الحراك العربي،خصوصا ببلدان ما يُسمّى بالربيع العربي، غدا اليوم بكل زخمه الضاغط أقرب ما يكون إلى المشهد السريالي الذي يستعصي فكّ رموزه على النخب فما بالك بعامة الناس...اللافت أنّ الجميع –تقريبا - يُدلون بدلوهم في تأجيج اللهب على أنه من استحقاقات الثورة أو في استدعاء الإثارة على أنها ضمانة للوعي الشعبي وتحفيز لقدح الفكر...ذات المشهد يتشكل مشحونا بالتوتّر بمساهمة الجميع بدءا برجال الفكر والدين والسياسة والأعمال وصولا إلى اللصوص والصعاليك والمستضعفين من الفقراء والمحتاجين،فضلا عمّا يُحاك في الخفاء والعلن من القوى الخارجيّة...
أمّا "الربيع العربي" فليس إلا مصطلحا فضفاضا يعزف على أوتاره الساسة والمثقفون وتشتغل عليه وسائل الإعلام لتسويقه أفيونا تتعاطاه الشعوب المستهدفة صخبا واحتقانا وانتشاء وتهريجا فلكلوريا وحتى شطحات صوفية في محاولة منها للبحث عن التخفيف من آلام الذات المعذّبة تخديرا بإرهاصات الحاضر المغاير لماض رتيب بائس بما يشرّع الأمل في قادم أفضل...
الحاضر العربي المتحرّك بأحداثه المتسارعة والمربكة والمشوّقة عُلِّبَ في تلك المصطلحات الثورية لأسباب لئن تباينت الأغراض منها واختلفت أجنداتها إلى حدّ التنافر،فإنّها بدت فعلا إراديا من الشعوب الرافضة لواقعها الرديء لأجل تلمّس مخرجٍ من المأزق الذي كتم أنفاسها لزمن طويل وبالتالي أعاق تحليقها في أفق رحب...
القضية لا تكمن في المصطلحات التي نسوِّق بها هذا "الحراك"بكلّ أبعاده وأبطاله واحتقاناته ،ولا في حتمية حدوثه بعد الرّكود الذي بصم الماضي،إنّما في المآل الذي ينقاد إليه...ذلك،على الأرجح،هو جوهر السؤال لنستجليَ مدى وجاهة ما هو معلّق من آمال على هذا الحراك الزلزال...بعبارة أخرى:هل ثمّة مشروعا يتشكّل للخلاص من لعنة التاريخ التي أذلت العرب قرونا ودفعت بهم قسرا إلى التسكّع خارج مدار إنتاجه ؟... هل يكفي أن ننتج الفعل الثوري اختيارا أو اضطرارا لنؤمّن الانخراط في حركة التاريخ أملا في جني ثمارها ؟...
الواقع يُفصح عن خلط فضيع في المفاهيم وتناسل لأطروحات متنافرة بما لا يساعد على الاعتقاد أن الثورات العربية اهتدت إلى طريق تطلعات شعوبها دون مزيد من إهدار الوقت والتعرّض لانتكاسات قد تكون مدمِّرة...
من خلال قراءة تطوّر الأحداث بكلٍّ من تونس ومصر حيث دخولهما مرحلة الانتقال الديمقراطي بغلبة تيّار الإسلام السياسي الذي بدا كمن يجني جهود نضاله الطويل تنظيرا وتنظيما وانخراطا في الاحتجاج على السائد...وصل الإسلاميون في هذين البلدين إلى سلطة الحكم في لحظة حاسمة وعاتية وناسفة استعر فيها الغضب الشعبي المكبوت وما يزال، وتعالى صراخه ليكشف هول حالة الواقع العربي المأزوم والأمراض والتشوهات والعاهات التي تلحّ في طلب العلاج رغدَ عيشٍ وكرامة وحرية...
وإذ تتحصّن الشعوب العربية بـ"تـُقَاتِها" الملتحين،فهي لا تتوسّل وساطةً في صكّ غفرانٍ يُمهّد لها الطريق إلى جنّة الخلد،فالطريق إليها سالكة بالإرادة الحرة للمسلم دون وسيط...إنّما ذات الشعوب تنشد صكّ رغدِ عيش في هذه الدنيا الفانية التي حرمتها زمنا طويلا وأجيالا متعاقبة من متعها المباحة بالكدّ والجدّ والتفوق الحضاري...
لكن لماذا الثقة،على عجل،في الإسلاميين ؟...
بمنتهى البساطة لأنّه لم يبق غير توسّم الخير في الإسلاميين على أنهم يرمزون لما تبقّى في الوجدان الشعبي نابضا بالحياة بعد أن خاب الأمل في القوميين والعلمانيين والاشتراكيين والليبراليين وما لفّ لفّهم...لَمَّا كان البديل مطلوبا بإلحاح للطمأنة على معالجة القصور في الفعل الحضاري،ولمّا كان ليس ثمّة بدائل أخرى متاحة لاعتمادها أنتجتها البيئة العربية أو هبّت نسماتها من خارجها،فإنّ التحصّن بالخلفية الثقافية في بعدها الإسلامي كانت مبرَّرة أو بدت كذلك...
لكنّ اللافت في هذه الخلفية الثقافية الإسلامية لدى الجماهير العريضة العربية أنها لا تشكو من تشوّهٍ في علاقة المسلم بخالقه،إنّما تشكو غياب القيم التي انبنى عليها الإسلام في تدبُّر الشأن الحياتي والتي هي في جوهرها قيم كونية تجرِّم الكذب والنهب والارتشاء والمحسوبية والظلم والاستبداد والإذلال وتنتصر لإعلاء شأن الإنسان وتحريره من عبودية الأوثان أكانت زعيما أو قدّيسا أو فقيها.أيْ أنّ الأمل كان معلّقا إلى العبور للانخراط في المدنيّة الحديثة عن طريق تلك الخلفية الأخلاقية التي تنهل من الإسلام لا باستحضار أرواح الخلفاء أو الأباطرة الذين حكموا المسلمين وأعلامهم الغابرين ولِحيٍّهم المرسلة أو المشذّبة وخيامهم ونبالهم وكلّ ما له علاقة بنمط عيشهم الذي تجاوزه الزمن بحكم سنة التطوّر في الحياة...ثمّ إنّ الثورات العربية الشعبية التي فجرها الاستبداد والحرمان دون زعامة كان من المفهوم أن تنحاز للوجدان في بعده الثقافي الإسلامي وأن تـُقدَّم هديّة لِما يُؤمَّل أن يتشكّل منه مشروع إسلامي يستجيب لتحديات الحاضر والمستقبل ويقطع مع الوقوع في أخطاء الماضي التي برّرت التقاتل بين المسلمين وأعاقت الاجتهاد وشرّعت الاستبداد باسم الإسلام... ومن ثمّة برز الضغط الشعبي على أنّ المشروع الإسلامي يستدعي حقنه بالديمقراطية وبآلياتها الحديثة المستوردة المتطوّرة أو بالأحرى التسليم بأنّ مقاصد الشريعة الإسلامية في جوهرها تتناغم مع الديمقراطية باعتبار أنّ هذه الأخيرة أداة عملية لتحويل المثل والقيم مثل حرية المعتقد والعدالة والتداول السلمي على السلطة والاختلاف والمساواة في الحقوق والواجبات إلى واقع معيش يُخصب في البيئة العربية الإسلاميّة انخراطا في حضارة العصر وإسهاما في إثرائها...
لكنْ،هل تؤشّر الأحداث الراهنة على أنّ المشروع الإسلامي يسلك طريقه بسلاسة ونجاح ؟...
من التجنّي التسرّع بالادّعاء أنّ المشروع الإسلامي الجديد أجهض جنينا في رحم أمه،لكنّ مؤشراتٍ تفصح عنها الأحداث في تونس كما في مصر تبرّر التخوّف من تعثر هذا المشروع إن لم نقل سلوكه مسلكا فيه الكثير من الارتباك والتخبّط والإيحاء بأنّ القوى المؤتمَنة عليه لا تدري ما تفعل ولا تبرهن عن حذقها لاقتناص الفرصة التاريخيّة النادرة التي أتاحتها لها الجماهير العريضة بما يكفي من رسائل طمأنة للجميع تقوم على أنّ الجميع معنيون بإنجاح المشروع النهضوي الذي لا يُقنع بمجرّد رفعه ليافطة الإسلام إنما باستجابته لتطلعات الناس مسلمين وغير مسلمين في الكرامة والتقدم والتضامن وفي وطن يتسع لكلّ أبنائه قبل التحليق بعيدا في الثواب والعقاب الإلهي الذي هو شأن أرحب من فنون السياسة في تدبّر الشأن الحياتي للشعوب...
في مصر كما في تونس خرج،فجأة وعلى غير انتظار،مارِدٌ من قمقمه يستدعي الإسلام طقوسا لا مشروعَ نهضةٍ،وانقسم الأهل إلى طوائف تتمترس في خنادق مذاهب العقيدة الواحدة شاهرة سلاح التكفير وموزّعة لصكوك الغفران حسب أهوائها أو قناعاتها،والتهب التوتر تغذيه أحقاد دفينة استدعت إرث المسلمين اجتهادا تجاوزه الزمن فضلا عن أنّ الكثير منه كان تبريرا لانحراف السلطة وغطاء لشهواتها الرخيصة وتفكيكا لعرى الوحدة الإسلامية وبالتالي سببا رئيسيا في الجمود والتخلف والقصور عن استيعاب مقتضيات التطور...عوض تدبّر رغيف الخبز للجياع وموطن الرزق للمعطّلين وأسباب التقدم للشعوب،أجبرت هذه الأخيرة على أن تقتات عقيدتها تخديرا وتهريجا وشقاقا ونفاقا ،وكأنّما الإسلام تحوّل إلى ديانات يختلف الناس حولها أكثر مما يتفقون،فنشطت سوق فقهاء الدين والوعاظ والمنافقين والسماسرة،وتحوّل المواطن الغلبان إلى ضحيّة لا يدري هل أنّ الثورات من حقها أن تشرّع نسف ما استكان له في عقيدته من أنّ الله هو الرحمان الرحيم الغفور التواب.. لا يَهبُ مَكرماته بمباركة من قدّيس أو تزكية من إمام ...
في كلّ الحالات المسلم مسلم سواء كان غنيا أو فقيرا،جاهلا أو متعلما ،في بلد متقدّم أو متخلّف،غير أنّ إقناع غير المسلم بعظمة الإسلام لا يكون إلا بتفوق أمته حضاريا،أي علميا وتقنيا وأخلاقيا وسيطرتها على أسباب التفوّق بتحرير عقل المسلم من الفكر الخرافي وشعوذة الدراويش والرضاعة من الأثداء الميّتة.وعليه فالمشروع الإسلامي الذي وجب الترويج له ليس في علاقة العبد بخالقه بقدر ما هو في علاقة المسلم بالإبداع الذي يمكّنه من الانصهار في التحولات التاريخية الكبرى ليكون فاعلا فيها لا مفعولا به،إذ لا أعتقد أنّ الإسلام بحاجة لأمة تعيش على أمل دخول جنّة الآخرة وهي تتوسّل الآخر في دنياها ليتكرّم عليها بعبقرية عقله المبدع وبفتات جهده ومثابرته وإبهاره الحضاري...
التعليقات (0)