الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
لقد ندب الشرع إلى إصلاح ذات البين ، وهو من الممارسات الكريمة للناس قبل الإسلام ، عَنْ جَابِرٍرضي الله عنه ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي بِتَمَامِ مَحَاسِنِ الأَخْلاقِ، وَكَمَالِ مَحَاسِنِ الأَفْعَالِ رواه البغوي في شرح السنة ، لأن فساد ذات البين مما يهدم الأمم والمجتمات.
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ؟» قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ» رواه أبوداود في سننه.
ولأن مقاصد العقل والشرع عامة لكل الناس والحالات ، بما في ذلك المعاهد والجامعات والمدارس والثانويات ، فإن مما ينبغي التنويه به في إصلاحات وزارة التربية الوطنية الجزائرية الهيئة الجديدة التي استحدثتها وهي لجنة الإصغاء والمتابعة البيداغوجية في كل مؤسسة تعليمية خاصة طورا التعليم الثانوي والمتوسط ، تتكفل بالنظر في أمور التلاميذ وفك النزاعات التي تنشب بينهم وبين الأساتذة والإدارة والرقابة قبل الإحالة على المجلس التأديبي ، بدل العقاب نحاول الإصلاح التربوي كخطوة أولى لأن التأديب العقابي معناه التحويل إلى مؤسسة أخرى ربما تكون بعيدة عن إقامته أوالطرد من التعليم ، أما التأديب التربوي فيمنح له درسا أخلاقيا في حياته يجنبه صعوباتـها من بعد.
وفي مؤسستي وأنا عضو في هذه اللجنة استطعنا علاج كل النزاعات إلا اثنين فقط حولنا أمرهما إلى المجلس التأديبي ، وكل التلاميذ المعالجين استقاموا ولم يبدر منهم ما يحيلهم على العقوبة.
بل وشهدنا في إحدى الجلسات تغافرا بين تلميذة وأستاذتـها بشكل عاطفي رائع جدا أثار شجون الحاضرين وأسال دموعهم خاصة النساء ، ما زادنا فرحة وسرورا كبيرين بفعل النجاح في الجمع قبل التباين ، مع أن بعض السادة الأساتذة كانوا قبلها يصرون على العقاب لولا أننا أقنعناهم بجدوى الإصلاح فرأوا نفعه بأعينهم وأحاسيسهم أثناء الجلسات .
ولا يعتبر هذا لديّ بالأمر الجديد ، إذ أن ديننا يعج بـهذه المعاني نحوالتعافي بين المتخالفين بما في ذلك الجرائم مثل القتل والسرقة وغيرها.
قال تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)}سورة البقرة
وقال تعالى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) }سورة المائدة
وقال تعالى {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) }سورة البقرة
عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَعَافَوْا الْحُدُودَ قَبْلَ أَنْ تَأْتُونِي بِهِ، فَمَا أَتَانِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ» رواه النسائي وغيره
إن هذه المبادرة الجديدة هادفة إلى توفير جو من الهدوء والعلاقات الحسنة بين التلميذ وأستاذه والطاقم الإداري والرقابي.
لقد التقيت في الصائفة الماضية تلميذاكان من هؤلاء،متوجسا على مصيره لعلمه بالعقوبة المنتظرة في حال تكرار التمرد ،يدل على فعالية العمل التربوي والنفسي الذي نـقوم به.
لكن ما أنبه إليه هذه الهيئة اقتصارها على العلاج دون المكافأة ، لأن أسمى وأصلح الشرائع في الكون وهو الوحي الرباني لا يوجد فيه أمر ولا نـهي دون مكافأة على الالتزام رغم إجباريته، لأن الإنسان محكوم بنواميس نفسية واجتماعية وتربوية تجمع له بين الإلزام والتشجيع عليه بالوعود الصادقة ، ولذلك عالج الناس كلا حسب حالته مما سبق.
والتلميذ ليس طفرة من البشر ، فهو يشعر ويفرح ويسر ويحزن ويرغب ويرهب ، فلم لا نضيف إليه الوعد الصادق والتشجيع المكافىء ؟
إن الهدف من تنصيب هذه اللجان التربوية في المؤسسات هو ثني التلميذ عن العودة إلى ما بدر منه مع إقناع الأستاذ أوالمراقب واقعيا بجدوى هذا العمل.
لكنني أراه هدفا قاصرا ، سيكون كاملا لو أضفنا إليه استهداف التحسن الفردي والأخلاقي والإدماج الطلابي بين أقرانه ، سيكون كاملا لو ابتغينا فرحه بترقية سببها الاعتذار الذي تواضع به نحو الأكبر منه سنا أوعلما أومنصبا ، تنحت في خلده قيما عالية قد يرقى بـها إلى مبادىء الزمان.
ألا نتذكر مسح الرسول صلى الله عليه وسلم على صدر من جاءه يستأذنه في الزنا فخرج من عنده وليس من الناس أحب إليه منه صلى الله عليه وسلم ؟
ألا نتذكر كيف أن الله تعالى يوجب على العباد تكاليف ويؤدونـها جبرا عنهم لكن الله يحفزهم بالثواب ، ويحرم عليهم أعمالا ويمتنعون قسرا عنهم لكنه تعالى يكافئهم الأجر؟
كذلك ينبغي السلوك مع التلميذ ، ولنحذر الاعتماد على الردع فقط دون تحفيز ، لأن المرتدع بالقانون قد يفلت منه حين اختفاء الرقابة في أول فرصة ، لكن الذي يمتع الفرد بالالتزام أوالامتناع هو النص مع الحافز.
ولذلك أدعو بكل إلحاح مؤسستي أولا ووزارة التربية ثانيا إلى تخصيص عطايا لمثل هؤلاء كي نضمن نتائج تربوية وعلمية في مستوى تطلعاتنا.
إذا فعلنا ذلك لا يتخرج التلميذ ناجحا من مؤسسته إلا وهي أحب إليه من غيرها ، فجائزة كهذه ولو شهادة اعتبار وشكر وتقدير ستشعره بمحو الخطأ كما تمحى الذنوب مع الله تعالى فيهرع مسرعا نحو تغيير كلي في حياته وتفجير طاقة أخرى متجددة لم نعهدها فيه من قبل.
كتبه الأستاذ سعدالدين شراير الخميس
19 / جمادى الأولى 1438 هـ
16 / فيفري 2017 م
التعليقات (0)