أدى اقتحام الصحافة المستقلة كلاعب كبير لمساحة اللعبة إلى بداية تشكل قوة رادعة، في مواجهة النفوذ المدمر للقوى المؤثرة التي كانت ولا تزال تتقن صياغة المعادلة السياسية على مقاسها ووفق مصالحها، سرعان ما تطور تأثيرها، فيما بعد، ليرقى إلى تهديد معاقل الفساد معجلا بقطاف رؤوس كبيرة أينعت داخل حقول الأمن والداخلية. إلا أن تواجدها على تلك الرقعة الضيقة مغامرة ومخاطرة كادت تجهض مشروعها وصفات استئصالية و تنسف وجودها ألغام تقبع في حقلها الإعلامي بلا خرائط معلومة.
فإذا كان مداد أقلام جديدة سال بغزارة عبر قنوات مستقلة و قاد إلى الوصول إلى مصادر مهمة للمعلومة أفضت إلى تفكيك شبكات مسؤولة عن سوء التسيير والعبث بالمال العام، إلا أن الأهم في كل ذلك انه محا في طريقه الشاق خط الصحافة الحزبية، الذي سطرته الكثير من الأقلام بتضحيات جسام، الذي تأثر بالوصاية السياسية بعد إفلاس تجربة التناوب وفشلها في الدفاع عن حرية التعبير على جرائد مستقلة.
قبول أحزاب اليسار قيادة حكومة التناوب افقدها وزنها وحجمها الطبيعي بعد أن أُخْضِعت لعمليات قاسية بدأت بتقبلها لجرعات المشاركة المُرة، وضع جديد ستفرز تأثيراته الجانبية لاحقا تشوهات على مستوى اللسان الذي انخرط في اركسترا التطبيل والتزمير مجانبا خطها التحريري الاصيل، الذي انحرف باتجاه محاربة الأصوات المزعجة لآذان المايسترو الذي يضبط الإيقاع من وراء الستار.
هكذا، إذن، ستضيق ممارسة حرية التعبير لتخنق أصوات منبعثة من منابر مختلفة كمجلة لوجورنال، بعد نشرها لرسالة يتحدث فيها الراحل الفقيه البصري عن تورط الاتحاد الاشتراكي في محاولة الانقلاب التي قادها أوفقير عام 1972 ضد نظام الراحل الحسن الثاني، وهكذا سيكون للصدفة غرائبها فالمناضل الحقوقي والزعيم السياسي، عبد الرحمن اليوسفي، الذي عايش بنفسه محنة إغلاق "التحرير"، سيوقع بيده على قرار إغلاق "لوجورنال" .
فإذا كان مفهوما أن تبادر الدولة إلى محاربة الصحافة المستقلة من خلال أبواقها الرسمية، باعتبارها تشكل تهديدا حقيقيا لمحاولاتها المستمرة لمخزنة المشهد الإعلامي ومصدر إزعاج لاستقلاليتها عن تأثير أي قوة حزبية، فليس مفهوما أن تحارب الجرائد الحزبية، والتي ظلت أقلامها لعقود طويلة متخصصة في صب جام غضبها على سياسة الدولة القمعية، متبجحة بالدفاع عن حرية التعبير واحترام الرأي الأخر، لمقاومة زحف مطالبين باستقلال رأيهم عن هيمنة الآخرين.
لهذا كان على الصحافة المستقلة أن تخوض معارك لإثبات وجودها من خلال نزع فتيل القنابل المغروسة والمنتشرة على امتداد الحقل الإعلامي والتي كلفت الكثيرين من الأقلام الجريئة حريتها في التعبير على جرائدها المستقلة وفي الآن نفسه كشف المخططات الأكثر شراسة والتي ترعاها لوبيات السياسيين الفاسدين في صراعهم من اجل البقاء على كراسي السلطة.
فالألغام التي وضعت بمثابة السلاح الرادع في مواجهة رغبة الصحفيين في التقدم إلى الأمام باتجاه المبادرة إلى كشف الحقائق المتسترة وراء جدار الرقابة السميك لم تثني ممتهني المتاعب عن مواصلة جهدهم في تطهير حقلهم بمواد النقد وتفجير قضايا الساعة.
وإذا كان كتاب الرأي استبشروا خيرا ببزوغ فجر حكومة التناوب بعد تعاقب ولايات حالكة لحكومات كومبارسية، معتقدين أنها ستباشر إلى توفير مناخ سليم لميلاد الرأي الحر وتحرره من قبضة الرقابة المجحفة عبر إصلاحات جوهرية تستهدف توسيع هامش التعبير الذي ضاق على أقلام منابرها طيلة تواجدها على مقاعد المعارضة، إلا أن المفاجآت على الساحة الإعلامية توالت لتدحض شعارات وعناوين كانت تملأ صفحاتها لعقود خلت، وتزيد الطينة بلة حين أقدمت على تكميم أفواه الصحفيين بالتوقيع على قرار غلق الجرائد المستقلة.
إن انخراط الجرائد الحزبية في مسلسل التضييق على مسار الكلمة في تحرير الرأي العام من مغالطات الرواية الرسمية بشكل موضوعي وفضحها السياسات الرعناء وتفكيك شبكات المصالح التي تقوض تقدم المغرب نحو تحقيق المزيد من الإصلاحات الضرورية لضمان عمل سلس وبناء للمؤسسات بعيدا عن تأثرها بنفوذ لوبيات سياسية واقتصادية، شكل صدمة إضافية لدى القارئ الذي كان يرى فيها أمل من لا أمل له في تحرير خط إعلامي مستقل عن مصالح حزب بعينه.
الآن إذ تبدو صورة المشهد الإعلامي أكثر وضوحا بعد ورود إشارات على قدرة الصحافة المستقلة على إزعاج مركز القرار وإحراج من يهمهم أمرنا عبر دحرجة كرة النار نحو مربعهم وإشعالها لحرائق أتت مؤخرا على مواقع عليا حيث كانت رؤوس كبيرة تعبث في صمت بمصالح البلاد والعباد.
فوصول الصحافة المستقلة إلى موقع الرقابة والتأثير بفعالية رغم المعيقات والمخاطر التي تلفها سيمكنها لامحال من بسط أضوائها الكاشفة على مزيد من مساحات الظل الوارف التي توفر ملاذا خصبا لرؤوس لاندري لِمَ لمْ يَحِن بعد وقت قطافها.
لم يكن بالفعل سهل عليها أن تصل إلى هذا المستوى دون تقديمها لتضحيات جسيمة في طريقها إلى احتلالها الفعلي و المشروع لموقعها كسلطة رابعة، فلقد سارعت السلطات إلى التضييق على حركيتها من خلال المتابعات القضائية و في أحايين أخرى الى إغلاق منابرها .
إن دخول الصحافة المستقلة إلى الحقل الإعلامي، بدون معرفة مسبقة بخارطة ألغامه، جعلها تدفع ثمنا غاليا لجرأتها على استعمال سلطتها الرابعة في محاولة لاختراق حاجز الصمت الأمني الذي نسجت وراءه خيوط المصالح المتشابكة واختفت معها الفضائح التي لم يكتب لها أن تتناهى إلى أسماع الرأي العام ومدبري شؤونه.
لقد بات من الممكن أن تنعش الكلمة بمفعولها القوي آمال التعافي لجسم تعفنت جل أعضائه بعد تفشي الفساد في جزء كبير من خلاياه من خلال إحراج المسؤولين و توجيههم صوب مكامن الخلل اللازم استئصالها.
هكذا وفي الوقت الذي حققت الصحافة المستقلة بالرغم من العدد الكبير من الضحايا في صفوفها، انتصارات كبيرة في معركة الدفاع عن حق أقلامها التي سطرت خطا مقاوما لحماية مشروعها والتمتع بهامش اكبر للتعبير عن رأيها ، خسرت الصحافة الحزبية ماء وجهها أمام أعين القارئ المتعطش لمعرفة الخبر وما وراءه، بعد أن خسرت الأحزاب من قبل شعبية جماهيرية من بعد مشاركتها و قبولها لخوض مغامرة اللعب مع الكبار.
التعليقات (0)