لا شك أن السخط هو الذي يسري في دخائل كل نفس، ويهدر في مدارج كل حس، حينما نبصر في جميع أرجاء مدينة القنيطرة مُكرهين ونحن نسعى وراء الرزق الشرود مواطنين في شرخ الشباب يتسابقون كل عشية وكل فجر على حاويات القمامة سعيا وراء ضمان لقمة عيش مرة له ولذويه لأن كل أبواب العمل قُفلت في وجوههم، ولأنهم أصحاب كرامة وأنفة رفضوا مد اليد أو الخروج عن القانون أو النصب على إخوانهم المواطنين . هذه الصورة النمطية التي أضحت متفشية في حواشي المدن، وأقاريز الطرقات، تستدعي الدهشة، وتستوجب الوقوف، فمثل هذه الصور التي يجاهد من اشتبه عليهم الحق، والتبس عليهم الصواب، توضح بجلاء كنه المجتمع الذي ذوى عوده، وخواء عموده، وأضحى صريع حضارة بالية سقتنا العلقم تلو العلقم مع مرور الوقت.
أنا هنا لا أريد أن أذيع في الناس رأياً، أو أنشر فيهم كلاماً، لا يمت للواقع بصلة، أو يصل إليه بسبب، لا أريد أن أنثر تشاؤم أبو العلاء المعري، أو أرسم لوحة موشاة بالقبح والدمامة، وتنضح بالمبالغة والتهويل واليأس، في حق مجتمع تقوضت فيه أركان الفضيلة والتضامن الاجتماعي، وتداعت قواعد الأخلاق، ونضب معينها أو كاد، نظرة سريعة على الواقع المعيش ، تؤكد أن شرائح عديدة من هذا المجتمع قد أمست تعاني بلبلة واضحة في القيم، واضطراب في الموروثات، وتفكك في النظم، نعم لقد تكلست الرؤى، وازدوجت المعايير، وضاقت المفاهيم في ازدادت شروط العيش سوءا وتدمرا.
في واقع الأمر إن ظاهرة "مواطني الزبالة" ما هي إلا نتاج لتراكمات ولنهج تدبير مازال قائما في جوهره.
في ظل هذا الواقع الذي أضحى يدعو إلى القلق الكبير ما زلنا نسمع الحديث أن المغرب يسعى إلى إعداد استراتيجية تشغيل شاملة للشباب كجزء من الجهود الخاصة بالاستجابة لمطالب الشباب. في حين أن مختلف السياسات المعلن عنها والمكرسة فعلا على أرض الواقع تناقض هذا السعي المزعوم.
لقد قيل أنه تم إشراك شباب المغرب في وضع استراتيجية وطنية للشباب يستفيد منها الجيل الصاعد، لكن لا يمر يوم دون أن تنهال هروات قوات القمع على ظهور الشباب المطالبين بحقوقهم أمام برلمان الأمة، وتتناوب الفئات على الاعتصام بجوار هذه المؤسسة للمطالبة بإنصافهم ورفع الجور والظلم اللذين لحقا بها .
نعاين هذا في وقت يُقال فيه أن القائمين على الأمور قد سمعوا للشباب واقتراحاتهم وانتظاراتهم في التشغيل والتعليم والصحة والمشاكل الاجتماعية والترفيه والثقافة والدين والمواطنة والحوار بين الأجيال، لكن دار لقمان مازالت على حالها في منظور الشباب إن لم تكن ازدادت سوءا.
هذا، ولازال لحد الآن بعض القائمين على أمورنا يعلنون أنهم يعملون على تطوير استراتيجية متكاملة قادرة على الوفاء بالاحتياجات والتطلعات المتغيرة للشباب دون أن يظهر لهذا كلام علامة ظاهرة على أرض الواقع.
فما زالنا نتخبط في المشاكل الاجتماعية والاقتصادية المزمنة، ومازالت بلادنا تخسر أكثر من 30 مليار درهم (3000 مليار سنتيم) في قضايا الفساد المالي، وأن أكثر من 6 ملايين شخص يعتبرون فقراء طبقا للتصنيفات الدولية ويقل دخل هؤلاء عن دولار واحد (8 دراهم) في اليوم، يعيش أغلبهم في البوادي، كما أن نسبة هائلة من سكان العالم القروي بعيدين بعد السماء عن الأرض من الخدمات الاجتماعية الأساسية من قبيل الماء الصالح للشرب والتيار الكهربائي والمؤسسات التعليمية والرياضية ناهيك عن الترفيه، فإنه لا يوجد في قاموسهم إطلاقا، وأكثر من 27 من المائة من سكان البوادي يعيشون فقرا مدقعا، ويتكبدون يوميا مأساة اللهث وراء كسرة خبر وشربة ماء .
ومازال في بلادنا أكثر من 23 في المائة من الأطفال الرضع والذين لا يتجاوزون سن الخامسة يعانون من سوء التغذية أضحى مقلقا بالرغم من الخطابات الوردية للقائمين على الأمور بهذا الخصوص.
وانتشرت، بشكل ملفت للنظر أكثر من أي وقت مضى، بين ظهرانينا ظواهر اجتماعية مقلقة جدا كظاهرة أطفال الشوارع، إذ فاق عدد أطفال الشوارع سنة 400000طفل مشرد، وهو الرقم المسجل سنة 2001، وأكثر من 140000 معطل عن العمل خريجي التعليم العالي، واستمرار تسجيل63 في المائة نسبة الأمية بالمغرب علما أن الرقم يخص الأمية التقليدية ، علما أن مفهوم الأمية تغير اليوم، وإن أردنا تطبيقه على بلادنا فقد تتجاوز النسبة 75 في المائة. وينتشر في كافة المدن، بشكل مقزز، الانحلال الأخلاقي وتجارة الجسد ومختلف أنواع الدعارة وصناعة الجنس التي أضحت "توظف" آلاف من المومسات ومن الشواذ .
هطه بعض معالم تردي الوضعية الاجتماعية لأغلب فئات الشعب المغربي، هذا ناهيك عن استمرار تحملها لانعكاسات وتابعات ما يناهز 50 سنة من النهب الممنهج للثروات الوطنية، مازلنا نؤدي الثمن باهضا للأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحادة التي نتجت عن هذا المسار.
ولازلنا نعاين سيادة العشوائية في تسيير الشأن العام، والتي جعلت بلادنا تحتل المراتب الأخيرة بين الدول، سواء في مجال الرعاية الاجتماعية أومستوى التعليم أو الخدمات الصحية والطبية. ومازالت قوات الأمن تقوم بالإجهاز على المحتجين بهمجية تكذب كل خطابات الحكومة الرنانة بخصوص احترام حقوق الإنسان ودولة الحق والقانون، ولا أدل على ذلك آخر تصريح هاتفي لقناة الجزيرة على لسان الناطق الرسمي للحكومة، مصطفى الخلفي، حيث قال أن الحكومة لا تصدر أمر أي تدخل قمعي، فمن يصدره إذن؟ وإن كان الأمر كذلك، فهل دورها في هذا المجال ينحصر في التفرج على كسر جماجم وعظام المعطلين المعتصمين المطالبين بمكان تحت شمسهم، أو محتجين على سوء الأوضاع ولمناهضة الفساد أو المطالبة بديمقراطية حقيقية.
ومهما كل ما يقال عن التقدم الذي سجلته بلادنا، مازالت الممارسة السياسة في المغرب تقتضي – أراد من أراد وكره من كره - أن يكون السياسي طبالا وغياطا لجوهر السياسة القائمة والتي يطبخ خارج الحكومة – إن في المجال السياسي والاقتصادي – حتى لو كان الأمر يؤدي إلى التخلي عن آمال وطموحات الشعب.
فإذا كان الاختلاف السياسي عموما في الدول الديمقراطية يولد التناوب على السلطة، كما يسعى إلى احترام خيارات الشعب، ويقوي النزاهة في تسيير الشأن العام. يبدو أن الاختلاف السياسي عندنا مازال يولد الإقصاء والاستئصال وتقسيم الكعكة على مقاس الخارطة السياسية المعدة مسبقا، ويكرس استمرار مصادرة جملة من اختيارات الشعب وقمع الأصوات التي بالرأي الآخر. أفلا يكفي ما تكبده الشعب في نضاله المستميت من أجل العيش الكريم وتحقيق الكرامة، ومن أجل مغرب حر يسع لجميع أبناءه.
التعليقات (0)