اللغة والحداثة البصرية
"الحداثة مشروع غير مكتمل"
هابرماس
لقد أصبحت الحداثة الإنسانية المعاصرة حداثة للصورة، فالصورة (Image)اليوم بكل تمفصلاتها وتجلياتها تطارد الإنسان الحديث في حله وترحاله، فهي تفتح عليه باب منزله دون استئذان عن طريق التلفاز والإنترنيت وغيرهما، كما تقضه في عمله وفي جميع مناحي حياته المخصوصة والعامة، لذلك أصبح لا مندوحة له من التدبير الفاعل في التعامل معها، حتى يستطيع الاستفادة منها وتطويعها لصالحه دونما ترك مجال لها لاستعباده، لذلك يفترض في الإنسان العربي اليوم قبل أي وقت مضى التسلح بثقافة بصرية(culture visuelle)، تمكنه من التعامل السيميائي الفاعل مع الصورة في جميع تجلياتها، بدءا بالصورة الفوتوغرافية(image photographique) وانتهاء بالصورة الإشهارية.
إن الصورة الإشهارية(Image publicitaire)، على سبيل المثال، لا تقدم لنا منتَجا(Produit) لاستثارة فعل الشراء لدى متلقي الوصلة الإشهارية (Spot publicitaire)أو المخاطب الحقيقي للمشهِر(pubiciteur)، بل تدفع بمجموعة من القيم الإيديولوجية التي تمرر بشكل سلس، من دون أن يحس المشاهد العادي بذلك؛ حيث يتفاعل معها بوجدانه وحسب، لأن من مهمات الصورة الإشهارية الأساس تعطيل الفعل الذهني العقلي لدى المتلقي، وإطلاق العنان للخيال والوجدان، مما يجعل هذا المتلقي ضعيفا وسلبيا غير فاعل في العملية الإشهارية، بل منفعلا.
لهذه الأسباب وغيرها ظلت الصورة مثار نقاش وجدال دائمين، لما لها من خطر على تشكيل الذهنيات، وكسر الحدود وتنميط السلوكيات والمعتقدات، وتطبيع الرؤية إلى العالم والأشياء لدى المجموعات البشرية المتعددة فكرا وسلوكا وممارسة وثقافة(بالمعنى الأنتروبولوجي لمفهوم الثقافة).
إن المقصود بالثقافة البصرية هو امتلاك الميكانزمات التي تشتغل وفقها الصورة من الناحية السيميائية(Sémiotique)، ولا يتم هذا طبعا إلا بالاشتغال الدائم على البحث في كيفيات تدليل الصورة (signification de l’image)وإيحائيتها التي لا تنتهي، فالصورة ليست معطى جاهزا بريئا، بل هي حمالة أوجه ومائعة المعنى(Polysémie)، بإمكانها أن تقول في لحظة ما تعجز ألاف الألفاظ عن البوح به.
ولعل هذا ما جعل حضارتنا اليوم في مواجهه دائمة مع سلبيات الصورة وإيجابياتها، والعاقل منا من استطاع تنمية حسه النقدي أثناء التفاعل مع الصورة، وذلك باكتساب ثقافة بصرية تعد حصنا منيعا، يجنبه سطوتها ويقيه شرها، كما أن هذا الحصن نفسه بإمكانه أن يجعله يطوعها ويهذبها لصالحه، وليس ذلك بعزيز إذا ما اهتدت مدارسنا في وطننا العربي الإسلامي إلى تحسين مناهجها التعليمية في ضوء هذا التطور الحضاري المبني على ثقافة الصورة، وذلك بإدماج الثقافة البصرية ضمن مقرراتها ونظمها، استنادا إلى تكوينات وتدريبات مستمرة في الموضوع، تجعل المدرسين قادرين على نقل هذه الثقافة البصرية إلى المتعلمين.
1. ما ثقافة الصورة؟
إن الثقافة في المنظور الأنتروبولوجي تعني كل ما يكتسبه الإنسان من دين وعادات وتقاليد وأعراف وأنماط في العيش، من خلال تفاعله الدائم مع المحيط الخارجي الذي يقوم على التنشئة الاجتماعية(Socialisation) المتعددة؛ بدءا بالأسرة وانتهاء بالمدرسة. وقد ألفينا اليوم حضورا للصورة في هذه التنشئة المتعددة، بل إن الصورة البصرية تغير من أنماط العيش وتكسر الحدود بين الثقافات، مما خلق ثقافة شبه متواطأ عليها نَسِمها بـ: "ثقافة الصورة"، أي مدى الأهمية التي أصبحت منوطة بالصورة البصرية في التواصل بين البشر، وفي تسجيل نشاطاتهم بكل تمفصلاتها(Articulation)، حيث صار الإنسان المعاصر في الغالب عبدا للصورة وكَلٌ عليها، أينما توجهه يسير في هجيراها وديدنها، فإن كان الإنسان هو مبدع الصور، إلا أن هذا الإبداع نفسه يتحول إلى قهر وسلطة.
وإذا كانت اللغة ديوانا للإنسان سالفا، من خلالها يحتفظ بتاريخه وحضارته، فإنه اليوم أصبح مدينا في ذلك للصورة البصرية، حيث انتقلنا بفعلها من الثقافة الشفاهية والثقافة المكتوبة إلى الثقافة المرئية التي تستعيد كل شيء بالصورة وتحينه دوما، وقد ساهم في ذلك التقدم التقني في وسائل الاتصال للحداثة(Modernité) المعاصرة، فالصورة مافتئت تشغل كل مناحي الحياة الإنسانية فكرا وسلوكا وقيما.
أصبحت الصورة تراود الإنسان، فحيثما توجه فثمة صورة في وعيه ولا وعيه، من خلال تعدد الوسائط (Media)التي أصبحت تقوم عليها بدءا بالتلفاز والصور الفوتوغرافية والأنترنيت وغيرها، إلا أن الصورة وإن كانت مكملا، فإنها تستثير الوجدان أكثر من العقل، لأنها تعطل الجانب الأيسر من الدماغ لصالح الأيمن منه، وتحافظ على مسافة كبيرة بين ما يعود إلى الخيال والعاطفة، وبين ما يعود إلى المنطق والعقل، وهي بطبيعتها تلك لا يمكنها أن تستقل عن اللغة في التواصل الفعال(Communication active).
إن اللغة هي الكاشفة الوحيدة عن أسرار الصورة، والمبينة عن غنجها وتدللها، كما أن بفعل اللغة يتمكن الإنسان من الحد من سطوة الصورة البصرية، وبفضل اللغة دائما يستطيع فك شفراتها. كما أن الصورة، وهذا مربط الفرس، عاجزة عن التدليل والقذف بالمعنى من دون حضور السنن اللساني(Code linguistique) الذي يرافق أي صورة بصرية كيفما كانت، وإلا لأصبحت من دونه عاجزة عن الوصول إلى ذهن المتلقي، لذلك كان حضور السنن اللساني مع الصورة أمرا ضروريا في تواصل نريده أن يكون فعالا.
لا تستطيع الصورة رغم هولها أن تستقل بذاتها في التواصل الفعال، بعكس اللغة التي يمكنها أن تصل إلى المتلقي من دون عماد(Support) أو وسيط آخر. من هنا ترقى اللغة على الصورة في التواصل، مهما بدا لنا ظاهريا أننا في زمن الصورة وليس زمن اللغة، ومهما جلا أن عصر الصورة، كما يدعى، يوحي بعكس ذلك؛ فنحن بالأحرى لا زلنا رغم أنف الصورة البصرية بكل جلالها أمام حضارة اللغة وسوف نبقى كذلك.
2. اللغة وأساليب التواصل المتعددة
لقد ثورت الحداثة المعاصرة أساليب التواصل وعددت من تجلياتها، والتواصل مبني على أن يملك المتحاورون المتخاطبون على الأقل قدرا من الرصيد اللغوي المشترك، وأن يتعلقوا بتراث ثقافي يستمدون منه بعض العناصر للتواصل، فاللغة تقوم وظيفيا على خلق التفاهم وتحديد المعارف الثقافية بين الأفراد والاندماج الاجتماعي بينهم وتحقيق التضامن والتكافل، وتعمل اللغة أيضا من جانب التنشئة الاجتماعية في المحيط على خلق الهويات الفردية، وتوضيح التمايزات بين الأفراد داخل مجتمع معين عن طريق الاختلاف في الأسلوب(Style)، ولعل هذا الجمع بين ما هو اجتماعي من جهة وما هو فردي من جهة أخرى هو الذي يقسم اللغة نفسها إلى ما هو اجتماعي عام، أي اللسان(langue) وما هو أداء فردي خاص، أي الكلام(Parole)، كما تعمل اللغة على حفظ العوالم الرمزية(Univers symboliques) لكل مجتمع على حدة، فمن خلالها يستطيع الإنسان امتلاك العالم رمزيا وتحدي المكان والزمان وتحديد موقفه وموقعه من ذلك.
3. اللغة والتقطيع المفهومي للعالم
لا تقيم المعاني كيفما كانت خارج التقطيع اللغوي(Segmentation linguistique) مهما تعددت العمادات التي تعد مُدخلات متنوعة لها، فاللغة تحضر في كل شيء، والإنسان مهما بلغت أساليب التواصل عنده من تغير وتطور وتبدل، لا يستطيع أن يمتلك الكون رمزيا من خلال هذه الوسائط، بل من خلال اللغة واللغة فحسب، أما الوسائط الأخرى فتعد دعامات رئيسة اليوم في التواصل ولا تتجاوز هذا المعطى، وللتمثيل نقول: تصور أن أحدنا رأى شيئا، وهو لا يعلم اسمه قط، فهل يمكنه أن يستثمر ويتمثل ما رآه استقبالا، إن الأمر لن يعد بالنسبة له سوى أولانيات(Primitive) لا أكثر، لا تصل إلى قانون إلا عبر الحضور الرمزي، كمن يرى شيئا ليس له في موسوعته الإدراكية(Encyclopédie perceptive) اسما له، فإن هذا الشيء سيغيب عن الذهن بغياب صورته، والعكس تماما بالنسبة للكلمة، فأن تسمي الأشياء بمسمياتها معناه أنك تملكها رمزيا، وتجعل حضورها دائما في ذاكرتك بعيدة المدى(Mémoire a longue terme)، وبإمكانك بعد أن تستثمرها أنى شئت في وضعيات تخاطبية مخصوصة.
لا تتشكل الأشياء في الذهن من خلال الحضور المادي لها، بل عبر استيعاب Assimilation)يتم من خلاله إدماج(Intégration) الأشياء عبر الذاكرة التصورية(Mémoire conceptuelle) التي تلعب فيها اللغة دور الوسيط بين الوجود المادي والوجود الرمزي التصوري للأشياء، وهي الكفيلة إذا بتجنبنا عناء إحضار المعادلات الموضوعية، وهذه المفهمة (Conceptualisation) لا تقتصر على الترميز أو التسنين (Codéfication)فقط، بل تنزاح إلى الامتلاك الاستعاري للكون وجعل الكائن الإنساني يتدثر ويحيا من خلال الاستعارات وبها.
4. اللغة والفكروالثقافة
تنضج الأفكار عبر اللغة وتحفظ المعارف وتتطور، كما تفيد الدماغ وتزيد من قدرة الفرد على الاستيعاب والتواصل الفعال، فكلما كانت الثروة اللغوية مهمة كلما كان المخزون المعرفي قويا، لأن الثروة اللغوية قرينة، لا محالة، الثروة المعرفية، لذلك ينبغي تجنيب المتعلم الاعتماد المفرط على الصورة وحدها لأنها تنمي فيه الكسل والخمول أحيانا.
إن اللغة خزان ثقافي فكري وديوان للحضارة، فالطفل الذي نعلمه اللغة العربية، فنحن على الأصح نعلمه الثقافة العربية بكل تمفصلاتها، يلتزم بقيم متكلميها ويتشرب أنماطهم في التفكير والرؤية إلى العالم والأشياء، وهذا ما تعجز عنه الوسائط الأخرى، ومنها الصورة البصرية.
وبذلك، فإن أي تخلف في اللغة يلزمه تخلف في الثقافة والوجدان الجمعي والانتماء إلى الوطن(المواطنة)، لأن اللغة ليست وسيلة بريئة في التعلم، بل شحنة يمكن أن تستثمر إيجابا أو سلبا. إن قيمة اللغة العربية إذن، لا تكمن في قدسيتها أو ما يلف لف ذلك، بل فيما تقوم به من تقطيع مفهومي ودفع للمتكلم والمتعلم إلى الانتماء للوطن والأمة العربية الإسلامية جملة وتفصيلا.
5. اللغة التي نحيا بها
يجب أن نحين اللغة لا أن تحيننا هي، لذلك ينبغي نهج نظرية التقريب في التعامل اللغوي مع الفرد، والمقصود به جعل كل الأشياء التي تنتمي بالضرورة إلى التنشئة الاجتماعية للطفل قريبة لغويا منه، فإذا أردنا أن نعلم الطفل كلمة (سيف)، فإنا علينا أن نلجأ إلى هذه الكلمة وحدها في التعرف إلى هذا الشيء من دون أن نلفت نظر المتعلم الصغير إلى (الخنشليل) أو (المهند) أو (الصارم)، وما رادفها من أسامٍ للسيف، مادامت ليست قريبة من وجدان الطفل وغير متداولة اجتماعيا، فاللغة نحيا بها إذا، وهذا ما سيساعد لا محالة في الاندماج المجتمعي للطفل بالرغم مما تفرضه اللغة الأم من مشكلات في التعلم.
6. في التواصل اللغوي الفعال
قد يكون التواصل اللغوي مباشرا أو غير مباشر، فكل ما نبدعه أو نقوله يحتوي على قدر معين من التواصل، التواصل قائم على تبادل الرسائل وتبادل القيم الثقافية، فاللغة خزان من القيم ومن الأشياء التي أخذناها من موسوعتنا الإدراكية واستوعبناها وسنستثمرها استقبالا.
ينبغي أن لا نبقى في التواصل عند حدود التواصل اللغوي الجاف، بل لابد من استدعاء المخزون الثقافي للمجموعة البشرية التي ننتمي إليها، لأن اللغة في أبسط تعريفاتها مجموعة من الأصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، وهذه الأغراض طبعا تشمل كل ما يربط هذه المجموعة البشرية، فاللغة ديوان إذا، لهذا يجب أن لا نجعل التواصل اللغوي يقوم على ربط بين مرسل ومستقبِل بالحياد، وإلا كانت اللغة من أبسط ما سيعرفه الإنسان، بل إن التواصل اللغوي هو أن نصل إلى الآخرين قلبا وقالبا، وجدانا وفكرا وعلاقات إنسانية.
7. ماذا بقي أمام تراجع الكفايات اللغوية
نسجل تراجعا مهولا للكفايات اللغوية في بلادنا العربية، وخلق نظم تواصلية أخرى تعد بدائل للغة، وهذا ما يهدد التفكير السليم والتواصل الفعال بين أعضاء المجموعة المتكلمين باللغة نفسها، كما أن كثرة التوليد الدلالي الذي لا يخضع إلى ضابط فعوض أن يقوم بإثراء اللغة وتحيينها فهو يفسدها ويشينها.
يؤدي تراجع الكفايات اللغوية واضمحلالها إذا، إلى اضمحلال التقطيع المفهومي للوجود الإنساني بأكمله، على اعتبار أن اللغة هي الكفيلة وحدها بامتلاك العالم رمزيا وهذا ما تعجز عنه الصورة. لقد رأينا أن إنسان الكهوف عندما كان يصور الأشياء والحيوانات التي كانت تعيش إلى جانبه، لم يكن يفعل ذلك تقطيعا لعالمه رمزيا، بل إما خوفا من الشيء أو إحضارا له عبر الصورة، وهذا الإحضار يجعل الصورة تتماهى مع المرجع الذي تحيل إليه، لا أنها ترمزه أو تقطعه مفهومي. ولعل ذلك ما يقايس حضور المحاكاة والمحاكاة المؤجلة عند الطفل في بدء المعرفة الإنسانية، فهو لا يستطيع الانفلاق من ربقة الأشياء إلا بعد أن يصل إلى مرحلة الحضور الرمزي للأشياء والكائنات عن طريق اللغة، مما يسمح بالتحديد الماهوي للإنسان بخلاف الحيوان الذي يعجز عن ذلك لعدم امتلاكه لغة متمفصلة، لذلك كانت اللغة أسمى ما يتميز به الإنسان عن الحيوان، وهي المفصل لوحدها في انتقال هذا الإنسان نفسه من الطبيعة الساذجة إلى الثقافة البشرية الواعية.
يساهم الازدواج اللغوي كذلك في تراجع بناء التعلمات لأنه يطالب المتعلم ابتداء بالجمع بين النسيان والاكتساب ويجعل الطفل، وهو متعلم صغير، يعيش وعيا شقيا لا يستطيع التمييز بين ما يتلقاه في المدرسة ويتداوله، وبين ما ينشأ عليه ويمارسه يوميا. وتضل المعضلة مطروحة تستوجب نهج استراتيجيات لغوية في بلادنا العربية هي الكفيلة برد الاعتبار للغتا العربية ووجداننا العربي.
فباللغة ننهض ونتقدم ونتجاوز العقبات، فلا أمة على الإطلاق تطورت ولغتها ضعيفة. إن الضعف الذي غالبا ما نعتت به لغتنا العربية يرجع بالأساس إلى وهن في مستعمليها، فاللغة كيفما كانت تقوى بأهلها وتبكي لعجزهم ووهنهم، لذلك فمقام اللغة العربية السامق سيبقى محفوظا مادام هناك متكلم في البرِية.
التعليقات (0)