ستظل الثورات الشعبية التي هبت على الدول العربية في مطلع 2011 الميلادي مثيرة للجدل الكبير وللنقاش المستمر وستستمر تحليلاتها ودروسها لفترة ليست بالقصيرة , وذلك مع تنامي الشعور العام بالثورة في كل الوطن العربي فمنها التي أفلحت بالفعل في إسقاط الأنظمة ومنها لازالت تحاول جاهدة مع تشابه كبير في ردود أفعال الأنظمة تجاهها .
وكانت نتيجة الاستفتاء في مصر على التعديلات الدستورية مادة للجدل الكبير وللنقاش المتواصل للوصول لأجوبة كثيرة حول دلائله ومؤشراته وتحليل ما ورد فيه من إحصاءات أربكت حسابات الكثير من المراقبين السياسيين والتي وصلت بالنسبة لبعضهم لدرجة الصدمة من هول المفاجأة التي لم يكونوا يتصورونها وفقا لحساباتهم عملا بأبجديات العمل السياسي .
وعند مقارنة النظم الحاكمة للدول العربية التي قامت فيها الثورات نجد أنه من أقوى الأنظمة قمعا ودكتاتورية النظام المصري السابق والذي أُسقط بعد ثمانية عشر يوما من اندلاع الثورة وذلك بإعلان تنحي الرئيس الذي يمثل النظام .
لم يكن النظام المصري هشا يوما ما .. ولم يكن يتخيل أحد من المتظاهرين أنفسهم أن تصل النتيجة بهم إلى إسقاطه حتى بعد تجربة تونس التي سبقتهم لعلمهم وعلم الجميع أن النظام المصري اقوى وأرسخ وأكثر سيطرة من أي نظام آخر ... إن نظاما يمتلك جيشا داخليا يقدر بحوالي نصف مليون جندي يزيدون عن عدد جنود قواتهم المسلحة ، ويمتلك إدارة تسمى بأمن الدولة تسمع وترى وتسجل كل كلمة تدور داخل البلاد وتتنصت على كل المكالمات وتتابع كل الاجتماعات لكل الأفراد في المجتمع ولا تستثنى أحدا حاكما أو محكوما .. ويتدخل في كل تعيين في أي مركز بحيث يضمن الولاء التام والانصياع المطلق من الجميع للوصول للمراكز القيادية ، ويتدخل في خطب الجمعة والدروس الدينية ويملي على الناس ما يجب عليهم قوله وما يمنعهم من الاقتراب منه او المساس به في خطبهم وكلماتهم ... لم يكن هذا النظام هشا حتى تسقطه ثورة شباب أو اعتصام في الميادين .
إن كل هذه التحليلات التي تحدثت عن الثورة وعوامل نجاحها والتي اختزلتها في القدرة التنظيمية للشباب المشاركين والضغط الشعبي والالتحام الوطني والبطئ او الغباء السياسي للنظام فقط تظلم الثورة وتظلم المشاركين فيها إذ تضعهم في مكان غير مكانهم والذي يستحيل عليهم بكل العوامل والأسباب التي استخلصوها لنجاح الثورة يستحيل عليهم بها القضاء على نظام مثل النظام المصري العتيد .
إن هذه الثورة التي أربكت كل دوائر الرصد والتحليل على مستوى العالم وأصابتها بالمفاجأة لا من حيث قيامها ولا من حيث زخمها ولكن من حيث تأثر النظام القوي بها وتصدعه وتهاويه أمام صمود أبنائها وسقوط أركانه المتتالي المتسارع والذي كان مستبعدا جدا لقوة النظام وتمكنه وصموده أمام كل المطالبات السابقة بتغيير بعض الرؤى والأفكار والأحلام السياسية لقائده , وبدوره أصبح التساؤل قائما .. لماذا نجحت الثورة فعلا في إسقاط النظام ؟ .
إن كل الإجابات على السؤال السابق والتي تطرح نفس الأفكار عن موازين القوى والثورة الشعبية وغيرها مفاهيم قاصرة أو بعيدة عن الواقع تماما وقد أودت بالكثير من الليبرالين إلى هذه الصدمة الفكرية التي وقعوا فيها بعد نتيجة الاستفتاء .. إذ أُثبت لديهم أنهم قد وقعوا في خطأ الفهم والتقدير والقراءة السياسية الصحيحة للواقع وللمجتمع المصري واتضح لهم أنهم غرقوا في دائرة الأوهام اللذيذة وأنهم حاصلون لا محالة على أصوات الناخبين وقد قدرها بعضهم ممن يسمون بالمفكرين السياسيين والمحللين الاستراتيجين بأنهم يستطيعون حشد تأييد ما يقارب اثنين وأربعين مليونا من الشعب المصري لقول لا للتعديلات وجعلوا ذلك الاستفتاء مقياسا للقوة والتأثير .
لقد اشتركت عدة قوى مختلفة الاهتمامات والأفكار والتي اتحدت جميعها تحت هدف واحد , فاجتمعت القوة الإعلامية الهائلة الممثلة في القنوات التليفزيونية الليبرالية المملوكة لرجال الأعمال الذين ساهموا بقدر كبير في تمويل الحملة مع القوة الدينية للنصارى والتي تدخلت بقوة في أمر أتباعها بالتصويت وعدم التخلف تحت أي ظرف وانضم اليهم طوائف من حركة الشباب على اختلاف مسمياتهم وحشدوا الشباب الذين كانوا على يقين أنهم قد أسهموا بالجزء الأكبر في نجاح الثورة والذين استخدموا نفس الوسائل التي استخدموها في الإعداد للثورة وهو الانترنت والفيسبوك وانضم إليهم أيضا كل المرشحين الذين أعلنوا ترشيحهم لرئاسة الجمهورية بكل ما يحملون من رصيد أنصارهم لدعم حملاتهم الانتخابية والذي اكتسبوه من الفترات السابقة سواء بالعمل الرسمي في الدولة أو بالعمل الشعبي وانضم اليهم قطاعات كبيرة من الفنانين والممثلين والإعلاميين الذين اشتركوا في الثورة وأصبح لديهم مصداقية كبيرة لدى الشعب المصري وكان من الضروري أن ينضم إليهم صوت اسلامي - أو هكذا يعرف نفسه – فانضم اليهم اعلامي اسلامي معروف بالتحامه بالشباب وانشائه لأكثر من منظمة للعمل الشبابي المقرون باسم الدين وأصبح له تأثير كبير في قطاعات الشباب ... وظن هذا التحالف الغريب - الذي يجمع طوائف ستتناحر حتما بعد هذا اليوم - ظنوا جميعا أنهم قادرون على تغيير الخريطة السياسية في مصر وإذا بالنتيجة الصادمة إذ لم يحصل كل هؤلاء إلا على ما يوازي خمس عدد الأصوات التي حضرت للاستفتاء
وهذه النتيجة الصادمة أعادت إلى الجميع نفس السؤال .. إذا كان كل هذا الحشد الغريب والتحالف الغير متجانس ظاهريا لم يستطع الوصول والحصول إلا على هذه النسبة .. من الذي أسقط النظام القوي المستبد حقيقة ؟ .
وهل تكون جماعة الإخوان المسلمين هي التي أسقطت النظام ؟ وهل تملك من القدرة وحدها أو بالإشتراك مع الإسلاميين على إسقاط هذا النظام القوي الذي لم ينل أحد من ضرباته مثلما نال الاسلاميون بوجه عام والأخوان بوجه خاص بضربات متتالية على مدى ستين عاما منذ إنقلاب يوليو 1952 .. لقد أعلن الإخوان في بداية ثورة يناير بحسب المتحدث باسمهم أنهم لن يشاركوا فيها ثم شاركوا فيها بكل قوتهم ودعموها بكل ما يملكون من أفراد وإعلام ومساندة تنظيمية .. ولكن هل يمكن أن ينسب إليهم نجاح الثورة وإسقاط النظام وخاصة أن كل تحركاتهم واجتماعاتهم ونشراتهم ودورياتهم وأعمالهم يُخصص لها فرع كامل من فروع أمن الدولة يختص بهم ويرصد كل شئ عنهم ؟
وهل يكون ما يسمى بفلول الحزب الوطني وهو الفصيل الثاني من المحسوبين على القائلين بنعم هو الذي أسقط النظام ؟! وهذا سؤال جدلي فقط لأن الحزب الوطني هو النظام فهل يُسقط النظام نفسه ؟! .
إذن من الذي أسقط النظام القوي المستبد الذي ظن نفسه قادرا على كل شئ ؟
وبعد رصد كل القوى المؤثرة على الساحة نجدها كلها مجتمعة لا يمكنها أن تهز عرش النظام فضلا عن إسقاطه .
ولن يكون لنا إلا إجابة واحدة منطقية يُحل بها هذا اللغز الكبير وهي أن الله وحده أسقط النظام ..فكل الجهود البشرية مجتمعة لم يكن لها أبدا أن تسقط هذا النظام الممتماسك ولا أن تحرك فيه شعرة .
لقد تمادى الحزب الوطني وقائده وابنه وأعوانه وجنوده في محاربة الله سبحانه .. حاربوا كل فضيلة وأعانوا على كل رذيلة .. سرقوا البلاد وسهلوا السرقة لأفراده .. ظلموا الناس وأعانوا على ظلمهم .. أفسدوا كل خير في البلاد وأظهروا كل شر " إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين " " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجلعهم الوارثين " .. ولقد ذكر من خرج من سلخانات التعذيب في أمن الدولة كيف كانوا يمزقون المصاحف ويأمرون المعذبين بأن يطوفوا حول شجرة ويقولوا لبيك اللهم لبيك وكان بعضهم يأمر السجناء بان يسجدوا لصورة حسني مبارك وغير ذلك من الممارسات التي لا تحمل إلا استهزاء بدين الله وبقدرة الله بل استهزاء بالله سبحانه .
إن التحليل السياسي بكل المفاهيم السياسية الأرضية لا ينبغي أن يجعلنا نخجل من هذا الطرح أو أن نستبعده من طرحنا وأفكارنا لأننا مسلمون ولا ينبغي عند تحليلنا السياسي أن ننسى أو نتناسى أن الكون كله لله ليس له رب سواه له الخلق وله الأمر " إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين " .
الله سبحانه وحده أسقط هذا النظام وأخذ أركانه وأذلهم حين تصوروا أنهم ملكوا الأرض بمن فيها وظنوا أنهم قادرون عليها فأتاها أمر الله " وكذلك أخذ ربك القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد "
إن أي ثورة في أي دولة الآن تملك ما يملكه الشعب المصري وينبغي إن أرادت نجاحا وتوفيقا أن تحسن الصلة بمسبب الأسباب سبحانه لا أن تثق بقدرتها وتنظيمها وبنيانها فقط بل عليها قبل ذلك وبعده أن تثق في الله وأن تحسن الظن به وأن تُساند بالدعاء الخالص المبتهل إلى الله سبحانه أن يخلصها من ظالميها وأن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر .
ينبغي أن يتغير التناول لدى السياسيين الإسلاميين ومحلليهم ويدخل في مصطلحاتهم وجود قوة مؤثرة في العمل السياسي كغيره وهي قوة غالبة قاهرة لها معطياتها وأسبابها ونتائجها وينبغي أن لا يضيع هذا المفهوم عن أذهانهم عند تناولهم لكل قول أو فعل أو تصور .. وما أجمل هذه اللغة عند الخطاب السياسي لرجل على هرم السلطة في دولة كانت يوما ما عاصمة الخلافة وهو ينصح مبارك بصوت سياسي لا يخلو من مفردات هذا الخطاب المنشود " إن على الرئيس المصري حسني مبارك الإصغاء لمطالب شعبه " ثم اختتم نصيحته بقوله " نحن كمسلمين سنوضع في حفرة مساحتها لا تزيد على مترين مكعبين " فهل لا يفقه اردوغان المفردات السياسية أم ينقصه الوعي السياسي ؟
التعليقات (0)