الكنيسة واستعجال المصير
كمال غبريال
نقول في أمثالنا الشعبية التي لم تترك شاردة ولا واردة إلا وتعرضت لها: "خطبوها اتعززت، وفاتوها اتندمت". . الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في زماننا المصري هذا في المرحلة الأولى الواردة بالمثل الشعبي، وهي مرحلة تكالب الخُطَّاب عليها، فجماهير الأقباط تهرب في حضنها من مواجهة الواقع المصري البائس والمتأسلم، لترضع من ثدييها المخدر الذي يحلق بها بعيداً في أحلام ملكوت السموات، حيث الملائكة والقديسين يهللون ويسبحون. .
أيضاً تنخرط قياداتنا السياسية ضمن خُطَّاب ود الكنيسة وقادتها أصحاب القداسة والنيافة. . هذه القيادات السياسية صاحبة أضخم رصيد من الفشل في جميع المجالات، بدءاً من صفر المونديال في الرياضة، صعوداً إلى ما دون الصفر، في الحد من تغلغل الفكر الوهابي المعادي للحياة في كافة مفاصل الدولة ووسط الجماهير اليتيمة، التي تجد نفسها فريسة لبترودولار المحظورة وخطابها المخادع المسموم، وليس انتهاء بفشلها في حماية مواطنيها الأقباط، من هجمات الغوغاء قتلاً وحرقاً وهدماً!!
المتوقع هنا وفي ظل هذه الأهمية العظيمة غير المسبوقة للكنيسة وقيادتها، واحتشاد الأقباط في الكنائس، ليس فقط لأداء الصلوات، بل لأغلب مناحي حياتهم الاجتماعية، وربما للبعض الاقتصادية أيضاً. . المتوقع أن يتفانى قادة الكنيسة في خدمة الأقباط والوطن، لكن من المتوقع أيضاً وفقاً لقاعدة "خطبوها اتعززت، وفاتوها اتندمت"، أن يضرب الغرور البعض، وأن تتضخم ذواتهم بحيث ينتهجون التعسف مع من يطلب ودهم ويقبل أيديهم ويسجد تحت أقدامهم (بيسموها ضرب مطانيات)، قائلين لأنفسهم والجماهير تحيط بهم كأمواج المحيط "إللي مش عاجبه يشرب من البحر" أو "مطرح ما يحط راسه يحط رجليه"!!. . فالخير كتير والحمد لله، ويروح واحد، ييجي بداله ألف يخطبون الود ويقبلون الأيادي ويدفعون العشور!!
من هذه الأرضية كان موقف قيادات الكنيسة من مسألة طلاق وزواج الأقباط، فالبحث عما يريح الناس وييسر حياتهم غير وارد، وهذا طبيعي مادامت الأمور قد انقلبت رأساً على عقب، وتحول "الخُدَّام" -الذين هم الإكليروس بكل درجاته- إلى "سادة"، وتحول المخدومين –الذين هم الشعب القبطي- إلى عبيد يتمسحون في أهداب سادتهم التماساً للبركة، بل ويوزع قداسة البابا في الأعياد على حضور محاضراته خمسين جنيهاً عيدية لكل منهم، ولسنا نعلم مصدر هذه الأموال، إن كانت من فلوس البابا قبل رهبنته، وادخرها ليوزعها الآن على الأقباط في ظل الغلاء الفاحش والعيشة الطين، أم أنها من تبرعات وعشور الأقباط، التي تبرعوا بها لأعمال الخير للفقراء، وليس لكي يوزعها البابا عيدية، ليبدو واهب البركات الروحية والمادية أيضاً!!
هنا الظروف مثالية للتعنت والتشدد، واتخاذ أكثر المواقف مثالية ومفارقة لواقع الحياة وطبيعة الإنسان. . فلائحة عام 1938 الخاصة بالأحوال الشخصية للأقباط قد وضعها أقباط أتقياء، واعتمدها عدد من البابوات، حتى أتى عصر يتيح لقيادات الكنيسة وضعاً استثنائياً كما أسلفنا. . لنشهد الآن تفسيراً متشدداً وحرفياً لموقف المسيحية من الزواج، في مقابل التفسير السابق الذي يجري الآن تأثيمه، فما الفارق بين الحالتين، وكلاهما تعطينا تفسيراً مختلفاً لنفس العقيدة المسيحية؟
التفسير الأول والذي يرجع إلى العام 1938 كان تفسيراً لروح النص المقدس على ضوء متغيرات العصر، بهدف تحقيق صالح الناس، كمهمة مقدسة للقائمين على أمور الكنيسة، أما التفسير الثاني والعائد إلى العام 1971، فهو نزوع لتفسير متشدد وحرفي، يلفت الانتباه إلى قوة وهيمنة الجالس على عرش الكنيسة، بحلته القشيبة بصلبانها الذهبية الرائعة، وعصا الرعاية في يده كصولجان الأباطرة. . فالناس عادة لا تكترث أو تعطي اهتماماً لمن ييسر لها أمورها، في حين تشخص عيونها للسيد المتشدد الذي بيده المنح والمنع، وهذه هي القاعدة السيكولوجية التي يقوم المصابون بجنون العظمة باختيار قراراتهم وتوجهاتهم على أساسها. . يتصورون أنه كلما زاد تعنتهم وتشددهم، كلما ازدادت عظمتهم في عيون الناس، وهذا صحيح إلى حد بعيد!!
الآن ليس لدى قيادات الكنيسة، وجوقة المخدرين والمنتفعين بسيطرة الكهنة غير رد واحد على حكم المحكمة الإدارية العليا بأحقية الأقباط في الزواج الثاني. . هم يقولون من شاء أن يتزوج مدنياً فليتزوج، لكن الكنيسة لن تعترف بزواجه، كما قرر السيد صاحب القداسة الأعظم حرمان من يتزوج مدنياً من دخول الكنيسة!!
الرد هذا عظيم ظاهرياً، لأنه عين ما نطالب به نحن العلمانيين بالمعنى السياسي، فالزواج ليس شأناً دينياً، بل هو عقد شراكة (وليس أملاك كما تقول صلوات الإكليل الكنسي) بين طرفين في المجتمع، تتكون على أساسه الخلية الأولى في المجتمع، وهو أمر بالتالي مدني بحت، يندرج ضمن مسئوليات الدولة المدنية، ثم من يشاء بعد ذلك أن يضفي على الزواج طابعاً دينياً فهذا شأنه وحده!!
لكن الواضح هو أن هذا الرد الكنسي الذي ظاهره الرحمة باطنه العذاب، فسادتنا المقدسين الذي يرون مدى التصاق الناس بالكنيسة، وعلى ضوء الهوس الديني الممسك برقاب الشعب المصري كله، يدركون أن لا أحداً سيعتبر الزواج المدني المخالف لرؤى الكنيسة زواجاً، وأن أحداً لن يعطي ابنته أو أخته لمن يتزوجها مدنياً بخلاف رأي الكنيسة ورغماً عنها، هم يرون أنهم بهذا يتهربون من المسئولية الاجتماعية والأدبية تجاه الناس، ويظلون في نفس الوقت على عنادهم وتمترسهم وراء رؤاهم المنقطعة الصلة بالرحمة والمحبة التي هي عماد المسيحية وجميع الأديان!!
وكلاء الإله على الأرض هكذا لا يرون إلا ما تحت أقدامهم. . هم عاجزون عن قراءة التاريخ، والتأمل حولهم للاعتبار. . فالكنيسة الكاثوليكية التي تحرم الطلاق تحريماً باتاً على بعد خطوات منهم، ماذا كان مصيرها؟!!. . لقد أدار الأوروبيين لها ظهورهم، واعتمدوا على الزواج المدني، وهي لا تجسر الآن أن تتخذ موقف الإبعاد لمن يتزوج مدنياً، لأنها دخلت مرحلة السعي نحو الناس الذين ينفضون من حولها، بعكس كنيستنا القبطية وظروفها، والتي جعلت الكنيسة طاردة لأبنائها، من فرط كثرتهم حولها وتكالبهم عليها!!
الآن بالفعل ولو اتخذت الدولة القرار المفروض أن تتخذه، وسحبت مهمة توثيق عقود الزواج من الكهنة، وأوكلته لموظفين مدنيين بالشهر العقاري، واعتمدت لائحة 1938 التي هي معتمدة بالفعل قانونياً، وسمحت بالزواج المدني للأقباط بدون الرجوع للكنيسة. . الآن لن يقدم إلا قلة قليلة على الزواج المدني بالمخالفة لرضى الكنيسة. . لكن إذا كان الرقم المعلن لحجم قضايا الأحوال الشخصية للأقباط أمام المحاكم صحيحاً، وهو 192 ألف حالة، فإن هذا يعني أن حوالي 400 ألف قبطي متحيرون ومعذبون جراء تعنت الكنيسة، وإذا أضفنا إلى هذا العدد أسر هؤلاء، بخلاف العدد المتعاطف مع هؤلاء من العلمانيين والمستنيرين الذين يعلون قيمة الإنسان عن أي قيمة أخرى مدعاة، فإن العدد الرافض لموقف الكنيسة لابد وأن يتعدى 2-3 مليون قبطي على أقل تقدير.
بالإضافة إلى ما سبق، وإذا قدر لليبرالية والعلمانية أن تنتشر في بلادنا، ويتعمق إدراك الشعب المصري بأن الحداثة هي الطريق الوحيد للخروج من مستنقع التخلف المصري على كافة الأصعدة، فإن لنا أن نتوقع مع استمرار تزمت قيادات الكنيسة، أن يتزايد يوماً فيوماً عدد المعارضين لها، بما يؤذن بقرب تحولها من مرحلة "خطبوها اتعززت" إلى مرحلة "فاتوها اتندمت"!!. . ألسنا نقول أيضاً أن "كثرة الضغط تولد الانفجار"؟!!
الكنيسة التي تدفع الناس بعيداً عنها الآن، ولسان حالها يقول: "فليذهبوا إلى الجحيم"، ستعود بالتأكيد بعد فوات الأوان للبحث عما يسمونها "الخراف الضالة"، بعد أن يفضل الناس "جحيم العلمانية" على "نعيم الكنيسة"، لينطبق على قادتها قول الكتاب: "ويل للرعاة الذين يهلكون ويبددون غنم رعيتي يقول الرب" (أر23: 1)!!
مصر- الإسكندرية
التعليقات (0)