مواضيع اليوم

المأساة في الحوار الداخلي (المنولوغ) لرواية الاشجار واغتيال مرزوق

عبد الهادي فنجان الساعدي


يقول الشاعر العراقي الفذ مظفر النواب في احدى قصائده "وأنا في صف الجوع الكافر "ولقد اختار الروائي والكاتب المبدع عبد الرحمن منيف في اول اعماله الروائية ان يكون في صف الجوع الكافر.
الرواية تتميز بان فيها عدة محاور او جوانب وقد فضلنا ان نأخذ اشد المحاور مأساوية لغرض دراسته وهو الحوار الداخلي وما يحمله من روح السخرية المأساوية لدى المواطن الذي يعيش في المنطقة المؤشرة على الخارطة "شرق المتوسط" ولا نقول الانسان العربي فقط لأن الاقوام الاخرى اخذت ايضا استحقاقاتها من المأساة مع بعض الزيادة.
يكاد المشهد الاول من القسم الاول ان يكون حوارا داخليا ولكنه حوار يشمل الخاص والعام. اما ملامح المأساة فبادية من هذا المشهد الا انها تشتد كلما اقتربت ساعات السفر.
انها ببساطة قصة شاب يحاول ان يسافر بعد ان فصل من التدريس في الجامعة ليعمل مع بعثه اجنبية كمترجم والمأساة تقع ما بين القوسين. القوس الاول هو المعاناة في الجامعة والفصل من التدريس والقوس الثاني هو الوصول الى خارج الحدود وهنا.. بين هذين القوسين يكون الحوار الداخلي مفجعا ومأساويا.
"بقيت لي بضع ساعات في هذا البلد، وبعدها اغادره.. لن ارجع مرة ثانية..نعم لن ارجع وحتى لو رجعت فلن يكون ذلك قبل عشرين سنة.. سأتلائم مع عملي الجديد. واذا طردت منه سوف اجد عملا آخر. اما اذا لم يلائمني البلد فسوف افتش عن بلد اخر.. المهم ان لا ارجع" ص 17.
كأي مسافر صار خياره ان يترك بلده..
يبدأ بِعَدْ الساعات والحزن باد عليه.. اما هنا فلا يوجد حزن.. توجد فسحة لان يتمم فيها قراره الذي اتخذه منذ امد بعيد بان يترك وطنه.. لقد اختار المنفى دون عودة.. انه اشد القرارات قسوة. كل المسافرين يهونون على انفسهم وعلى احبائهم فترة الغياب. فيقول أنها مجرد سنوات واعود بعدها.. بعد ان احقق هدفي اما هنا.. في حالة منصور عبد السلام فالقرار " لا عودة" وحتى وان كانت عودة فلن تكون قبل عشرين عاما .. والخيارات امامه مفتوحة.. سيتلائم مع عمله الجديد وان طردوه فسيجد عملا آخر.. يقول الشاعر محمد الماغوط في ختام احدى قصائده الرائعة "اه لو يتم تبادل الاوطان كالراقصات في الملهى". فما اهون هذا الوطن وما أهون هذا المواطن. لقد فقد المواطن الولاء لهذا الوطن ولم يستطع هذا الوطن ان يزرع الولاء في نفس هذا المواطن. انها قمة المأساة
حواريات داخلية كثيرة ولكننا نختار منها الاشد مأساوية لكي تظهر ملامح الفاجعة التي خلقها المواطن في موقع السلطة للمواطن خارج السلطة.
"لولا السجائر لا شتعل العالم بالحرائق يجب ان يشعل الانسان شيئا ما، ان يحرق شيئا ما". ص 18.
"قررت مئة مرة الا اكذب ولكن ازاء وضع مثل هذا كيف اتصرف" ص19.
"اذن يمكن للانسان ان يجد عملا، نعم العمل هو الشيء الوحيد الذي يفتش عنه الانسان، يغامر من اجله، حتى لو تعرض للخطر، للموت، البطالة موت من نوع اخر.
لماذا لم افكر بعمل من هذا النوع ؟ ان اصبح مهربا للملابس القديمة؟ اليس عيبا؟ العيب يا منصور ان تكون دون عمل.. شرف الانسان ان يعمل، حتى البغي تعمل لتكسب خبزها، اشرف من الذين لا يعملون" ص 23.
يقول شكسبير في احد مقاطع مسرحية ماكبث "المصائب تأتي زرافات زرافات".
يجب ان يحرق الانسان شيئا ما/ لا بد ان تكذب/ حتى البغي تعمل لتكسب خبزها/ زرافات زرافات من المشاعر والمصائب والعقد التي يولدها وطن يعوزه مواطنان شريفان احدهما في السلطة والاخر خارج السلطة فان فسد احدهما افسد الاخر وخصوصا من بيده السلطة.
لقد عقدونا حتى بدأنا نشعر بحاجتنا الى ان نحرق شيئا ما وان لم نجد فالسجائر هي البديل والا فليحترق كل شيء. ولكن ما الذي يدفعني للكذب. انه مواطن السلطة الذي دفعني الى كره الوطن.. وكيف اكره الوطن.. أليس الوطن في الأحداق .. اليس الوطن في القلب .. الا ان المواطن في السلطة دمر الولاء للوطن في قلبي.. يقول الامام علي (ع) "كاد الفقر ان يكون كفرا" لقد دفعني الى الكفر بالوطن.. يقول الكاتب الكبير صدقي اسماعيل في المقدمة ص 6 "اغتراب عن العمل رمز لاندحار الانسان امام العالم".
ها هي الماساة تتجسد في هذا الاستاذ المفصول من التدريس في الجامعة والمطارد من قبل السلطة.. من قبل المواطن في السلطة. لن يستطيع العمل في أي مكان حتى في الاعمال ذات الطبيعة الخاصة حتى في الشركات الصغيرة. وايضا في الاعمال الحرة هنالك ضوابط وضعها المواطن في السلطة تمنع رب العمل من تشغيل المسرحين من الخدمة لاسباب سياسية... يالكارثة السياسة..السياسة تدمر هذه البلدان .. الا ان المواطن في هذه البلدان مشبع بالسياسة حد التخمة...حد الامتلاء .. حد الاشباع.. حتى ان بعضهم استبدل دمه بالسياسة واصبح ينزف سياسة ويتنفس سياسة ...فكيف لايسرح منصور من العمل وهو يعمل في السياسة خارج السلطة.
الهاجس الاهم في الموضوع هو الوطن والعلاقة بهذا الوطن.. هل هو مجموعة الاناشيد التي نقرأها في الابتدائية كل صباح.. ام هو المارشات العسكرية التي نسمعها في الاذاعة كل يوم.. احدهم قال كيف اسافر وافارق وطني.. اجابه الاخر.. خذ معك السلام الجمهوري ..تكاد التعليقات ان تصل حد المهزلة في العلاقة بين الوطن والمواطن خارج السلطة.. ان المواطن خارج السلطة يتعامل مع الوطن بسخرية مريره ولاذعة خلال "منولوغ" داخلي.. اما المواطن داخل السلطة فهو فنان في صنع الكوارث والمآسي للوطن الذي ائتمن عليه.
"ما هو الوطن؟ الارض؟ التلال الجرداء؟ العيون القاسية التي ينصهر منها الحقد والرصاص وكلمات السخرية؟ الوطن ان يجوع الانسان؟ ان يتيه في الشوارع يبحث عن عمل ووراءه المخبرون" ص 25.
ها هو الوطن.. حفنة من التراب.. وانهار هادرة تستعمل مياهها كما يقول الشاعر الكبير محمد الماغوط "للمضمضة وغسل الاموات".
"اذا وقف القطار في المحطة الاخيرة يجب ان اجبر نفسي على ان أبول هناك". ص 25.
ها هو المواطن خارج السلطة يمارس اخر ما يستطيع عمله للانتقام من الوطن.. ان هذا العمل في عرف المواطن خارج السلطة تمرد ! انتقام ، تصفية حساب.. الا انه في عرف المواطن داخل السلطة جريمة لا يمكن ان تغتفر.. فالوطن هو "الشرف" هو "الكرامة" .. هو السلام الوطني في الصباح عند افتتاح الاذاعة وفي المساء عند ختام البث.. وبين القوسين تكمن المأساة.
يحاول الكاتب ان يضع الحلول لبعض القضايا المهمة. فهو يهدم ص 27 "آه لو امتلك السلطة.. لو امتلكها يوما واحدا لدمرت العالم.." وفي ص 163 يحاول ان يبنيها من جديد على الاسس التي يعتقدها صحيحة "مهمة الاشتراكية ان تساوي بين الريف والمدينة، بين العمل اليدوي والعمل الفكري .. من كل انسان حسب جهده ولكل انسان حسب حاجته.. يجب ان تصدقوا".
اخيرا يعود ليمارس جنون الحوار الداخلي "اذهب لاصلب في سهول مغبرة من اجل لقمة العيش".
"مرة اخرى اصرح بأنني غير موجود.. ميت.. غبت عن الوجود منذ فترة طويلة".
ها هو يصف المواطن خارج السلطة ويعود ليصف المواطن داخل السلطة وهما نوعان: " كم هم مؤدبون رجال الكمارك.. لا تنتهي الجملة على السنتهم كما تنتهي على السنة رجال البوليس يقولون "مثلا" الآخرون يقولون اخرس، ويضربون" ص 169.
لقد استطاع ان يصور ادق التفاصيل للمأساة التي يصنعها المواطن عندما يكون داخل السلطة للمواطن عندما يكون خارج السلطة.
وها هو يضع المأساة في اوضح صورة على شكل سؤالين بصيغة الاستنكار ... لماذا يجوع الانسان في وطنه؟ لماذا يجعلونه يكفر بكل شيء؟!!".




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !