المأزق.: قصة قصيرة
بقلم: خليل الفزيع
مطعم الميناء واحد من أهم معالم المحمدية.. مدينة النفط المغربية المطلة على المحيط.. الواقعة في منتصف الطريق بين الرباط والدار البيضاء.. في هذا المطعم يحلو له ولزوجتـه تناول طعام العشاء كلما سنحت الفرصة.. لقد استهواهـما هـذا المطعم المصمم على الطراز الأسباني.. بجوه الرومانسي وأكلاته البحرية اللذيذة، وزبائنه الذين يشكل الأجانب غالبيتهم.
قالت وهي تتصفح قائمة الطعام بعد أن استقرا في أحـد أركان المطعم.. بقرب نافذة مطلة على حديقة مليئـة بشتى أصناف الزهور، وشجيرات البرتقال والزيتون، وأشجار الأَرز العملاقة، وقد أضفت الإضاءة على الحديقة جوا يبعث على الطمأنينة والحبور:
- لم أتصل بأمي منذ أسبوع.. أرجو أن تذكرني بالأمر عندما نعود للفندق.
إنها مشدودة إلى تلك الديار الموسومة بالجفاف والصّهد كما وصفتها يومـا.. تحمل معها أمها واخوتها أينما ذهبت.. هذا الانتماء الطاغي لغيره يزعجه.. كما يزعجها حديثه عن أهله.
لم يصرح لها يوماً بِضِيقه من اهتمامها بأهلها في أوقات يتمنى فيها أن تهتم بـه أكثر.. تأمـل وجهها المشرق.. وجمالها الفريد.. ورقتها المتناهية.. انتبه إلى النادل وهو يقف بمحاذاته مستفسراً عن اختيارهما من الطعام.
حدق في قائمة الطعام.. خيل إليه أن الحروف قد تحولت إلى أرتال من النمل.. تتحرك إلى أطراف القائمة ثم تختفي حتى بدت القائمة خالية من الكتابة.. رماها مذعورا وبحث عن النمل فلم يجده، عندما التقطها مرة أخرى وجد الحروف في أماكنهـا.. داهمتـه الرغبة في الضحك فقاومها.. طلب من النادل التريث لدقائق أخرى. قال:
- أمي.. أمي.. أهلي.. الهاتف (وبعدين)؟.
ولما بدا عليها الاستياء سارع إلى القول:
- طيب.. حاضر وممنون، عندما نعود إلى الفندق سأهاتفها بنفسي.
كانت لا تزال منشغلة بتفحص قائمة الطعام.. مرة أخرى أقبل النادل لتسجيل طلبهما.. أملت عليه اختيارها فقال الزوج:
- وأنا مثلها.. اجعل الطلب لاثنين.
ثم التفت إلى زوجته بعد انصراف النادل وقال:
- لماذا لا تتكلمين.. سيظن الناس أننا مجرد زوجين، كيف لي أن أخبرهم أننا عاشقان.. رمت بهما دروب الحب من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب؟
ابتسمت .. شعر بالفرح يطغى على كل ما حوله.. وبدا سقف المطعم الخشبي بعيداً إلى الأعلى، وقد تطاولت الجدران وتحول لونها إلى الأخضـر، وبدا العشب النابت بين شقوقها أكثر اخضرارا، بينما تحولت أرض المطعم إلى اللون الوردي.
تذكر أنه قبل أيام قليلة أدخلها في نفق القلق غير المبرر.. استاء من تصرفاته التي طالما أزعجتها، ومن كلامه الذي طالما آلمهـا.. تسلل الحـزن إلى نفسه.. لزم الصمت.. إلى أن قالت مستغربة:
- هل فقدت لسانك.. لماذا لا تتكلم؟.
وكأنما انتشلته من قاع الحزن فقال:
- يبدو أنني أزعجك بكلامي.. كلما حاولت كسب رضاك.. يجانبني الصواب، وارتكب الحماقات عن غير قصد.
وكأنما أرادت أن تهوّن عليه فقالت تمازحه:
- ما أحلاك وأنت في هذه الحالة.. تخلع جلباب الغموض، وتتخلى عـن دور القسـوة، فتعـود كما أنت.. طيباً ورقيقاً وواضحاً.
أمسك بيديها وقبلهما وقال :
- أرجوكِ لا تسيئي فهمي.. إنني أحـاول إرضاءك، لكنك حساسة أكثر من اللازم.
- وأنت متهور أكثر من اللازم.
حاول أن يستشف من نبرات صوتها ما إذا كانت تمازحه أم تذكره بأحد عيوبه، لكن صوتها بدا محايداً، فافترض حسن النية.. وهي القاعدة الذهبية التي يتعامل بها مع كـل الناس إلى أن يثبت العكس.. وطالما طرحت آراء لا يتفقان حولها سواء أثناء نقاشهما المباشر، أم من خـلال زاويتها الأسبوعية التي تكتبها في مجلة ( المرأة ) لكنه يعتبر هذا الاختلاف في الرأي علامة صحـة في العلاقة الزوجية، خاصـة وأن هذا الاختلاف ينتهي بالإقنـاع.. لصـالح أحـد الطرفين.. دون حسـاسية أو شعور بالغبن.
سألها بعفوية:
- ماذا تقصـدين بقولك إنني متهور أكثر من اللازم؟
- ألا تعرف ماذا أقصد؟ طبعا أنت لست معي.. منذ جلسنا وهـي تكاد تلتهمك بعيونها.. مؤكد أنك تعرفها.
وشعر كأنما صفعته بكلماتها، تطلع حيث أشارت برأسها.. هنـاك يجلس رجل وامرأة يتطلعان إليهما ويتحدثان بهمس..
- أتقصدين تلك المرأة إنها مع رجل، ولا أظنها تنظر إليّ، بل يخيل لي أنها تنظر إليك أنت.
- لا تتظاهر.. إنها تنظر إليك.. هل تخبرني ما صلتك بها؟ قل لي هل تعرفها؟
كان النادل قد بدأ في جلب الطعام، ورغم رائحته النفاذة.. لم تمتد إليه يده.. لأن المفاجأة شلت تفكيره.
- هل تمزحـين؟
وبان الغضب على محياها:
- أنا لا أمزح.. وأنت دائمـا تحرجني في مثل هذه المواقف.
أراد أن يمتص غضبها فقال ممازحا:
- (مادام معاي القمر.. مالي ومال النجوم).
لم تصغ لما قال.. بل زاد انفعالها، وتفوهت بكلمات قاسية، ثم انخرطت في بكاء صامت.. تطلع إلى من حوله فأدرك أن الجميع مشغولون بأنفسهم.. حاول أن يهدّئ من انفعالها، فلم يزدها ذلك إلا توترا، تعجب لتردي الموقف بهذه السرعة المذهلة.. وزاد عجبه عندما رأى المرأة تترك رفيقها، وتتجه إلى حيث يجلسان وعلى شفتيها ابتسامة جادة.. وتوجس وقوع مالا تحمد عقباه.. سارعت زوجته إلى مسح دموعها واستعادة هيئتها، وكأنما هو الهدوء الذي يسبق العاصفة.. وانهمرت الأسئلة في ذهنه :
ماذا تريد هذه المرأة؟ ماذا سيكون رد فعل زوجته لو دار بينه وبين هذه المرأة أي حديث؟ ما هذه الساعة المشئومة التي قادته إلى هذا المطعم؟ كيف سيعالج الوضع إذا تطور الموقف وهما في مكان عام؟.
المرأة تقترب أكثر.. وقلبه يزداد اضطرابا، وعقله يزداد تشتتاً، وخيل إليه أن أرض المطعم تدور به دون سواه.. اقتربت المرأة أكثر.. ازداد وجيب قلبه.. ولما أصبحت بقربهما.. مدت يدها.. ظنها ستصافحه وهذه بداية الكارثة. لكنها تجاوزته لتصافح زوجته، وتشد على يدها بحرارة وهي تتساءل بفرح طفولي:
- أنت الكاتبة كوثر جابر؟
كان السؤال آخر ما يتوقعه، فزوجته الكاتبة المشهورة في بلدها.. لم يظن أن شهرتها قد وصلت إلى المغرب العربي.. أجابت زوجتـه وقد بدت سحب الغضب تنجلي عن سماواتها:
- نعم.. أنا هي!
- هذا من محاسن الصدف.. اسمي عيشة.. وأنا قارئة معجبـة بكـل ما تكتبين.. خاصة زاويتك في مجلة (المرأة).. حصلت على مؤلفاتك بواسطة أخي.. ذلك الجالس معي، وهـو يعمل في بلدكم.. هل تعلمين شيئاً؟ إنك في الحقيقـة أجمـل (بالزاف) ممـا تبدين في الصورة ( ديالك ) التي تنشر مع مقالاتك.
انفرجت أساريره بابتسامة عريضة، وهو يرى السرور على ملامح زوجتـه.. وتمتم بكلمات غير واضحة.. لكنه أراد أن يقول:
- ألم أقل إنها تنظر إليك أنت؟.
التعليقات (0)