الليبرالية ببعدها الإنساني
كمال غبريال
GMT 3:15:00 2010 الأربعاء 24 نوفمبر
الليبرالية ببعدها الإنساني هي رؤية تطلع إليها الإنسان الباحث عن الحرية منذ قرون، ربما جاز أن نرجعها إلى عصر الثورة الفرنسية، عصر الأنوار والحرية والمساواة، تلك التي انطلقت أنوارها من أوروبا، التي استيقظت وقتها مما بدا وكأنه سبات القرون الوسطى، أو ما قد يعتبره البعض تخليقاً وحملاً ومخاضاً ثم ميلاداً للثورة الثقافية والاجتماعية والصناعية، وما صاحب ذلك وانبثق عنه من مفاهيم وأفكار، نقلت الإنسان أينما كان، من دور المفعول به إلى دور الفاعل، من دور الخانع للقدر وللحاكم وللطبيعة الغلابة من حوله، إلى دور الكائن الفعال سيد مصيره، الذي يتزايد بمرور الوقت دوره كمؤثر على حساب دور المتأثِر.
ما نؤرخ له الآن بالطبع هو تلك الحقبة التي تزايد فيها معدل ذلك الانتقال للإنسان من دور المفعول به إلى دور الفاعل تزايداً كبيراً كماً وكيفاً وبصورة غير مسبوقة، ذلك أن الإنسان في الحقيقة كان قد سار في ذلك الطريق منذ بداياته المبكرة، أي منذ انتقاله من عصر الالتقات، الذي يمكن أن نعده ولو تجاوزاً، خنوعاً كاملاً للكون الجبار الذي وجد نفسه غارقاً في لججه، إلى ما تلاه من عصور اتجه فيها نحو المزيد من امتلاك القدرة على الفعل الإيجابي، بما يعني التحكم في مصيره.
إذا كان يحق لنا أن نسند إلى عصر الأنوار والثورة الفرنسية، فجر الشق الأول من مفهوم "الليبرالية الإنسانية"، أي مفهوم "الليبرالية" باعتبارها تعني الحرية غير المشروطة إلا بحرية كل آخر، فإن الشق الثاني وهو دعوة "الإنسانية"، بمفهومها الواسع بما يمتد ليشمل الإنسان أينما كان على سطح كوكبنا، يصح أن نرجع به إلى محاولات التوحيد الإنسانية الأولى، في عصور الإمبراطوريات العسكرية، بداية من التجارب الفرعونية والأشورية والفارسية، حتى اليونانية والرومانية وما تلاها، رغم المظهر الاستبدادي لتلك البدايات، وما اتسمت به من قهر للإنسان، لحساب هيمنة مفروضة ومفارقة.
فرغم ما قد يبدو على السطح للنظرة المتعجلة من أن تلك المحاولات الإمبراطورية لم يكن وراءها غير طموح الحكام وقوادهم العسكريين للسيطرة والنهب، إلا أننا نعرف أيضاً أن خلف الجيوش الزاحفة للغزو، بل وفي مواجهتها أيضاً، كان هناك نزوعاً إنسانياً للتوحد والانفتاح على الآخر، على الأقل بدافع من الحاجة لتوسيع مجال العلاقات الاقتصادية الآخذة في النمو والتعملق، مع ازدياد قدرة الإنسان على أن يقوم بدور الفاعل في الكون، المواكبة لتعاظم قدرته على امتلاك مقومات حياته.
من الواضح بالطبع أن اصطلاح "الليبرالية الإنسانية" لا يتكون من شقين منفصلين، فمفهوم "الليبرالية" كما نعرفه يجعلها بالضرورة "إنسانية" من حيث المبدأ، بما يعني أن الشق الثاني من المصطلح مستغرق منطقياً في الشق الأول "ليبرالية"، ومع ذلك تبقى الحاجة للشق الثاني، لإعطاء منظور ومنطلق واسع للرؤية، فهذا عين ما يحتاجه شرقنا الكبير، الذي يموج الآن بدعوات الإصلاح والتغيير، ومن وجهة النظر التي نحن بصددها يمكن التعرف في تلك الدعوات على توجه محلي للإصلاح الداخلي، في شبه غياب للاهتمام بالبعد العالمي. . وتوجه محلي أو إقليمي للإصلاح الداخلي بدعوات بطبيعتها معادية للآخر، أو على الأقل متوجسة منه، سواء كانت دعوات دينية أو علمانية قومية ووطنية. . ثم توجه للإصلاح الداخلي كنقطة بداية، تهيئ الشعوب للانفتاح المستقبلي على العالم، كطريق حتمي للتطور والتحديث.
من الواضح أن الاتجاه الأخير هو الأقرب من حيث النتيجة النهائية لما نقصده "بالليبرالية الإنسانية"، مع فارق أساسي يتمثل في التبادل بين نقطتي البداية والنهاية، فهذا التوجه يبدأ من دوائر الانتماء الإنساني الأضيق، ليتطور نحو دوائر أوسع، فيبدأ بالإنسان في دائرة الطائفة مثلاً، ثم الوطن يليه الإقليم، ليصل في النهاية إلى الفضاء العالمي، فيما "الليبرالية الإنسانية" التي نقصدها، تبدأ بالإنسان في أي وكل بقعة على سطح الكوكب، لينساب الاهتمام بعد ذلك إلى الدوائر الأضيق. . الأمر أشبه بدائرة ننتقل فيها من المحيط، لنشمل كل ما بداخلها، وصولاً إلى مركزها. . نقصد بمحيط الدائرة الانتماء للإنسان أينما كان، وتقديس الإنسانية في حد ذاتها، بغض النظر عن كل أنواع الفروق والاختلافات والخلافات بين البشر. . ونقصد بمركز الدائرة الذات الفردية للإنسان، باعتبارها أصل كل حركة يتحركها الفرد سعياً لتحقيق مصالحه واحتياجاته المتنوعة، بدءاً من احتياجاته الأساسية في الغذاء والكساء، وصولاً لاحتياجاته المعنوية للفنون والآداب والتواصل الإنساني مع الآخر، والذي هو صفة مميزة للإنسان عن سائر الكائنات الحية.
لنا أن نتساءل عن جدوى هذه الرؤية، وعن الفرق العملي بين أن تعتنق ليبرالية تجعلك تنفتح على العالم، منطلقاً من ذاتك ودوائر انتمائك الضيقة، لتصل في النهاية إلى الانفتاح على الإنسانية جمعاء، وبين أن تبدأ بالعكس، أي بانتماء عام شامل، لابد وأن يضم كل ماهو إنساني وصولاً إلى الذات الفردية؟
الفارق الأول يتعلق بديناميكية الحركة أو تطور الفكر والتعاطف الإنساني، بافتراض أن التحرك من دوائر الانتماء الأضيق باتجاه الدوائر الأوسع يكون صعباً وبالتالي بطيئاً، ويتهدده العقم أو التجمد أو حتى الانتكاس العكسي في منتصف الطريق. . فالاستغراق في الاهتمام والانتماء لدائرة صغرى يحتاج إلى وقت وجهد وقصدية، ليتطور نحو دائرة أوسع، فنشر الليبرالية لتشمل أفراد وعلاقات طائفة ما، لا يكون من السهل – وإن لم نقل من المستحيل- تطويره ليشمل معها باقي الطوائف في المحيط، وهكذا بالنسبة للانتماء الوطني، وأمامنا نماذج لا تحصى من الانتماء للوطن والعرق، تكون معادية للآخر، كنماذج النازية والفاشية والقومية العربية.، ونموذج الماركسية الداعي لوحدة عمال العالم، في مواجهة باقي الطبقات في المجتمعات. . أما البدء بالتركيز على الإنسان في كل مكان باتساع المعمورة، فإن تطويره باتجاه الداخل، نحو دوائر الانتماء الأضيق، يكون طبيعياً ومنطقياً وسريعاً إلى درجة المباشرة. . الأمر أشبه في الحالة الأولى بدفع الماء من أسفل إلى أعلى، فهو يحتاج إلى جهد قد نفتقده في منتصف الطريق، أما في حالة تفشي "الليبرالية الإنسانية"، فالأمر أشبه بانهمار الماء من أعلى إلى أسفل، إذ يكون تلقائياً ومباشراً بحكم الجاذبية، التي تمثلها في حالتنا هذه جاذبية حب الإنسان لذاته وأهله وذويه.
فمتى استزرعنا في مكان ما من العالم ثقافة تشعر الفرد بأخوته للإنسان المقيم في الأطراف النائية من العالم، فلسنا بحاجة لجهد لدفعه للاهتمام بأهل مدينته أو أبناء طائفته، أو أبناء طوائف دينية أو عرقية أخرى في محيطه، أما الاتجاه العكسي، فهو صعب بحق، خاصة في ظل ما نراه في شرقنا، من سيادة ثقافة بدوية، تعلمنا أن نتحيز وننصر القريب على الغريب، وفقاً للمثل الشعبي: "أنا وأخويا على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب"، ويبدو هنا جلياً ذلك الغياب التام لقيمة الحق وقيمة الإنسان في ذاته!
وفق "الليبرالية الإنسانية" تتسع الصدور والعقول ابتداء لكل البشرية باختلاف أعراقها ومعتقداتها، ليكون من الوارد بعد ذلك، أن نهمش أو نخرج من دائرتنا، من يثبت عدم صلاحية توجهاته للانخراط في تلك المنظومة الإنسانية الجامعة، بعكس حالة البدء من الذات أو الدوائر الضيقة، لننتقي بعد ذلك من نرى صلاحيتهم للالتحاق بدائرة اهتمامنا وتسامحنا. . نستطيع صوغ هذا في عبارة "الجميع أخوة حتى يثبت بعضهم العكس"، في مقابل "لا أخوة إلا لمن يثبت جدارته بها". . هكذا لن نحتاج لكي نتآخى مع الإنسان أن نقيم له محاكم تفتيش تحاكم ضميره ومعتقداته، فالأخوة مبذولة للجميع، حتى يتنكر لها من يرفضها.
طبيعة المرحلة تفرض الفارق الثاني، ونقصد بها تفشي ثقافة هي في هيكلها أو عمودها الفقري معادية للأخر، داخل مختلف الكيانات الجزئية، وطنية وقومية ودينية. . أيضاً الانقسامات الفسيفسائية داخل الكيانات الصغرى، التي تتحول مع الوقت إلى ما لو شظايا تتناثر نتيجة انفجارات داخلية متتالية، فأتباع الدين الواحد يتقاتلون نتيجة انقساماتهم الطائفية، وفي نطاق الوطن تتصادم القوى والتيارات المختلفة. . لنحصد في النهاية تلك المشاهد الدموية في العراق وأفغانستان وفلسطين ولبنان والسودان. . ومن المنطقي بالطبع أن يتفاقم التدهور، فينتشر ما يسببه من أذى، من موطن الفاشية في الشرق الكبير، إلى العواصم والمدن باتساع الشرق والغرب والشمال والجنوب!!
من المهم أيضاً أن نلحظ أن التوجه الليبرالي الإنساني يكتسب أولوية الآن على وجه الخصوص، نظراً لأن العالم كله ينظر إلينا كأعداء للإنسانية، وبداية انتشار ما نحب أن نسميه "الإسلاموفوبيا" بين شعوب الغرب، بالتوازي مع تركز اهتمامات دوله، على البحث في كيفية التعامل معنا، ومحاصرة خلايا وتنظيمات الإرهاب، التي تجد لنفسها من بين شبابنا موارداً بشرية لا تنضب. . وتحاول تلك الدول معنا باللين والدبلوماسية وسياسة الجزرة تارة، وتارة أخرى تلجأ للعصا وصواريخ الكروز، وسواء استقرت تلك الدول على هذا النهج أم ذاك، أم على المزج بينهما، فإن النتيجة واحدة، وهي أننا قد صرنا في مواجهة العالم. . هذه إذن هي قضيتنا الأولى، وبالتالي فلابد أن تكون هي ذاتها نقطة البداية، أي التحول من مواجهة العالم إلى الانخراط فيه، لتأتي من هنا الأهمية القصوى لدعوة "الليبرالية الإنسانية".
الولايات المتحدة- نيوجرسي
التعليقات (0)