كتب الكاتب وليد ياسين في موقع صورة "لغتنا العربية درة تاجنا ومن لا يحترمها لا يستحق الاحترام"
ما زالت راسخة في ذهني صورة ذلك اليهودي "يهوشواع" الذي كان صديقا للمرحوم والدي، والذي كان والدي يحتار كيف يحسن ضيافته، كي يغادرنا راضياً، فلا يترك شيئا يقدر عليه إلا ويقدمه لذلك "الضيف العزيز"، إلى حد انه قرر في إحدى تلك الزيارات الكثيرة التي كان يقوم بها "يهوشواع" إلى بيتنا،، إعداد وجبة فخمة تليق بصديقه فلم يجد إلا ذلك الديك البلدي الذي ربيته ورعيته طوال شهور، فالتهمه اليهودي وعاد إلى بيته مسرورا، فيما أعلنت أنا في ذلك اليوم الحداد والحزن على ديكي.
في تلك الأيام، والحديث عن أواخر الستينيات، لم يكن، أبناء جيلي، يدركون من أمور السياسة شيئا، لم نفهم أن إسرائيل احتلت وطننا، وفرضت الحكم العسكري على بلداتنا، وان اليهود الذين أصبحوا أصحاب العمل، وكان أهلنا ينادون الواحد منهم بلقب "أدون" (سيد)، لأنهم تحكموا بلقمة عيشنا، كانوا هم أنفسهم الذين احتلوا، بالأمس القريب، بلداتنا وشاركوا في قمع أهلنا وإذلالهم أيام الحكم العسكري.
لم نعرف أن تلك الغابات التي كان يعمل أهلنا بزراعتها، كمستخدمين في شركة عرفنا لاحقا أنها "الكيرن كييمت"، كانت تغرس في إطار مخطط جهنمي لإخفاء معالم جريمة هدم المئات من قرانا الفلسطينية. كنت في تلك الأيام افرح حين يقرر والدي اخذي معه في تلك الشاحنة التي كانت تتوقف في ساحة باب الديوان، على حافة "المزبلة"، في البلدة القديمة من شفاعمرو، ثم لا تلبث أن تمتلئ بالعمال الذين تأخذهم "الكيرن كييمت" إلى منطقة وعرية، عرفت فيما بعد أنها هوشة والكساير، لزراعة أشجار الصنوبر والكينا. لم اعرف أن ذلك الفرح الطفولي سيصبح ذكرى حزينة ترافقني كلما أزور هاتين المنطقتين، وأتذكر أن والدي وغيره المئات من أهل بلدي، وأهالي القرى والبلدات العربية، ساهموا من حيث لا يدرون في إخفاء معالم الجريمة، حين اضطرتهم لقمة العيش إلى العمل في غرس الأشجار على أنقاض قرانا المدمرة.
وكبرنا، وجاء يوم الأرض الذي هز كياننا وأيقظنا على عالم جديد، على هبة جماهيرية، فهمنا لاحقا، أبناء جيلي، أنها كانت بمثابة هبة المارد التي انتظرها شعبنا، والكف التي لاطمت المخرز بعد سنوات الجمر التي عاشها أيام الحكم العسكري. وصرنا نفهم في السياسة شيئا فشيئا، عرفنا من هو "الأدون" وما هي غاياته، وعرفت شخصياً لماذا كان والدي "صديقا" لذلك "الأدون" الذي أكل ديكي، ولماذا سمى شقيقتي باسم دالية، وهو اسم لم يكن رائجا في مجتمعنا العربي آنذاك. وقد علمت لاحقا انه اختار لها هذا الاسم تيمنا بابنة صديقه "الأدون" عزرا. بدأنا نفهم أطماع "الأدون" بالوطن والبيت والمأكل والمشرب، وأدركنا بفعل انتمائنا إلى حركات شبابية ثورية، كالشبيبة الشيوعية وأبناء البلد، أننا فلسطينيون حتى النخاع، وأن "الأدون" هو المحتل، الذي يريد "أسرلتنا" وشطب لغتنا وثقافتنا، وفصلنا عن انتمائنا القومي. أدركنا أهمية الحفاظ على لغتنا وتراثنا من خلال صحف اهتمت بصيانة هذه اللغة وهذه الحضارة وترسيخها في نفوسنا كعرب وكفلسطينيين.
وتمضي الأيام، ويتشعب نضالنا، ونصون الأرض والتراث، ونقاتل دفاعا عن لغتنا وميراث شعبنا كي لا يضيعان فنضيع.
نسينا كلمة التبجيل "أدون" التي كان يرددها آباؤنا حين يتحدثون عن اليهودي، وصرنا نتعامل مع اليهودي كند لنا حقوقنا القومية والوطنية ولنا لغتنا وثقافتنا، تحدينا وتظاهرنا، حملنا رايات الكفاح وانخرطنا في معارك شعبنا، آملين أن يفهم كل واحد منا ان لغتنا هي حضارتنا، وهي مدرستنا، حاضرنا ومستقبلنا.
ولكن.. يبدو انه بعد 62 عاما من النكبة، والصراع الذي خاضه مثقفونا وقادة شعبنا هنا في الداخل، من اجل الحفاظ على لغتنا، ما زال هناك، حتى من الجيل الجديد، من يعتبر اليهودي هو "الأدون" الذي يجب تبجيله وتكريم لغته حين يزورنا، أو لا يزورنا، سواء كانت هناك حاجة أم لا. ففي بلداتنا العربية لا يحلو لكثير من أصحاب المحال التجارية إلا نصب لافتات تحمل أسماء محلاتهم باللغة العبرية، وحتى حين يقرر بعض هؤلاء إضافة اللغة العربية إلى اللافتة، فإنها غالبا ما تكون اللغة الثانية التي تذيل الاسم العبري. وفي كثير من مؤسساتنا تستخدم اللغة العبرية في المكاتبات والمراسلات والبروتوكلات والتقارير، بل ان بعض هذه المؤسسات تتجاهل لغتنا القومية حين تقيم احتفالا أو تحتفي بحدث تستضيف فيه شخصية يهودية، خاصة إذا كان الضيف ممثلا للسلطة.
بلا شك من المحبذ، ولا أقول من الضروري، حين يشاركنا اليهود في مناسبة ما أن نعرفهم، ولو من خلال اللافتة على الحدث الذي يشاركون فيه، ولكن من الضروري أن تكون لغتنا العربية هي الدرة التي ترصع تاجنا، وان تكتب بأحرف كبيرة وبارزة على اللافتة وتسبق أي لغة أخرى. إما أن يتم تجاهل لغتنا وكتابة اللافتة باللغة العبرية لمجرد وجود ضيف يهودي فهذا عار ومسألة نشعر معها بالخجل، ليس خجلا بلغتنا بل بأولئك الذين تجاهلوها ولم يتحرروا حتى الآن من منطق "تبجيل الأدون".
حدثان شعرت معهما بالخجل مؤخرا بسبب تجاهل لغتنا: الأول، افتتاح المركز الثقافي البلدي في شفاعمرو، حيث غابت اللغة العربية عن لافتة حفل الافتتاح، وكتبت باللغة العبرية تبجيلا للوزير الذي حضر الحفل، والثاني، يوم التراث البدوي الذي أقيم في قرية بئر المكسور مؤخراً، حيث لم تحمل اللافتة من اللغة العربية إلا كلمة "أهلا وسهلاً"، أما بقية النص، اسم المهرجان فكتبت باللغة العبرية. وقد اخترت هذين الحدثين كمثال بالذات كونهما يرتبطان بالثقافة والتراث، وبالذات لأن في مثلهما يجب أن تصان لغتنا العربية بل وتكون "درة تاجنا".
لست من الذين يرفضون استخدام اللغة العبرية أو أي لغة أجنبية، بل اعتبر دراسة وإتقان كل لغة بمثابة علم ورسالة تساهم في مد وترابط جسور الثقافة، وأنا شخصيا ممن يمتهنون الكتابة باللغة العبرية إلى جانب اللغة العربية، بل واعتز بقدرتي على إيصال رسالتي باللغة العبرية إلى الجمهور العبري، ولكنني ارفض رفضا قاطعاً أن يتم تقديم او تفضيل أي لغة على لغتنا، حين يتعلق الأمر بنا وبمجتمعنا. لافتات المحلات التجارية في بلداتنا العربية يجب أن تكتب بكلمات عربية أولا، ومن يرغب بإضافة اللغة العبرية أو أي لغة أخرى، فله أن يفعل، أما أن يتجاهل لغتنا فهذا عار، وبرأيي لا يستحق من يتجاهل لغتنا الاستمتاع بفوائد الشراء من قبلنا، حتى يفهم أن زبائنه الأساسيين هم نحن أهل اللغة التي تجاهلها. وحين تقوم مؤسسة ما في مجتمعنا بتجاهل لغتنا في حدث ما، يجب أن تفهم، أيضا، أنها يمكن أن تفقد حضورنا إذا لم تحترم لغتنا. فاحترام لغتنا العربية هو من احترامنا، ومن لا يحترم لغتنا لا يحترم عروبتنا، ومن لا يحترم عروبتنا فليبحث عن زبائن ورواد يحترم ويبجل لغتهم على حساب لغتنا وقوميتنا.
التعليقات (0)