كان عندنا مجموعة من الموروثات والعادات وكان الناس على فطرتهم يتمسكون بها وكأنها جزء من نسيجهم الحياتي ، ولها طقوس يعرفها الكل فلا يحيد عنها أحد وإلا اعتبر خارجا عن العرف وينظر إلى تصرفه باستهجان وكأنه مس مقدسا ومما استطعت ألإلمام به من أناس كبار السن أعرفهم أو أنا عاصرته وشاركت به وبعضه لا زال موجودا ويعمل به ما سيرد لاحقا .
ــ طلب الغيث والمطر ( التغييث ) ــ
بعد بذر المحصول قد يتأخر المطر فتقام صلاة ألاستسقاء في المساجد ويلج الناس بالدعاء بأن ينزل الله عليهم الغيث وبعض أئمة المساجد يقيمون ( صلاة ألاستسقاء ) على ارض او علي بيدر خارج المسجد فيقلب المصلون أرديتهم ويدعون وهم على هذه الحال إمعانا في إظهار التذلل لله ويشترك في الصلاة الكبير والصغير وكذلك النساء.
وبعد الغروب تجتمع العجائز والنسوة والفتيات والصبية في ساحة الحارة ويرددون طقسا خاصا بطلب الغيث من الله ، فتحضر العجائز جواريش الحبوب الحجرية ( الرحى ) وتوضع في الوسط ويبدأن بالجرش عليها دون حب وذالك إما لتقليد صوت الرعد تيمنا او إظهار عدم وجود حب لجرشه دلالة على العوز والحاجة ومن ثم يجتمع الفتية والفتيات حول العجائز على شكل حلقة ويقومون بالدوران مرددين ( يا ربي تسقينا الغيث ) ، وكذلك ( يا ربنا يا ربنا ، واحنا صغار ايش ذنبنا ، طلبنا ألخبزه من إمنا ، ضربتنا على ثمنا ) والثم هو تحوير عن كلمة فم وذلك دلالة على عدم وجود الخبز بالبيت وهو عماد الغذاء في الريف فالخبز والزيت سبعان في البيت فإذا توفرا فلا يكون هناك جوع بينما تجلس النسوة في نصفي دائرة متقابلتان حول العجائز ويرددن :ــ ليش ابتجرشي بالليل يا عجوز بدك مطر بدك سيل يا حجي
ليش ابتجرشي دقه يا عجوز بدك مطر من حقه يا حجي
بدك مطر من حقه باذن الله
وأيضا : ـ
راحت إم الغيث إتجيب المطر ما أجت إلا القمح طول البقر
راحت إم الغيث اتجيب الرعود ما اجت إلا القمح طول البارود
راحت ام الغيث اتجيب الزلازل ماأجت إلا القمح صار له سنابل
راحت إم الغيث اتجيب الزلزل ماأجت إلا القمح طول السناسل وذلك دلالة على تأخر المطر والزلازل هنا هي شدة المطر والريح والبرق والرعد ، ثم يقوم الفتية والفتيات الكبار بترديد :ــ يالله الغيث يا ربي خبزي قرقع بعبي
قرقعتو الشرقيه
شرقيه فكي عنا خلي المطر يصلنا
يالله الغيث يا ربي تسقي زرعنا الغربي
يالله الغيث يا دايم تسقي زرعنا النايم
يالله الغيث يا معبود تكرمنا مطر ورعود
يالله الغيث غيثينا بل ابشيت راعينا
راعينا حسن لقرع طول الليل وهو يزرع
يزرع بقمح قصري تا ايعبي خوابينا
وكذلك :ــ ياربي ليش هالكنه عجنا اطحين الكرسنه
يا ربي ليش هالطوله عجنا اطحينة الفوله
ومن ثم يغني ألأطفال :ــ
أمطري اوزيدي بيتنا حديدي
عمنا عبد الله ورزقنا على الله
امطري اوزيدي على قرعة سيدي
سيدي بالمغاره مسك قطه اوفاره
حطهن ابجيبته الله يرحم شيبته
سيدي في البريه طابخ لبنيه
أكلها لحاله وما عزم عليه
عمنا عبد الله اورزقنا على الله
وقد يستغيثون بالولي القريب :ــ
سيدنا يا بايزيد رشق المطر يعبر بيك
نتمنى من ربنا تمطر علينا وعليك
يا جامع جينا ليك رشق المطر يعبر بيك
يا ربي بله بله واحنا خلقك بالقله
يا ربي اتبل المنديل أحسن ما نرحل وانشيل
يا ربي اتبل الشرشوح وإحنا فقرا وين انروح
يا ربي إتبل الشاله وإحنا فقرا شياله
يا ربي اتبل الخرقة أحسن نرحل عالبلقا وأيضا :ــ يا ربي تيجي مطر غينه ورى غينه خايفين ما تيجي محل تتفرق العيله
يا ربي تيجي مطر واتبلل الخرقه خايفين ما تيجي محل اونرحل عالبلقا
يا ربي تيجي مطر سحاب خلف سحاب خافين ما تيجي محل يتفرقوا الشباب
يا ربي تيجي مطر رعود خلف ارعود خلي الليالي مطر تا يشبع القاعود
يا ربي جيب المطر اطنان خلف اطنان خلي الليالي مطر تا يشبع الفدان
يا ربي تمطر علينا ليلة الجمعه خلي الليالي مطر واتزيد هالجمعه
يا ربي جيب المطر عاشيخ حارتنا خلي الليالي مطر تا تشبع بقرينا
يا ربي جيب المطر عا راس وادينا يغل عنا الزرع نملى خوابينا
والخابية عبارة عن خزانة ترابية تخزن فيها الغلال تبنى داخل البيت والبشت هو العباءة الثقيلة وتحاك من وبر الجمال وتكون مضادة للمطر والماء ويستعملها الرعاة والحراثون وأصحاب الجمال والذين ربما يفاجؤهم المطر أثناء قيامهم بعملهم ، وقد أقسم لي بعض كبار السن أنهم وفي معظم الحالات لا يدخلون البيوت عند طلب الغيث ( التغييث ) إلا هربا من الذي ينهمر عليهم وقد عاصرت حادثة من هذا القبيل في أيام طفولتي وهربنا من المطر في تلك الليلة والذي استمر شديدا ولمدة ثلاث أيام حتى أن الجار لم يكن يتمكن من الخروج إلى جاره من تواصل المطر . وبعد المطر تتفجر الينابيع وتجري الوديان فيكون الناس وكأنهم في عيد يبشر بعضهم بعضا وترى معظم أهل القرية على مجاري الوديان ينعمون شاكرين هذا الخير من الله داعين أن يدوم هذا الخير لأطول فترة من أشهر الصيف وكان الصبية يحجزون جزء من الوادي وفي مكان ضيق منه فيتجمع الماء على شكل بركة يطلقون عليه اسم حوام ( غدير ) يسبح به ألأولاد مظهرين مهارتهم بالقفز إلى الماء من الجوانب العالية والغريب انه لم يكن يصيب أحدهم أي مكروه فلا جروح ولا نزلات برد ولا كحة ولا رشح ولا زكام مع العلم أنه ربما استحال لون جلودهم أزرقا من برودة الماء ويأخذ بألإرتجاف فيخرج من الماء ويلبس ملابسه ويجلس على حافة الوادي بالشمس وكأنه لم يشعر بالبرد ولا أي شيء . وبعد المطر تنتشر الصبايا في الحقول يبحثن عن الفطر (الفقع ) والخبيزة والهندباء ( العلك ) والمرار والسلق البري والسبانخ البري والخرفيش والخردل البري والخس البري وبعض هذه النباتات تؤكل سيقانها وورقها دون طبخ وبعضها تطبخ أوراقه وبعضها يحضر منه سلطات مثل الخردل والمرار والكل راض قانع .
وقد كان يتكرر تجمع سكان الحارة جميعهم ليلة خسوف القمر حيث تحمل العجائز والنساء الدلاء الحديدية يضربن عليها بالعصي بينما يصيح ألأولاد والبنات والصغار بصوت عال ( يا حوت افلت قمرنا ) ظنا منهم أن حوتا قد ابتلع القمر أو قضم قضمة منه ويبقون على هذه الحال طول مدة الكسوف ، وقد يبدأ بعض الصبية الصغار بالخوف والبكاء فتضعهم أمهاتهم في أحضانها فينامون ثم بعد رجوع القمر إلى وضعه الطبيعي يدخلون إلى البيوت مرتاحي النفس ظنا منهم أن كل واحد منهم أنجز إنجازا هاما وينظر إلى السنة التي وقع فيها الخسوف بأنها سنة شؤم لا بد أن يقع فيها مصيبة تعم الجميع مثل زلزال او حرب أو قحط .
التعليقات (0)