أنه جواد لا يَبْخل ، فأخبر أن يَدَيْه مبسوطتان كما قال )) اهـ . وهذا تأويل واضح لليد ، يأتي مِن ابن تيمية إمام الذين يُسَمُّون أنفسهم بالسلفيين .
وفي كتاب فتاوي مهمة لعموم الأُمة لابن باز وابن عثيمين ( ص 11 ) : (( فأثبتَ لنفْسه يدين موصوفتين بالبسط وهو العطاء الواسع فيجب علينا أن نؤمن بأن لله تعالى يدين ثنتين مبسوطتين بالعطاء والنِّعم ، ولكن يجب علينا أن لا نحاول بقلوبنا تصوراً ، ولا بألسنتنا نُطقاً أن نُكيِّف تلك اليدين ، ولا أن نُمثِّلهما بأيدي المخلوقين )) اهـ .
مِن أينَ جاء ابن باز وابن عثيمين بهذا الكلام ؟! . والعجيبُ أنهما يَزعمان أنهما سائران على خُطى السلف الصالح . لقد خالفوا السلفَ والخَلَف معاً ، وخالِفوا إمامَهم ابن تيمية . فلا هُم اعتمدوا منهجَ السلف الذي يُقرِّر إمرارَ الآية كما جاءت مِن غير تكييف، ولا تَشبيه، ولا تعطيل ، وأن قراءتها تفسيرها . ولا هُم اعتمدوا منهج الخَلَف الذي يُؤمِن بالتأويل . فَزَعَما بوجوب الإيمان " بأن لله تعالى يَدَيْن ثنتين مبسوطتين بالعطاء والنِّعم ". فما الدليلُ على قَوْلكم من القرآن والسُّنة ؟. ومَن قال بهذا من السلف الصالح ؟ . إنه كلامٌ بدون دليل شَرعي ، ولا يَصْمد تحت شمس الحق .
[12] قال اللهُ تعالى : } يَدُ اللهِ فَوْقَ أيديهم { [ الفَتْح : 10] .
والمقصودُ : قوةُ اللهِ ونُصرته فوق قوة المؤمنين ونُصرتهم ، أو نِعمة الله عليهم فوق ما قاموا به مِن البَيْعة .
قال الطبري في تفسيره ( 11/ 338 ) : (( وَجْهان من التأويل : أحدهما : يد الله فوق أيديهم عند البيعة لأنهم كانوا يُبايعون الله ببيعتهم نبِيِّه صلى الله عليه وسلم. والآخرة: قوةُ الله فوق قوتهم في نصرة رسوله صلى الله عليه وسلم لأنهم إنما بايعوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على نُصرته على العدو )) اهـ .
وقد اقتبس أحدُ الشعراء معنى الآية ، فقال :
ومَا مِن يَد إلا يَد الله فَوْقَها ولا ظالم إلا سَيُبْلى بظـالم
[13] قال اللهُ تعالى : } أوَلَمْ يَرَوْا أنَّا خَلَقْنا لهم مِمَّا عَمِلت أيدينا أنعاماً { [ يس : 71] .
يُوجِّه اللهُ تعالى عبادَه إلى النظرَ في مخلوقات اللهِ تعالى لمعرفة عَظَمة الله تعالى . فيجب التفكرُ في خَلْق الله ، وعدم التفكر في الله ، لأن العقلَ البشري ناقص وعاجز ، ولا يَقْدر على الوصول إلى حقيقة الله سبحانه ، ولا يَعْرفُ اللهَ إلا الله . وكما قال اللهُ تعالى : ] وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ [ [ الزُّمَر: 67] . فاللهُ تعالى خلقَ للإنسان أنعاماً ، وسخَّرها له ، لكي يَنتفع بها ، وتُعينه على قضاء حوائجه ، وتسهيل أمور معيشته . واللهُ تعالى خلقَ هذه الأنعام ، وعَمِلها دون واسطة ، وبدون مساعدة أحد ، لأنه سبحانه لا شريك له .
قال البيضاوي في تفسيره ( ص 441 ) : (( مما تَوَلَّيْنا إحداثه ولم يَقْدر على إحداثه غيرنا . وذِكْرُ الأيدي وإسناد العمل إليها، استعارة تفيد مبالغة في الاختصاص والتفرُّد بالإحداث )) اهـ .
وقال الحافظ في الفتح ( 13/ 394 ) : (( وقال ابن فورك : قيل : اليد بمعنى الذات ، وهذا يستقيم في مِثل قوله تعالى : } مِمَّا عَمِلت أيدينا { بخلاف قَوْله : } لِمَا خَلقتُ بِيَدَيَّ { ، فإنه سِيق للرد على إبليس ، فلو حُمل على الذات لَمَا اتجه الرَّدُّ . وقال غَيْره : هذا يُساق مساق التمثيل للتقريب ، لأنه عهد أنَّ مَن اعتنى بشيء واهتم به باشره بيدَيْه ، فيُستفاد من ذلك أن العناية بخلق آدم كانت أتم من العناية بخلق غَيْره )) اهـ .
[14] قال اللهُ تعالى على لسان المسيح : } وَلا أَعْلمُ ما في نَفْسِكَ { [ المائدة : 116] .
ويمكن تفسير الآية : لا أَعْلمُ ذاتكَ ، أو لا أَعْلمُ ما في غَيْبكَ ، أو لا أَعْلمُ ما عندكَ .
قال القرطبي في تفسيره ( 6/ 346 ) : (( ولا أَعْلمُ لِمَا في غَيْبكَ )) اهـ .
قال التميمي في اعتقاد الإمام ابن حنبل ( ص 298 ) عن ابن عباس : (( ولا أَعْلمُ ما في نفْسِكَ الملكوتية )) اهـ .
نَسَبَ المؤلفُ هذا الكلام إلى ابن عباس _ رضي الله عنهما _ بدون إسناد . ومعروفٌ أن الإسنادَ من الدِّين ، ولَوْلا الإسناد لقالَ مَن شَاءَ ما شَاءَ . وبالتالي ، فلا دليل على أن هذه العِبارة لابن عباس _ رضي الله عنهما _ . وبالإضافة إلى هذا ، فالعِبارةُ مُخالِفة للكتاب والسُّنة ، فلم يَرِدْ فيهما " النَّفْس الملكوتية " ، ومعلومٌ أننا لا نَصِفُ اللهَ تعالى إلا بما وَصَفَ به ذاته العَلِيَّة ، أو بما وَصَفَه به رسولُه محمد صلى الله عليه وسلم .
وما ذَكَرَه التميمي ، وزَعم أنه عقيدة الإمام أحمد بن حنبل ، مُخالِفٌ للسلف والخَلَف معاً . فعِبارة " نَفْسك الملكوتية " مرفوضة لأنه لا دليل عليها . وهي مُخالِفةٌ لمنهج الإمام أحمد الذي كان يقول : (( كما ذَكَرَ لا كما يَخْطر للبشر )). وللأسف، فإن المؤلف لم يَقْبل بالتفويض ولا بالتأويل، وهذا ما قاده إلى عقيدة لا أساس لها من الصِّحة .
وقَوْلُ الله تعالى على لسان المسيح : } تَعْلمُ ما في نَفْسي وَلا أَعْلمُ ما في نَفْسِكَ { [ المائدة : 116] . يُشير إلى مفهوم المشاكَلة اللغوية ( المقابَلة في الألفاظ ) ، وهذا المفهوم مُعْتَمَد عند عُلماء اللغة . والمعروفُ : تَعْلمُ ما في نفْسي ولا أَعْلم ما عندكَ . فإن الله تعالى لا يُسْتَعْمَل في حقِّه لفظ النَّفْس ، إلا أنها جاءت في هذا السياق القرآني مُشَاكَلةً لِمَا تقدَّم من لفظ النَّفْس .
قال ابن حجة الحموي في خزانة الأدب ( 2/ 252 ) : (( المشاكَلةُ في اللغة هي المماثَلة . والذي تحرَّر في المصطلَح عند علماء هذا الفن أن المشاكَلة هي ذِكْرُ الشيء بغَيْر لفظه ، لوقوعه في صُحبته )) اهـ .
كما في قَوْل الله تعالى : } وَمَكَروا وَمَكَرَ اللهُ { [ آل عِمران : 54] .
ولا يَجوز القول إن اللهَ تعالى ماكرٌ يَمْكر بعباده ، ويُريد إضلالهم . فالمكرُ مِن الله هو استدراج العبد ، وأخذه بَغتةً مِن حَيْثُ لا يَدري . وفي تفسير القرطبي ( 4/ 99) : (( وقال الزجاج : مَكْرُ الله مجازاته على مَكْرهم ، فَسَمَّى الجزاءَ باسم الابتداء )) اهـ . وكما في قَوْل الشاعر :
ألا لا يَجْهَلَن أحدٌ عَلَيْنــا فنجهل فَوْقَ جَهلِ الجاهلينا
وهنا تبرز المشاكَلةُ اللفظيةُ . فالمعروفُ أن التصدي للجهل ليس جَهلاً ، وإنما هو عَيْن الحَزم . كما أن العاقل لا يَفتخر بالجهل . وما وجودُ هذه الألفاظ في كلام الشاعر إلا من باب المشاكَلة .
قال القرطبي في تفسيره ( 1/ 253 ) : (( فَسَمَّى انتصاره جَهلاً ، والجهلُ لا يَفتخر به ذو عقل ، وإنما قاله ليزدوج الكلامُ فيكون أخف على اللسان من المخالَفة بينهما . وكانت العربُ إذا وضعوا لفظاً بإزاء لفظ جواباً له وجزاءً ، ذَكَروه بِمِثل لفظه وإن كان مُخالِفاً له في معناه )) اهـ .
التعليقات (0)