الكيان الصهيوني واغتيال التاريخ العربي...
سرقة الآثار أولا
وسام الباش |
الحديث عن اغتيال التاريخ والحضارة والإنسان ليس مجرد حديث يألب المواجع واحدا تلو الآخر, ولا حديث فارغ المحتوى كما يحلو لبعض المستشرقين والمستغربين أن يصفوه, بل هو حديث عن مصادرة الآخر واستلابه وماضيه وحاضره ومستقبله, وهو ما كان أحد أهم أدوار الاستعمار, وأكثر مميزاته في العصور قديمها وحديثها.
فقد حاولت كثير من الحضارات المتوالية والدول الكبرى إلى تنصيب نفسها في أعلى الهرم الحضاري, وتنصيب نفسها فوق الإنسان فكرا وقيما ونتاجا , وكان لا بد لها حتى تصل إلى مرادها هذا, هدم أو سرقة نتاجات الحضارات الأخرى حتى تقول للبشرية أنا الحضارة الأولى, أنا القيمة الأولى, أنا الماضي والحاضر والمستقبل, إلا أن المثل العربي القديم الذي يقول (دوام الحال من المحال) صادق حين كانت كل دولة عظيمة وحضارة كبيرة تنتهي على يد أخرى لتدمرها وتصادر ماضيها وحاضرها وتغتال كل نتاجاتها بيد من حديد وهكذا دواليك.
وإذا نظرنا إلى التاريخ القديم والمعاصر سنجد أن الخطوة الأولى في اغتيال التاريخ الحضاري لأي دولة أو حاضرة هو تدمير ما صنعته وخلّفته أو سرقته وتحويله بغمضة عين إلى ملك خاص أو كدليل فخر على الانتصار. وحتى نكون منصفين وموضوعيين كانت الحضارة الحاضرة (الإسلام) بمنأى عن ذلك في معظم الأحيان إذا ما أخذنا بعين الاعتبار وجود بعض التصرفات الفردية التي كانت بعيدة عن روح الإسلام الذي دعا في كثير من المواضع إلى المحافظة على آثار السابقين وذلك لفهم أن دوام الحال من المحال.
بعد هذه المقدمة نستطيع الوصول إلى الاستعمار الحديث الذي حاول منذ أن وطأت قدماه الأرض العربية اغتيال التاريخ العربي ومصادرة هويته, ومحو آثاره وسرقتها, وبالرغم من أن الاستعمار خرج خال الوفاض من هدفه الذي جاء لأجله (محو الهوية العربية) إلا أنه أوكل تلك المهمة إلى كيان اغتصب الأرض والإنسان والتاريخ ولم يتوقف عن ذلك منذ الاحتلال عام 1948, ولليوم ما تزال (إسرائيل) تحاول استهداف التاريخ العربي من المحيط إلى الخليج, تسرق آثاره, تشوهه, وتدمره...الخ. وهذه السطور تلخص ما سرقته يد الإسرائيليين امتدادا من فلسطين مرورا وسورية مصر وانتهاء بالعراق.
(إسرائيل) وسرقة الآثار الفلسطينية
غنى فلسطين بشكل خاص بالآثار والمواقع الأثرية توثيقاً لحضارة امتدت عبر التاريخ، بناها العرب القدماء، وفي محاولة لتغيير تلك الثوابت التاريخية، دأبت (إسرائيل) على محاولة إلغاء التاريخ وإيجاد شرخ بين المكان والزمان والفعل الحضاري وإلغاء حق الإنسان في أرضه وتراثه وثقافته، وتدمير آثاره، ضاربة بعرض الحائط الشرعية الدولية لحقوق الإنسان وكل المواثيق والمعاهدات والاتفاقات الدولية.
المخطط غير المعلن من قبل سلطات الاحتلال لنهب وتدمير التراث الحضاري وتسويقه في أرجاء العالم على أنه تراث يهودي لإعطاء الشرعية في كل ما تفعل، ومنح نفسها الحق في هذه الأرض المحتلة، وضع بشكل دقيق بالتوازي مع الاعتداءات اليومية التي تمارس ببشاعة لم يشهد لها العالم مثيلاً، على المدنيين الفلسطينيين.
وفي المقابل، تمت مواجهة هذه الادعاءات بشكل متواصل، وإن تعامدت ظروف معينة داخلياً وخارجياً عرقلت الجهود المبذولة، ولكنها لم تمنع من استمرارها في طريقها.
في البداية يظن كثيرين أن استهداف الآثار الفلسطينية كان بُعيد الاحتلال الإسرائيلي إلا أن الحقيقة تقول غير ذلك فالاستهداف بدأ منذ بداية القرن الثامن عشر وجاء على شكل مستشرقين يهود قدموا من عدد من الدول الأوروبية هدفهم تسويق فكرة أن الأرض الفلسطينية هي أرض الميعاد وأرض الحدث التوراتي وذلك عبر القيام بحفريات في عدد من المناطق الفلسطينية تحدث عنها التوراة وتوجت هذه الحملات الاستشراقية في العام 1867على يد المهندس الإنكليزي تشارلز وارين الذي قام بحفريات محدودة في القدس ،وكانت هذه الحفريات عبارة عن حفر عامودية حفرها وارين خارج سور المسجد الأقصى بسبب منع السلطات العثمانية له، هذه الحفر العمودية كانت أفقية من الأسفل حيث كان وارين يحاول البحث عن ما يدعى بهيكل سليمان, وقام وارين بسرقة عدد من الفخاريات وجدها في منطقة الحفر وادعى لاحقا أنها فخاريات يهودية, أصدر وارين كتابا صدر في لندن عام 1876 Underground Jerusalem ادعى فيه أن هيكل سليمان المزعوم تحت المسجد الأقصى .
يقول الحاخامات اليهود أو آثاريي إسرائيل ليوم أن النفق ذاته الذي حفره وارين هو النفق الذي سيؤدي إلى الكشف عن مدينة داوود القديمة حيث الهيكل المزعوم، وأن الفخاريات التي سرقها وارين من القدس هي فخاريات تثبت أن لليهود حق في القدس، وهذا الادعاء فنده آثاريون ومؤرخون عرب وإسرائيليون مؤخراً.
أما هرتزل مؤلف كتاب الدولة اليهودية فقد دعا عدة مرات في كتابه إلى محو آثار القدس وتدمير معالمها الإسلامية والمسيحية فهو يقول 0
أما هرتزل فنظر إلى القدس على أنها مكان للقذارات والعفونة وحلم بمستقبلها الذي يزال منه كل ما ليس مقدسا يهوديا فيقول ( إذا ما حصلنا على القدس يوما ... فسأبدأ بتنظيفها قبل كل شيء سأبدأ بإزالة كل ما ليس مقدسا وسأقيم بيوت العمال خارج المدينة وأفرغ أعشاش القذارات وأهدمها – إشارة إلى الكنائس والمساجد –
وأحرق الآثار العلمانية وأنقل الأسواق إلى غير مواضعها الآن وعندها أبقي على النمط المعماري القديم بقدر الإمكان وأبني حول الأماكن المقدسة مدينة مريحة منشرحة الصدر )
لم تتوج كل المحاولات الإسرائيلية في سرقة الآثار الفلسطينية ومحو هويتها إلا بعد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين فبعد إعلان دولة إسرائيل مباشرة بدأـ العصابات الصهيونية ( الهاغانا، الإشتيرن، وغيرها ) بسرقة الآثار الفلسطينية من القرى التي تحتل مباشرة.
واستمرت عمليات سرقة الآثار إلى ما بعد النكسة عام 1967 حيث أصبحت السرقة علنية, وقادت حملات السرقة وعملياتها شخصيات إسرائيلية عسكرية وسياسية كبيرة ومنها موشي دايان وزير الحرب الأسبق للكيان الصهيوني الذي كان يقود عمليات سرقة ممنهجة, وكان مدعوما بذلك من السلطات الدينية والسياسية الإسرائيلية,
وقد دعا دايان في أكثر من مرة إلى إزالة كل الآثار المقدسية بدعوى إيجاد الهيكل المزعوم,فقد نقلت صحيفة دافار الصهيونية بعددها الصادر بتاريخ 2 8 1971 عن دايان قوله ( إنه لا ضرورة للتأخر في الكشف والعمل للعثور على الآثار القديمة العائدة لأيام الهيكل الثاني ويمكن تصوير بقية الآثار وإزالتها لأنها تخفي عنا رؤية الصورة الكاملة كما كانت في حينها)
وهذا يعني إزالة كل الآثار والأوابد العائدة للحضارات القديمة.
وفي هذا يقول نائب مدير مصلحة الآثار الإسرائيلية أوزي دهاري " إن موشيه دايان كان مجرماً.
لقد علم أنه كان يخرق القانون، وعلم أن كل أعماله كانت تنتهك القانون، واقترفها رغم ذلك". وحول تلك الفترة يقول الدكتور معين صادق رئيس قسم الآثار في جامعة الأزهر في غزة إن الاحتلال كثف منذ العام 1967 عمليات التنقيب عن الآثار الفلسطينية . إن الإحصاءات عن تلك الفترة تشير إلى انه في كل سنة كانت تتم سرقة مئة ألف قطعة أثرية فلسطينية, منها. وفي الكثير من الحالات كان السارق سلطة الآثار الإسرائيلية التي كانت تشرف على عملية التنقيب, وما تمت سرقته والعديد مما استخرجته تم إخفاؤه.
لكن هناك أيضاً مجموعة من القطع موجودة اليوم في متاحف إسرائيلية ومخازن الحكومة في تل أبيب ومنها ما تمت سرقته من قبل تجار محترفين.
وأهم ما تم سرقته مخطوطات قمران (لفائف البحر الميت) التي اكتشفت عام 1946) حيث كانت هذه المخطوطات في المتحف المعروف باسم متحف روكفلر التابع للملكة الأردنية الهاشمية بالقدس حتى حرب 1967 م الذي استولت إسرائيل فيه على القدس فأخذت مخطوطات وادي القمران وغيرها ونقلتها إلى متحف الكتاب الإسرائيلي بالقدس الغربية
مع بداية التسعينيات من القرن المنصرم أخذت دائرتي الآثار والسياحة الإسرائيليتين عملا مشتركا يقضي بسرقة الآثار الثابتة والمنقولة أو شرائها بمبالغ مادية طائلة من أي مكان في الأراضي الفلسطينية وذلك لمحو كل العمق التاريخي لفلسطين وتتوج العمل في هذه المرحلة مع بداية بناء الجدار الفاصل حيث صودرت بحجة بناءه أراض كبيرة غنية بالآثار الكنعانية و الرومانية والإسلامية, فقد صدر عن المركز الصحافي الدولي بالهيئة العامة للاستعلامات، في الثلاثين من نوفمبر الماضي، أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي سرقت آلاف الدونمات التي تضم العديد من المواقع الأثرية الهامة والضاربة في عمق التاريخ في الضفة الغربية، بحجة وقوعها في مناطق بناء جدار الفصل العنصري.
ومن تلك المواقع الأثرية : خربة شمسين، وهي خربة أثرية تقع بين قريتي قفين وباقة الشرقية، وهي قرية رومانية تمتد على مساحة 60 دونماً وهي غنية بالمعالم الهامة كالجدران، وأنقاض الأبنية، وكذلك أساسات بناء وخزانات آبار منحوتة للمياه ومقاطع صخرية ومقابر، وكانت هذه الخربة تشهد أحياناً حركة سياحية نشطة لكن الجدار التهمها حيث وقعت غرب الجدار.
وخربة أم قصير، وهي خربة رومانية تقع بين قريتي قفين والنزلة الشرقية، وقد تأثرت بإقامة الجدار العنصري وتم اقتطاع جزء منها وتضم أساسات، آبار ومغاور وجدران ومقابر وغيرها، وتمتد معالمها على مساحة 10 دونمات.
والتهم الجدار موقعاً أثرياً يسمى خربة رحال، وهي خربة أثرية رومانية تقع غرب قرية دير الغصون، مر الجدار العنصري من منتصفها فالتهمها جميعها، وتمتد هذه الخربة على مساحة تصل إلى 8 دونمات. وكانت تتواجد في ذلك الموقع بعثة إسرائيلية خاصة أثناء أعمال الحفر لصالح الجدار العنصري، مما يعني النية المبيتة لسرقة الآثار الفلسطينية.
ومن المواقع الهامة التي استولى عليها الاحتلال وضمها للجدار، تل شويكة أو تل الراس، وقد شهد عدداً من الحقب المتعاقبة، مما يعني أنه خصب وغني بالآثار ويعتبر من المواقع الهامة في فلسطين، حيث يعود نشوء الحضارة فيه إلى العصر البرونزي المتأخر والفترة الحديدية والرومانية والبيزنطية، حسب الاستقراءات الفخارية.
وقد كان هذا التل ممراً للقوافل التجارية والعسكرية من شمال فلسطين لجنوبها ويعتقد أن هذا التل شهد معركة قادش التاريخية التي حارب فيها الجيش المصري ممالك الكنعانيين.
ويقع هذا التل بمحاذاة الجدار العنصري، وقد تأثر بعدد من الحفريات التي نفذتها طواقم الآثار الإسرائيلية أثناء شق الجدار مما يشير إلى سرقة الآثار الموجودة فيه.
ومن المواقع المسلوبة أيضاً، خربة زهران، وتقع بين قريتي سفارين وكفر اللبد، شرق طولكرم وتضم كنيسة قديمة وجدران فسيفساء، كما تضم أساسات ومبانٍ وغيرها من المعالم الأثرية الهامة، وهي قريبة مما تسمى «مستوطنة عناب»، الأمر الذي يهدد بإزالتها إلى الأبد أو إلحاقها بالمسروقات الإسرائيلية.
إن فلسطين منذ العام 1948 تتعرض للاغتيال التاريخ والحضاري على يد الإسرائيليين وقد ذكرنا فيض من غيض وما خفي أعظم.
التعليقات (0)