مواضيع اليوم

المبسوط

انور محمد

2009-06-27 20:55:57

0

                            المبـســـوط
ارتفعت درجة أو درجتين ، فانبسطت الأرض تحت قدمى ، فشاهدت مالم أكن أشاهد من قبل ، وعلمت ما لم أكن أعلم ، فقلت لصاحبى ولم يزل فى مكانه : هلا ارتقيت معى لترى ما أراه ، فامتنع وأصر مستكبرا وليته ما فعل ، فلو فعلها لتغير الحال عما هو عليه ، وتبدل الأمر ، وكنا الآن أفضل مما نحن عليه ، وما ضاع الجهد وراء بديهيات لا زلنا نناقشها وندقق النظر فيها .
إن الخلط الواضح بين ما هو غيبى وما هو عقلى هو السبب الحقيقي لما أصاب الساحة الثقافية الإسلامية من نزاع ، والفصل بين ما هو قاعدة ثابتة ، وما هو بمثابة الموقف الفردى التعليمى هو أصل الفساد الضارب فى عقول العامة وكثير من الخاصة على السواء ، والتعميم الذى نراه منتشرا على ألسنة البعض من موقف هنا وهناك لا يثبت حكما ولا يؤصل قاعدة بل يزيد الأمر خلطا وازدواجية ، وتنغلق الأبواب أمامنا فنبحث عن النجاة فلا نجدها إلا فى الخرافات والتفسيرات الغريبة و أحيانا فى الصمت ، فنستجير من الرمضاء بالنار إذا وقعت الكارثة .
ذكرت – فيما ذ كرت – أننا لا نستخدم العقل فى ديننا مع أبنائنا ، ونحاول أن نعتمد على الخرافات فى شرح الدين حتى تعود الأبناء على كثير منها ، فظلت فى عقولهم كأنها من بديهيات الدين وتعاليمه ، فبنينا الدين على خرافة عقلية نبثها للطفل فى صغره إذا سأل عن وجود الله أو عن الجنة والنار أو غير ذلك من غيبيات لا نستطيع نحن أصلا فهما فما بالك بعقل الطفل الذى لا يستوعب الكم الهائل فيما عجز عنه العقلاء ، وإذا حاول الطفل استخدام عقله نقف له بالمرصاد بل لا بأس من ضربه أو من الممكن قتله إذا حاول بعقله أن يسألك عن الله وما يأكل وما يشرب ، سأل أحد الأطفال شيخه لماذا وعد الله المؤمنين بالخمر فى الجنة وهى حرام أصلا ؟ فقال الشيخ : المؤمن الذى لا يشرب الخمر فى الدنيا سيكون ثوابه أنه يشربها فى الجنة ، والذى يشربها فى الدنيا سيحرم منها فى الجنة ، هذا بالإضافة إلا أن خمر الدنيا ليست كخمر الجنة فهناك فرق ، ثم أضاف الشيخ الفصيح : أنت فاكر الأكل الذى تأكله فى بيتك ، مثل الأكل الذى تأكله فى بيت الوزير ولا رئيس الجمهورية لازم يكون فيه فرق .
استمعت لهذه القصة وسط بعض الناس ، وانتظرت لأسمع ما رأيهم فوجدتهم بلا استثناء يهللون ويصفقون على براعة الشيخ العبقرى الذى حل اللغز الرهيب عن الفرق بين خمر الدنيا وخمر الجنة ، وقالوا يا سلام صحيح فيه فرق ، هذا هو العلم ، وراح الجميع يقسم بعبقرية هذا الشيخ ، ومن قال سأرسل له أولادى وأولاد الجيران ليتعلموا على يده ، بل سأذهب أنا وزوجتى أيضا ، وأظنه لم يسأل نفسه قبل اليوم كيف اتعلم الدين أو كيف أعلمه .
سألت نفسي لما ذا استحسنوا رد الشيخ على فداحة تفسيره وسذاجة رأيه ، وإذا كان ذلك قد حدث مع هذا الطفل فلابد أن الغالبية من الأبناء قد تربوا على مثل هذه التفسيرات الغريبة التى تخلط بين الغيب والعقل ، فقلت لنفسى إنهم يفرحون ليس لأن الشيخ على حق ولكن لأنهم يخافون من أن يسألوا أنفسهم هذا السؤال أو يسألهم أبناؤهم مثله ، فتقع الطامة الكبرى ، ويجدون أنفسهم عاجزين عن الرد ، وحتى لو عجزوا عن الرد فسيكون الحل الذهاب لمثل هذا الشيخ العبقرى الفصيح ليفكر لهم بالوكالة ويجيب عنهم ، فهم لا يفكرون ولا يعقلون ، وربما يرون أن الدين أمر لا يستحق التفكير أصلا ، ذلك لأنه لا يستخدم العقل والمنطق ، فليبحثوا عن إجابات جاهزة أفضل لهم ، وإذا لم تعجبهم إجابة شيخهم ، فهناك شيخ آخر أفصح منه ، يحولون التوكيل له ليفكر عوضا عنا وهلم جرا ...
إذا أتعبك طفلك راغبا فى الخروج وكنت مرهقا لا تريد أن تخرج ، ماذا تقول له ؟ تقول : هناك كلب وراء الباب ، إذا خرجنا سيأكلنا هذا الكلب . عندها سيسكت الطفل خوفا ، ولن يفكر فى الخروج ، وربما راح بعيدا عن الباب ، وترك الغرفة كلها ، وانزوى فى ركن بعيد مخافة الكلب المزعوم . هذا ما يفعله بنا كثيرون إذا أردنا الحديث أو التفكير ، وإذا كانت العامة تفضل الصمت وترضخ للواقع وتؤثر السلامة وراحة البال ، فتترك الساحة لمن يريد بسط رأيه وسيطرته ، وهذا حال التاريخ الثقافى على مدار عصوره المختلفة ، فلابد أن تأتى الفرصة للحديث ورفع الغشاوة عن الأعين حتى تصبح كل الأمور مبسوطة على الساحة أمام الناس .
سألنى أحدهم مرة عن قوله تعالى : ( لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ) الآية - الأعراف . فقال لى : معلوم أن العين تبصر والأذن تسمع ، فلماذا هذا الحديث ؟ فقلت إن الحديث هنا للتنبيه على وضع كل شيء فى موضعه الصحيح وقيام كل آلة بوظيفتها الصحيحة حتى تستقيم الأمور ، فلا يصح أن تقوم آله بمهمة آلة أخرى ، أو أن يحل إنسان محل آخر ، أو تقوم قاعدة مكان قاعدة أو منطق فى محل غير محله ، إن الأذن مهمتها السمع فلا يصح أن نستخدمها للفهم ، فنحاول أن نفهم بها ، فهذا عين الخلط ، وهذا هو مرمى المقال ، فنحن اليوم نفكر بآذاننا لا بعقولنا ونعطى عقولنا إجازة لنترك الآخرين يفكرون نيابة عنا ، ونلقى لهم آذاننا فقط ، فهى اليوم آلة التفكير عندنا .
واليوم نضع ونؤسس لنا ولكم هذا الموقع الالكترونى الثقافى ليكون مجالا للتفكير ، وبسط الرأى والرد والنقاش حول كل ما يعين على فهم الأشياء وطبائعها ، وكل ما يدور على الساحة الثقافية العربية ، وساحة لجميع الآراء بحرية تهدف للوصول للفهم الصحيح لا العبث العقلى الذى ملأ الدنيا وشغل الناس ، ولا نزعم أنه ثورة على الوضع الحالى بمجمله فلن نعدم فى هذا الجيل من يقوم بمثل ما نقوم به ، فلتكن دعوة لضم الأصوات الصحيحة معا ، ولكننا نزعم أنه ثورة على كل ما أصابنا من تخلف ورجعية وتراجع ، جعلنا متخلفين عن ريادة الأمم ، ونحن نستحق ذلك ، فلتكن دعوة كذلك لمواجهة الأصوات الجاهلة التى تظن فى صمت العامة تصديقا لما تقوله ، أولئك نقول لهم إن الناس لا تصدقكم فلا تنخدعوا بصمتهم ، وكما قال المتنبى :
         إذا رأيت نيوب الليث بارزة
                               فلا تظنن أن الليث يبتسم
                                       والله من وراء القصد
                                                   
                                                     أنور محمد أنور





التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !