مواضيع اليوم

المؤسسة الدينية أقوى من آل سعود!

 

الذين استبشَروا خيرا، وصفّقوا مُسبقا لانتصار الملك عبد الله بن عبد العزيز بعدما بدا اصرارُه على جعل السلطة الثانية للمؤسسة الدينية في ثنائية العرش مسؤولة فقط عن الجانب الروحي دون استعراض عضلات بدأوا في التراجع، والانحسار، والعودة إلى صفوف اليائسين.
كانت الاشارة واضحة وصريحة من الأمير نايف بن عبد العزيز وزير الداخلية عندما رفض حل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رغم أنها رغبة شعبية عارمة، وهي المحك الرئيس لقدرة آل سعود على تحقيق حلم خادم الحرمين الشريفين في بسط هيمنة أبناء المغفور له المؤسس الأكبر على مُقدرات الدولة كسلطة تنفيذية واحدة لا تشاركها المؤسسة الدينية الحُكم بصورة أو بأخرى.
المؤسسة الدينية لم تعد فقط الممثل الشرعي والوحيد للاسلام، لكنها أصبحت الاسلام كله بأركانه ومبادئه وقدسيته.
إنك لن تستطع أن تفصل رجال المؤسسة عن الوحي، فكل منهم يظن أن لديه بطاقة اعتماد من السماء، وأن الله، تعالى، منحاز إليه في أي جدال أو نقاش أو أمر أو نهي حتى لو اعتدى على حريات الآخرين أو أمسك عصا وهش بها على آخرين ليحثهم على ترك ما في أيديهم والتوجه لأداء الصلاة جماعة، فرجال المؤسسة الدينية لا يثقون أن المسلم السعودي قادر على الاختيار، وأنه بدون العصا على ظهره لن يتوجه للعلي القدير.
كان الأمل معقودا على الرجل الأول القوي الذي يسانده تاريخ مُشَرّف فيه إسلام وعروبة ووطنية ورغبة في الاصلاح وقدرة فائقة على استشراف موعد قدوم الطوفان إن لم يبسط آل سعود، والمستنيرون منهم بوجه خاص، هيمنتهم على الدولة كسلطة تنفيذية واحدة.
القضية الأخطر في المملكة أن رجال المؤسسة الدينية يتحكمون في المواطن السعودي من المهد إلى اللحد، ولكل عمل يقوم به فتوى تحدد مواصفاته، وتَفْصِل حلالَه من حرامِه، وتطرح الرؤية الشرعية فيه كما يراها العلماء السعوديون، وتفسر القرآن الكريم من خلال فهم منقول عن رجال انتهت علاقتهم بعالمنا منذ مئات الأعوام.
إنْ كنتَ مواطنا مسلما سعوديا فليست لديك خيارات كثيرة في حياتك الطويلة أو القصيرة، فملابسك تحددها لك المؤسسة الدينية، ولغتك وقراءاتك وأفكارك وما تسمع أذناك، وما ترغب عيناك في رؤيته.
قيود على حرية الحركة لعواطفك، وأغلال تكبح جماح عقلك إن أراد ممارسة الأمر الالهي العظيم بالتفكر والتدبر لمن شاء أن يؤمن ومن شاء أن يكفر.
تستطيع أن تهرب إلى الصحراء وتقيم مُخيما بعيدا عن المدينة وعن قبضة المؤسسة الدينية، لكن ستأتيك فجأة سيارة ويترجل منها أناس ملتحون يسألونك عن أدق خصوصياتك، ويستفسرون منك عن أداء الصلاة جماعة، ويعتدون على حريتك في أن تفعل ما تشاء ما دمت بعيدا ولم تؤذ أحدا أو تعتدي على حرمات الله.
أنت حر في أن تأكل طعامك ليلا أو نهارا، وحر في التسوق، وحر في الذهاب لعملك أو مدرستك أو جامعتك سيرا على الأقدام أو في سيارتك.
وهناك بعض المسموحات الأخرى، أما أن تكون في الشارع وتسمع الآذان وتقرر اختيار الصلاة مع أهلك وأولادك وزوجتك في البيت لتُعَلّمَهم فهذا لا يجوز شرعا، ورجال المطاوعة قادرون على اجبارك على التوجه طوعا أو كرها إلى أقرب مسجد.
دولة تمثل الثقل الروحي لمليار ونصف المليار مسلم لا تستطيع السلطة التنفيذية فيها وأبناء موحد المملكة أن تقنع الطرف الأقوى في ثنائية العرش بحق المرأة في قيادة سيارتها، وايصال أبنائها وبناتها الصغار لمدارسهم بدلا من تركهم بين يدي سائق هندي أو بنجلاديشي أو عربي محروم جنسيا، ويستطيع في دقيقتين أن ينتهك عفة وبراءة الأطفال.
دين قائم على العقل وحرية الاختيار والتفكر والتدبر تعاد صياغته من جديد ليمثل التحجر والتصخر والقسوة والغلظة ومعاداة العقل مخالفين بذلك تعاليمه وروحه وقوته التي جعلته في يوم من الأيام يقود الدنيا، ويضيء برجاله وعلمائه وتسامحه وقدرة فقهائه على الخوض في كل الأمور والشؤون دون خوف أو وَجَل أو فزع من سوط مؤسسة تفتش الصدور، وتقرأ ما في القلوب، وتبحث وراء الكلمات عن مُحَرّمات لم تخطر على بال صاحبها لبرهة واحدة.
إن الذين يُحَرّمون على المرأة قيادة سيارتها وحماية أبنائها وبناتها مشاركون مع أي سائق يتحرش جنسيا بتلك البراعم البريئة ، بل يرتكبون نفس الاثم والجريمة ولو كان الغباء والحماقة والتشدد والغُلُوّ سببا في تسهيل الاعتداء على الأطفال.
لماذا لا تتفضل المؤسسة الدينية بتبيان الوجه الحقيقي والمشرق للاسلام الحنيف بدلا من تشويه صورته وجعل العالم كله يسخر مِنّا، ويحشد امكانياته لاظهار تلك الصورة المشوهة لخاتمة الديانات السماوية؟
إذا أرادت المؤسسة الدينية أن تتعرف على الاسلام من جديد فهو ليس بعيدا عن أعينها، إنه في حقوق الوافدين وأجورهم والتأمين الصحي وعدد ساعات العمل وأيام العطلات والمساواة بين الناس في كل الحقوق والواجبات.
والاسلام في الابداع الفني والأدبي والعقلي، وحرية الاختيارات الفكرية، ليذهب الزبد جفاء ويبقى ما ينفع الناس.
والاسلام هو القضاء على مشكلة العنوسة، وايجاد حل عادل وسريع لبقاء ملايين المسلمات السعوديات دون زواج وما يعقبه من مشاكل عصبية ونفسية وكبت وحرمان وظلم شديد، والحل هو الاختلاط العفيف والانساني والاجتماعي بغير اخفاء وجه المرأة، لتتعرف على أبناء آدم الذين خلقهم الله شعوبا وقبائل ليتعارفوا، فقد آن الوقت للتعامل مع المواطن السعودي على أنه بلغ سن الرشد، وأنه لم يعد في حاجة للتلويح بالعصا ليعرف واجباته.
والاسلام هو أخذ حق العامل الوافد عنوة من الكفيل الجشع، ووضع عقد اجتماعي مُلزِم، ومنع الكفيل من تفنيش خادمه على أول طائرة.
والاسلام هو حرية تنقل الأيدي العاملة الوافدة، وأن يختار العاملُ كفيلَه بعد تسديد مصروفات جلبه من بلده التي تحمّلّها الكفيلُ الأول.
والاسلام هو المواطَنة، والعَلَم السعودي، والمساواة الكاملة بين كل مقيم على أرض المملكة مهما كانت دياناتهم ومذاهبهم وعقائدهم وطوائفهم ومعابدهم.
والاسلام هو حرية العبادة لغير المسلمين على أرض المملكة، وعدم لَيّ ذراع الحديث النبوي الشريف الذي يقول لا يجتمع في هذه الجزيرة دينان، وهي تعني أن الاسلام سيظل المهيمن على هذا المكان وليس حرمان الآخرين من ممارسة طقوسهم وعباداتهم.
والاسلام ليس فقط مُحَرّمات وخوف وفزع وثعبان أقرع وعذاب في قبر إلى أن يأتي يوم الحساب، وكأني بالمتشددين يَعِزّ عليهم أن يتركوا الموتى في قبورهم حتى يوم الحشر، لكنهم صنعوا فكرة عذاب القبر مخالفين لقول الله تعالى وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا. اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا .
والاسلام هو نظام قضائي عادل تماما، يساوي بين السعوديين والوافدين، ولا يُفَرّق بين المسلم وغير المسلم، ويقف أمامه الأمير والعامل الآسيوي على قدم المساواة.
والاسلام هو انطلاق حرية الابداع وفيه الموسيقى والغناء ليست من المُحَرّمات، ويمكن للطالب أن يدرس ما يشاء من علوم انسانية وفلسفة شرقية او غربية، ويخطيء ويصيب آلاف المرات حتى يبلغ نضجه الفكري والعقلي من جراء تلك التجارب الرائعة للنفس البشرية الضعيفة لتصل إلى الحقيقة.
والاسلام هو المطالبَة بالحقوق والاعتصام والمظاهرات السلمية في حدود المحافظة على ممتلكات الآخرين.
والاسلام هو ممارسة المرأة لحقوقها كاملة غير منقوصة وفي مقدمتها حقها في الانتخاب والترشيح والتوزير وأن يكون لها مكان في مجلس الشورى والمجالس البلدية ولجنة الحوار الوطني.
والاسلام هو المساواة الكاملة بين السُنّة والشيعة في المملكة، فالانسان ليس مسؤولا عن خيارات والديه، وأن لا تزر وازرة وزر أخرى ، ومن سقط من بطن أمه على غير دين الاسلام فليس مسؤولا عن غير خياراته إلا أن يبلغ أشده، ويعرف القراءة والكتابة، ويبحث بعد حيرة ، ويقرأ في مقارنة الأديان، ويصل إلى يقين بالدين الحق وهذا قد يستغرق العمر كله، لذا فإن محاسبة الآخرين على عقائدهم وأفكارهم جريمة مخالفة لعقيدة التسامح في الاسلام الحنيف.
والاسلام هو الخُلُق القويم واللطف مع الآخرين وعدم تكفير الغير والابتعاد عن الغِلظة واحترام الحرية الشخصية ما لم تؤدي إلى الاعتداء على حريات الآخرين.
والاسلام لا يعرف الفتوى الملزِمة ولو اجتمع كل علماء الأمة فإن من حق المسلم أن يحاور، ويجادل بالحق، ويعترض، ويرفض رأياً توصل إليه عشرات الفقهاء.
تلك هي عبقرية الاسلام والهدف الرئيس من أن العلي القدير اختاره ليكون خاتمة الديانات ولن يكون دينٌ بعده حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
إنه العقل الذي يفتح لك أبواب اليقين، فيدخل منه إلى رحابة الاسلام في كل عام مئات العلماء والفلاسفة والمثقفين والمفكرين والأكاديميين ليزداد ثراءُ الدين بهم.
لكنه العقل الذي تجمد عند نقطة الصفر لدى عشرات الملايين من المسلمين فظن أكثرهم أنه مناهض للايمان، وأن استخدامه رفاهية لا قِبَل للضعفاء بها، وأن الأولين تولوا، مشكورين ، مهمة التفكير عنا، فهم أعلم منا بدنيانا، ويحددون لنا الحرام والحلال والتفسيرات القرآنية، فإذا قال أحدهم بأن تفسير اللهو في القرآن الكريم هي الموسيقى والغناء فعلينا أن نُنَحّي العقل جانبا، ونركع للسلف، وننسى أنهم كانوا رجالا يخطئون ويصيبون، ونتناسى أيضا أننا أعرف بزماننا منهم مجتمعين ومنفردين.
بيني وبين مسؤولين في المملكة علاقة طيبة، وعندما أقوم بزيارتها يستقبلني الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض، وهو صديق الاعلاميين، ورجل مستنير، وكان من المفترض أن يكون رسميا ومَلَكيّاً الرجل الثالث بعد الملك وولي العهد.
على الرغم من انتقاداتي لأوضاع داخلية سعودية منطلقا من محبة خاصة.
وعلى الرغم من أنني لم أصنف نفسي يوما واحدا في الجانب المناهض لآل سعود من أبناء المؤسس الأكبر، بل أقف مع الشرعية السعودية للحكم، إلا أنني لازلت منذ أكثر من ربع قرن وهي عمر علاقتي بالمسؤولين في المملكة الصديق الذي لا يروق لهم قلمه.
في المملكة العربية السعودية، إنْ كنتَ إعلاميا، إما أن تكون معهم أو ضدهم. تتفتح لك كل الأبواب لو جاملت، ونافقت، وأغمضت عينيك، وهادنت المؤسسة الدينية ولم تُثِر أيّاً من أفرادها.
أما أنْ تكون صديقا للمملكة، ومنافحا عن نظامها، ومؤيدا لشرعيتها، ثم تُوجه النصح والارشاد وتتحدث عن ممنوعات، وتتجاوز الخطوط الحمراء، وتُغضب المطاوعة، ويتحفظ على كتاباتك رجال دين فقد أصبحت في الجانب المقابل والأقرب إلى الخصوم حتى لو دُعيت لزيارة المملكة مثنى وثلاث ورباع.
طوال ربع قرن وأنا أكتب عن حقوق الوافدين، وعن المرأة، وعن ضرورة قيام الملك نفسه بثورة اصلاحية مستنيرة تتصالح مع الزمن، وتعانق التسامح، وتتخلص من قيود عشرات الآلاف من الفتاوى المكَبِلة للعقل، والقاتلة لمَلَكة التفكير، والمخاصمة للعصر.
كتبت عن طالبان قبل أن يكتشف السعوديون أبواب جهنم التي فتحها على المسلمين التطرف والغلو والتزمت، ولأي مسؤول سعودي أن يعود لكتاباتي في العشرين عاما المنصرمة.

لماذا أكتب هذا الكلام الآن؟
لأن في نفسي حزنا جَمّاً من سلحفائية الحركة الاصلاحية التي أنعشت الأمل في صدورنا عندما تولى الملك عبد الله بن عبد العزيز شؤون الحكم.
وبدأ خطُ التراجع أمام قوة وعصبية وسطوة المؤسسة الدينية، فطلب الملكُ عدمَ نشر صورة المرأة في الصحافة السعودية، ورفض وزير الداخلية حل المطاوعة فهم الذراع القوي الذي يمسك العصا بيد والمصحف الشريف بيد أخرى ليؤكد للسعوديين أن الله يقوم معهم بجولاتهم لقياس درجة إيمان المسلمين.
في نفسي حزن شديد لأن المسؤولين في المملكة لا يعرفون أن خصومها أضعاف أصدقائها، وأن المؤلفة قلوبهم من حملة المباخر والتلميع والتأهيل والتزوير في أوراق الصحافة الداخلية والخارجية يقودون تلك الأرض الطيبة ومركز الروح لمليار ونصف المليار مسلم إلى عين العاصفة، بل إلى طوفان لن يعصم أحدا منه أن يكون واحدا من رؤوس السلطة التنفيذية.
في نفسي حزن شديد لأن الصورة قاتمة، والمشهد المستقبلي لا يبشر بخير، والحلف الثنائي القريب من الكيان الصهيوني والذي يحاول أن يدفع الرياض لتلتصق به لا يريد للسعودية خيرا.
في نفسي حزن عميق لانتصار المؤسسة الدينية بعد عدة عقود من المساواة في ثنائية العرش، ولو بعث الله الملك عبد العزيز آل سعود ليوم أو بعض اليوم ورأى مملكته لضرب على أيدي العابثين والمتشددين وأعاد توحيد الدولة على أسس جديدة يتقدمها الاسلام مع العروبة والقومية والمواطنة السعودية وحركات الاصلاح وجيش سعودي قوي وموحد ومساواة بين كل المقيمين على الأرض المقدسة.
والأمل كبير في أن يهمس الأمير سلمان بن عبد العزيز في أذن الملك بأن الصورة ليست وردية كما تُصَوّرها وسائل الاعلام السعودية، وأن المتربصين كَثُرَ عددهم وعتادهم، وأن شياطين الشرق الأوسط الجديد لن يتركوا المملكة في حال سبيلها بعد انتهاء معركتي طهران ودمشق لتنضما إلى كابول وبغداد.
دَعَوّنا من قبل لثورة جديدة يقوم بها الملك عبد الله بن عبد العزيز، ونُجَدّد الدعوةَ فهل يستجيب أم أنَّ الوقتَ أصبح متأخرا؟

أوسلو في 13 نوفمبر 2006

محمد عبد المجيد

رئيس تحرير مجلة طائر الشمال

أوسلو   النرويج




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات