خلف علي الخلف: في ديوانيه الصادرين عن منشورات بابل والمركز الثقافي العربي في سويسرا وحمل الأول عنوان «أختام هجرية» بينما حمل الثاني عنوان «المعنى في الحاشية» يخلص الشاعر العراقي عبدالرحمن الماجدي لنبرته الهادئة وغنائيته التي تلوذ بالذات لاستذكار سيرتها الداخلية من خلال سردها بمصاحبة الجماعة مستعيناً بأدوات شتى كي يظل هذا السرد في منطقة الشعر.
منذ النص الأول في «أختام هجرية» يبدو المخزون الديني الذي ينهل منه الماجدي «تأويلاته» الشعرية واضحاً؛ وإذ جاء النص الأول بعنوان «أناي وليّ» قصيراً وتختمه جملة «ختم العارف» فإن النص الثاني كان عنوانه «حديقة الرحمن» الذي (على حشائش تأويله/ نصبت شؤوني/ وسوّرتها بالفراغ/ وأجلستُ براهيني على أرائك/ حكمته) لتظل المفردة الدينية حاضرة في جميع نصوص المجموعتين بمعناها الصوفي التأملي، الذاتي؛ بل أنه اختار لقصائده تواريخ هجرية لتوافق الروح العامة للنص منذ عنوان الديوان الأول.
انه سارد لمنمنمات يومية صغيرة وحميمة هذا مايمكن للقارئ الخلوص اليه بعد قراءة متأملة للمجموعتين وتتنوع هذه المنمنمات بين أنا يومية شفافة وبسيطة! وبين حضور القضايا الكبرى بدمجها في هذه الأنا؛ وكذلك حضور السخرية اللاذعة لكنها الخافتة؛ والتي بالكاد تجعل عينك ترمش عن ابتسامة وديعة. فالنصوص لا تحتمل حتى ضجيج الضحك. فالعلم الذي ساقهم قطعاناً لخدمته متهم بـ ( قطفت زهرات العمر / على ندرتها/ قشعرت جلودنا بصباحتك البالية/ وخوزقتنا بساريتك/.../ لستَ سوى خرقةٍ/ سراويلُ حبيباتنا أزهى من ألوانها). السخرية الخافتة مبثوثة على مدار الديوانين تغيب وتظهر في كثير من النصوص. ففي « كذبة وطنية « يتوجه سارد النص الى الوطن الذي (أرسلت لنا عام 1975 معلماً قصير القامة/ منتفخ الخدين/ يحثنا من وراء شبابيك نظارته/ لنستذكر فروضك المنتفخة الخدين/ أو تنهار علينا ناطحات شتائمه/ المتكئة على عصيه الوحشية) ويلجأ أحيانا في سخريته هذه الى الرسم الكاريكاتوري ليكتمل المشهد الساخر الذي لا يكون في العادة غاية النص ولا منطقته التأويلية انها أداة من الادوات الشعرية التي يستثمرها الشاعر لأخذ نصه الى منطقة تخصه في التعبير وتركيب النص ففي نص «ضيوف فوق العادة» (كاد الطارق يدخلُ بأنفه العظيم / من عين الباب) لكن ذلك لم يكن غاية النص بل إنه كان يخبرنا عن «زوار الفجر» وليس عن اصدقاء مسالمين لكنهم حشريين. وفي نص آخر يصف المحقق الطويل بأنه (كانت قامته تقصر كلما تفشل أسئلته/ بالاطاحة بي) بل يمضي في سخريته هذه الى منطقة سوداء دامية حين يحدثنا عن اكتشافه لـ مقبرة (على سطح بيتنا في بغداد وجدنا مقبرة/ سكّانها: أبي، وأمي، وأخوتي، وأنا)
ومايمكن ملاحظته في المجموعتين ايضا هو الحضور الكثيف لمفردات الغياب وتفرعاتها وصيغ استخدام الجملة التي تدل على الغائب فهي حافلة بفعل الماضي حتى حينما يتحدث عن الآن فهو ينهل من ذاكرة لا تريد أن تغيب بل ان حاضره مشكلا عبر هذا الماضي الذي ترك وشومه وندوبه على «الآن»؛ فهو يتحدث عن وطن قديم وأماكن سابقة واصدقاء سابقين. ويستخدم في ذلك تقنيات المشافهة في بعض الاحيان. المشافهة غير العاطلة عن الشعر؛ بل أنه يمضي في تأويل شعرية المشافهة بأن «جل الناس شعراء لكنهم عاطلون» (قال الرجل: حباً بالله ايها اللاعبون/ ارحمو الكرة من رفسكم لها/ اسمعوا أناتها!/ قالت المرأة: كلام جارنا يتعثر بالصدق./ قال الطفل: عندما تموت الطيورُ تدفنها الملائكة في السماء./ قالت الأم: في قلبي ثقب لن يلتئم إلا بعناقي لابني البعيد./ قال المصور: بصندوقي الاسود احتفظ بالارض ومن عليها).
في مجمل نصوصه، ومهما تباينت طريقة كتابتها يظهر الشاعر سارداً لحكايته البسيطة يجنح للدمج بين وقائع حياتية عاشها وبين متخيل الشعر انه نوع من الهذيان الواعي لمقاصد الشعر والواعي للتأليف بين ما هو واقعي لا يحتاج لمخيلة القارئ لتدبره وبين ما هو متخيل نحتاج معه أن نقف مليّاً لتدبر الصورة وتجسيدها في الذهن. ذلك يبدو «مثالا» في نص حمل عنوان « مدينتا، بوابة واحدة». ويبدو ذلك في حديثه مع الصفات نحو « العزلة» التي يستدل بها على نفسه وحث شبيهه الى احسان وفادة الندم. انها أحد ركائزه في تركيب الجملة الشعرية في مجموعتيه، تلك الجملة التي تمضي بهدوء شديد نحو المزج بين المحسوس، المدرك، المعاين وبين التركيب الذهني كي تعطي معنى شعرياً، ليس صادما، ولا يتوسل شعريته من المفارقة بل أنه يريد أن يكون شعراً فحسب (نستلُّ من القلب/ إحدى الذكريات / لنجلد بها يومنا) و (دويبة الوقت، لما تزل، تطارد خيول عمره المتعبة». أو جمل من نوع « حين فرغتَ من استعمال اليقين.) إن ذلك لم يكن غائباً عنه وهو يبحث في منطقة الشعر مسائلاً اللغة. فالواقع يقدم سوريالية أحيانا تفوق قدرة المخيلة على ابتكارها أو توقعها فهو يقدم لـ اللغة نص بعنوان «سؤال» (كيف أصف المشهد أيتها اللغة؟/ هل أقول: ركضت جثة الجندي خطواتٍ/ بعد أن قطعت شظيةٌ الرأس/ أم أقول: تدحرج رأس الجندي/ فيما ركضت الجثة خطواتٍ؟/ أم أقول: اختفى الرأس فهربت الجثة/ أين أصبحَ- أمسى- بات صار -...- الجندي؟/ مع الرأس أم مع الجثة؟). في النصوص القصيرة في المجموعتين هناك ميل مفرط نحو الحكمة، ورغم نجاح بعض الجمل في أن تشكل حكمة ما لا تغيب عنها الشعرية، إلا انها تفشل في احيانٍ كثيرة في ذلك وهو ما جعل الشاعر يعجز في بعض الاحيان عن اعطاء هذه النصوص عناوين. في نص عنونه بـ «الخديعة» جاء تحت العنوان أنها (حفرة عجيبة؛ يزداد عمقها/ كلما هدأت معاول الشك) وإذا كان هذا النص نجح في أن يكون ضمن الشعر بـ «حكمته « فان بعض النصوص الاخرى بدت كجمل سائبة لم يرد الشاعر التخلي عنها ولم يشتغلها ما يكفي لتكون نصاً فتركها كما هي دون عناوين حتى!(الليلة أمطرت كذباً، وأنت عارٍ عن الصحة)!. لتبدو مشاريع نصوص لم تكتمل. ولم يقتصر الميل للحكمة في النصوص القصيرة بل تجدها احيانا كجمل نافرة في بعض النصوص الطويلة «نسبياً».
الملاحظة الاخرى التي يمكن التوقف عندها في الجموعتين هي سوء توزيع النص بصرياً دون مراعاة لقواعد التوقف القرائي أو حتى علامات الترقيم ففي كثير من الاحيان يتم الانتقال الى سطر آخر دون أي مبرر قرائي حتى لو كان إعطاء القراءة بعداً سكونياً للتوقف أو المتابعة. وكذلك دون أن تسند هذا علامات الترقيم.
من يعرف الماجدي ويقرأ نصوصه سيجدها شبيهة به، هادئة لا تحفل بالصخب ولكنها تخفي خلفها عمق «بحر أيامه المهجور».
عن جريدة النهار الكويتية 31 مايو أيار 2009
التعليقات (0)