مع قدوم الصيف تأتي المواسم متتابعة فموسم قلع القطاني فموسم حصاد القمح ولشعير فالتين والصبر واللوزيات بأنواعها والفواكه الصيفية والمقاثي وموسم قطف الزيتون . ويعتبر موسم الحصاد وموسم قطف الزيتون من أهمها ، ففي موسم الحصاد والذي يبدأ عادة في نهاية الشهر الخامس حيث يتم استنفار جميع أفراد العائلة لهذا الموسم فيتم قلع القطاني بشكل عام ودرسها وخزنها ثم موسم حصد الشعير ومن ثم موسم حصد القمح وهو من أهم المواسم حيث يتم حصد المحصول بالمناجل ويربط من برباط من قشه على شكل حزم صغيرة تسمى (غمور ) وتجمع عدد من هذه الغمور في حزمة يسهل على ألإنسان حملها ونقلها وتسمى ( القتة ) وتكوم هذه القتات بكومة كبيرة تسمى (الحلة ) حيث يمكن ذلك الرعاة من رعي غنمهم في الأرض المزروعة دون المساس بالمحصول . وكان بعض المزارعين الجشعين يقوم بحرث ألأرض بعد لم الحلل ( التغمير ) حتى لا يقوم الرعاة برعي غنمهم في فيها . وينظر إلى هذا النوع من الناس باحتقار ويشبه بالشيء الناشف الذي إن عصر لا يخرج منه ماء ــ دليلا على طمعه وبخله ــ ثم تنقل الحلل إلى البيدر والتي تكون عادة قريبة جدا من القرية او حتى في وسطها ينقل القش بسنابله على ظهور الجمال وتسمى هذه العملية ( الشيل ) ويحضر لعمليات الدرس والتذرية والكيل والخزن . ويزرع القمح عادة في وقتين من السنة ألأولى مع أنتصاف الشهر التاسع ويسمى ( عفير ) وألأخرى في الشهر الثاني عشر ويسمى ( شتوي او مروي ) ويعرف هذا الشهر بالريف بألأجرد لأنه ربما لا تمطر فيه مما يسمح للمزارع حراثة أرضه وزراعة محصوله ، او أن تجرده مطرا ، ومن المعلوم أنه لا يصح زراعة المحاصيل الشتوية بعد هذا الشهر ، والمثل الشعبي يقول ( من لا يزرع بألأجرد عند الصلايب بحرد ) والصلايب هي كومات حبوب المحاصيل على البيدر بعد تذريتها ونقلها إلى البيوت وخزنها . وكان يفضل زراعة القمح والسعير عفيرا لأنها ترتوي كفاية من ماء المطر ولكن لذلك عيوب منها أن الحشائش الضارة تنبت بذورها مع القمح مما يوجب عمليات تعشيب تقوم بها النسوة من أول النهار إلى آخره ولمدة شهر تقريبا وكذلك إذا تأخر المطر يصيب القمح والشعير نوعا من الدودة والبرغوث وهي حشرة صغيرة تشبه الخنفسة ترعى النبتات الطرية فتبيدها مما يضطر المزارع لحراثة أرضه وإعادة بذر محصول جديد وتسمى الدودة التي تصيب نبتات القمح وتكون عادة مجتمعة في مستعمرات على وجه الأرض تحت غطاء من نسيج يشبه نسيج العنكبوت وباعداد كبيرة فإذا لامس شيء النسيج فإنها تأخذ بالحركة في مكانها وبشكل جماعي وكأنها ترقص فلذلك يطلق عليها ( حب إرقص ) وهي خطرة على كل شيء أخضر لأنه يمكن أن يصل طول الدودة عند بلوغها حوالي ثلاث سنتمترات وهي دائمة ألأكل ليلا ونهارا مما يقضي على المحصول . وعلى العموم فإن كلا الطريقتين تنضجان في نفس الوقت وهي نهاية الشهر السادس حيث يتم حصد الشعير أولا وأما القمح يترك مدة أطول بسنابله في الحقل قبل حصده لتتعرض سنابله لحرارة شهر تموز مما يكسب الحب صلابة لا تسمح لسوسة القمح أن تهاجمه عند خزنه . وتحدد جودة القمح بعد طحنه وعجنه فإذا كان مطواعا للعجانة والخبازة فلا يسيح عند حمله ورقه عند الخبز كان عرقه جيدا أما إن كان غير ذلك فيستدعى خلطه بأنواع أخرى من القمح ليسهل التعامل معه عند عجنه وخبزة .
وكانت النساء عند عملية تعشيب القمح والشعير تغني أغان معينة تساعدهن على تمرير الوقت وكذلك للتسلية والحماسة فبإضافة إلى أغاني الدلعونا وغيرها من ألأغاني الشعبية كنت سمع : صاحت القهوة وأنا إيش ذنبي حمصوني واحرقوا جنبي
حمصوني بالمحاميص اودقدقوني بالمهابيش
وغلوني بألأباريق اوزلزلوني بالفناجين
وطلعوني عالدواويني اوقدموني للسلاطيني
يا خضرا ويا ملوخيه حرقت قليبي العزوبيه
علي الخريبه مر عني نصراني من حلاته عن صلاة الصبح الهاني
وبجماله ما شفت إنسان حبلت وولدت مثله نسوان
ياحمرا وإنت يا بندوره ومن العزوبيه نمت مقهوره
ويا ريت وليفي أشوفه بالدوره انعشب سوى دورة ميدان
شفت حبيبي بعشب لحاله بأرض الغرايب ما هو بماله
باعك وليك الردى حاله ما درى حبيبك صار ولهان اما أغاني الحصيد فهي كثيرة منها :ــ وانا طايح البرية وادور عالغزلان
لاقتني صبيه لبيه مثل مطرق الريحان
قلتلها يا بنت اتجوزيني قالت تاتحرث ارض أبويا
حرثت أرض أبوها ورجعت ليها وقلتلها يا بنت اتجوزيني
قالت تايزرع أرض أبويا
زرعت ارضه ورجعت ليها اوقلتلها يا بنت اتجوزيني
قالت تا تحصد ارض ابويا
حصدت ارضه ورجعت ليها وقلتلها يا بيت اتجوزيني
قالت تا تدرس قمح ابويا
درست قمحه ورجعت ليها وقلتلها يا بنت اتجوزيني
قالت تا اتحطه بالخوانبي
حطيته بالخوابي ورجعت ليها وقلتلها يا بنت اتجوزيني
جابتلي قرص ملي وفالت لي كل منه واشبع يا لي لك سنين جيعاني
جابت ابريق الفضه وقالت لي إشرب إشرب وتروى يا لي لك سنين عطشاني
وقالت لي يا ولد ما أقل عقلك بنات الناس ايحبين إللي غوياني
بنات الناس يغوين الشاب الغاوي اللي يفوح المسك من إجيوبه والريحاني
قضيت عمرك يا ولد تشقى وتتعب تتصبح بفدان وتتمسى بفداني
وكذلك من أغاني الحصاد التالي :ــ كن قال ظاهر يا حسرتي عالخوخه بضرب الخناجر ورشق الدم عالجوخه
كن قال ظاهر يا دار يا دار بضرب الخناجر ورشق الدم عالزنار
كن قال ظاهر يا دارنا يا حوف من بعد ربط ألأصايل نربط الخاروف
جوز المليحه خطر عالشام يكسيها ميتين شقة حرير ما يقديها
جوز الشنيعه خطر عالسوق يكسيها ميتين شقة فل ما يقديها
جوز المليحه يا ناس ويني مقعوده بفي العلالي وبوسط الدواوين
جوز الشنيعه يا ناس ويني مقعوده على المزابل وبفي الطوابين ومن أغاني الحصادين أيضا : منجلي يا من جلاه راح عالصايغ جلاه
إن ما جلاه إلا ابفضه لجعل الليله عزاه
منجلي يا ابو الحرافش نزل عالسهل ايقاحش
حصد غمرين اوقته وبعده بالقش ايلاطش
منجلي محلى غلاه ريته يحفظنا ألإله
ايديم علينا المروة ما نسأل واحد سواة وقد كنت أعرف في قريتنا عددا من الحصادين الذين كان يضرب بهم المثل في شدة تحملهم وقوة سواعدهم ومضاء مناجلهم فقد كان البعض منهم وبعدما يحصدون الموسم في قريتنا يهاجرون بمناجلهم إلى الغور أو إلى منطقة البلقاء شرق ألأردن أو إلى سهل حوران في سوريا فيحصدون هناك بالأجرة ويعودون بمبلغ من المال يساعد أسرهم في تدبر أمور الحياة ، وقد روى لي أحدهم أنه كان في أحد السنين مهاجرا إلى حوران سيرا علي ألأقدام فمر عند المساء على قرية قرب مدينة إربد شرق النهر فلاقاه أحد الناس فلما رآه يحمل منجلا طلب منه أن يحصد له قطعة أرض مزروعة قمحا فوافق وذهب برفقة صاحب ألأرض وتعشى عنده ثم طلب منه أن يريه حدود ألأرض وكانت الشمس قد غابت وأعتمت قليلا وكانت الأرض قريبة فذهبا وأراة المالك حدود الحقل فقال الحصاد أنا أنام هنا في ألأرض وغدا صباحا أبدأ بوقت مبكر فرجع صاحب ألأرض إلى بيته وكانت العتمة قد حلت ، قال : فاسترحت قليلا وبعد صلاة العشاء رحت أحصد وكانت مساحة ألأرض حراثة فدان بيوم ــ أي ما يعادل ثلاث دونمات ــ وعند أذان الفجر كنت قد أنهيت حصد ألأرض ، فأشعلت نارا وعملت كوبا من الشاي وأكلت من الزاد الذي معي وصليت الفجر ونمت . فما هي إلا سويعات وإذا صاحب الحقل يصيح وإذا أنا قد حصدت مع القمح أشتال الزيتون التي كانت مزروعة في الحقل ولم أشعر .
بعد تجميع المحصول على البيدر سواء كان من القطاني أو القمح أو الشعير تبدأ عملية درس المحصول فيتم فرد قسم من القش على شكل دائري على البيدر ثم تربط بقرتان بواسطة النير ويدار بهما على القش بدورات متتابعة فيقل حجم القش فيقلب وينفش ومن ثم يربط لوح الدرس إلى النير بواسطة حبل في وسطه ، والوح عبارة عنا الواح من الخشب القاسي وعادة من خشب البلوط المثبتة ببعضها بشكل يشبه باب البيت ولكن تكون مرتفعة قليلا من ألأمام ويعمل على وجهه السفلي قدوح يثبت بها حجارة جرانيتية صلبة قطر الواحد حوالي 3 سم ويسحب اللوح بواسطة البقرتين على وجه القش وتوضع بعض ألأثقال على اللوح لزيادة وزنه وربما يركب عليه العامل أو بعض ألأطفال على سبيل التسلية ويستمر الدوران باللوح والبقرتين حيث يقلب القش بين الحين وألأخر بعد كل عدة دورات حتى ينعم القش ويخرج الحب من السنابل او القرون أو ألأجراس حسب نوع المحصول وتسمى دائرة القش والحب المخلوط ( طرحه ) وبعد أن تنعم الطرحة وتتجانس يتم جمعها على شكل هرم طولي وتسمى ( صليبه ) وفي الليل وعند هبوب النسيم وعلى ضوء القمر يتم تذرية المحصول بواسطة ( مذاري ) خشبية وهي عبارة عن عصا من الخشب تتفرع من أحد رؤوسها اصابع مبسطة وعريضة قليلا مما يسمح لها بحمل بعض من القش والحب وقذفه في الهواء إلى اعلى فيفصل الهواء الحب عن القش والذي يطلق عليه إسم ( التبن ) وتستمر هذه العملية على فترات وعند هبوب ريح مناسبة فيطير التبن الناعم بعيدا أما ألتبن الأثقل فيسقط في مكان أقرب وأما الحب فيرجع إلى مكان التذرية لثقل زرنه نسبيا ومع تكرار العملية يبقى الحب في الصليبة وأما التبن فيكون على الجانب مع اتجاه الريح ولكن يبقى في الحب بعض التراب والحصى الصغير وكذلك عقد القش فيوضع المحصول في غرابيل خاصة وتغربل على البيدر فتنزل حبوب المحصول وتبقى الحصى والعقد في الغربال فتفصل العقد عن الحصى بواسطة مكانس من النتش فتأخذ العقد وألأجزاء الكبيرة من القش وتخلط مع زبل الطابون أما التبن فيخزن في سقائف خاصة لها فتحة في وسط سقفها لإنزال التبن إلى السقيفة عن طريق السطح وتسمى هذه الفتحة ( الروزنا ) وربما قد تكون الروزنا لها استخدامات أخرى كإنزال الزبيب والتين المجفف ( القطين ) إلى أماكن خزنها من أماكن تجفيفها على أسطح المنازل لأن معظم المنازل لم يكن لها أدراج تسهل الوصول لسطحها وإن كلمة روزنا ترد في كثير من ألأغاني الشعبية ويستعمل التبن غذاء للدواب أما التبن الناعم ويسمى ( الموص ) فيجمع ويضاف إلى الطين من أجل إعداد المواقد والكوانين وبيت الخبيز في الطوابين وكذلك يخلط بالطين من أجل إضافة طبقة جديدة للسقائف حتى لا يتسرب ماء المطر من الجدران والسقوف إلى الداخل مما يفسد التبن وألاشياء ألأخرى المخزونة في السقائف وخاصة قش القمح المستعمل في إعداد وشغل اطباق القش وحشو المساند المستعملة في دور الضيافة تحت الوسائد الصوفية من أجل زيادة ألارتفاع ليشعر الضيف بالراحة في جلسته ثم يتم كيل المحصول على البيدر بواسطة مكيال خاص يسمى ( الصاع ) وهو عبارة عن وعاء خشبي معروف السعة والوزن فإن كان المحصول صغيرا عرف بعدد الصاعات وإن كان متوسطا عرف ب ( المد ) وإن كان كبيرا عرف بالقنطار ، ويقوم الفلاح عادة بسداد ما عليه من ديون من محصوله وهو على البيدر ويكال عادة عدد من الصاعات من أجل حلاق العائلة ويتم ألإتفاق عادة مع الحلاق بالحلاقة لكل الذكور في العائلة وخلع ألأسنان لكل أفراد ألأسرة على مدار السنة مقابل عدد من صاعات القمح يأخذها الحلاق عن البيدر عند كيل المحصول وتسمى هذه العملية ( المباصرة ) . وربما يكون صاحب المحصول لا يملك البذار من أجل زراعة أرضه فيأخذ من جاره ميسور الحال عددا من الصاعات يقوم بسدادها عند جني المحصول وعن البيدر أو يكون قد احتاج شيئا من القمح خلال العم من أجل طحنه لغذاء العائلة فيقوم بسداد هذا الدين من البيدر . وقد قيل لي أنه كان في زمن الدولة العثمانية وبعد تصفية المحصول يأتي المعشر ويقوم بختم الصليبة على البيدر بختم رسمي خاص حتى يأتي دور المزارع لدفع العشر ضريبة للدولة وفي النهاية ربما يحمل المزارع مذاريه وشواعيبه التي استعملها في فرد القش وجمعه وتذريته فقط ويخرج من البيدر دون محصول ولكنه يكون قد سدد ما عليه من ديون للجيران والدولة فيخرج مستريح البال والضمير ولا يفكر كيف يدبر أمور العام القادم والله هو الرزاق والفرج يأتي من الله ولا ينسى الرزاق أحد .
التعليقات (0)