مواضيع اليوم

الكلمة صارت أجساداً

محمد سرتي

2009-09-28 18:44:44

0

إنها حكمة الله العظمى أن جعل لخلقه هذا النموذج الثقافي المقدّس في سلالة إبراهيم، تلك الأسرة التي جسّد الله إرادته في سلوكياتهم، ونطقت بكلمته أخلاقياتهم، ورسمت عاداتهم وأعرافهم وتقاليدهم وقناعاتهم للجنس البشري خارطة الطريق إلى الله، إلى الحقيقة، وإلى الخلاص من متاعب الدنيا وأحمالها الثقيلة. لم يتركنا الله نتخبط في غياهب أفكارنا، فهو سبحانه يعلم أنّ قدراتنا العقلية لن تبلغ من النضوج حداً نتراضى فيه حول تعريف الخير والشر، والحق والباطل، والصواب والخطأ، هو يعلم أننا لن نفهم من كلماته المكتوبة سوى ما نريد فهمه، ولن تسعفنا شهواتنا وملذاتنا وميولنا المختلفة في تفسير آياته المقروءة إلا على الوجه الذي يشبع ما بداخلنا من حيوانات، فاقتضى بعظيم رحمته وعطفه علينا أن ينقذنا من شرور أنفسنا، فترك لنا كلمته متجسّدة في سلالة من البشر تعهّد سبحانه بصيانتها وحفظها وحمايتها من الانقراض ما دام الليل والنهار، سلالة تجسّدت فيهم الكلمة واقعاً سلوكياً عملياً لا يترك مجالاً لتعدد المفاهيم. سلالة نفهم من خلال ثقافتهم إرادة الله، نفسّر بتصرّفاتهم كلماته، ونرى تطبيقات آياته تمشي بأرجلهم وتبطش بأيديهم وترى بأعينهم وتسمع بآذانهم.
هناك في وسط العالم، فوق هضبة نجد، بين جيوب الدهناء وكثبان النفوذ؛ أودع الله سبحانه وتعالى أثمن كنوزه وأنفسها على الإطلاق، شعبه المختار الذين عهد إليهم بإمامة البشرية وقيادة الفكر والثقافة الإنسانية إلى ساحل الخلاص، إنهم أبناء إبراهيم الخلّص من أصرح ولد عدنان وأصدقهم نسباً إليه، إنهم أصفى وأنقى آل إبراهيم عرقاً وأصلاً، بني ربيعة بن نزار بن معد، تلك الأسرة التي اصطفاها الله تعالى لتوجيه الكائن البشري نحو صراطه المستقيم، توجيهاً عملياً معاشاً من خلال ما يقدّمونه لنا من نموذج ثقافي إلهي في عاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم وسلوكياتهم وحكمتهم المقدّسة ونقاء سرائرهم وطهارة أرومتهم وفلسفتهم العامة تجاه الكون والحياة. لذلك أمرنا سبحانه أن نصلي ونسلم ونبارك عليهم وعلى أبيهم في خاتمة كل صلاة، وجعل صلاتنا عليهم شرطاً لصحة أي صلاة، لأنه سبحانه يريدنا أن نتذكّرهم مع كل وقفة نقفها بين يديه، نستحضر حبّهم في قلوبنا، نعلن بين يديه ولاءنا وإخلاصنا وطاعتنا وانقيادنا ورضوخنا الثقافي المطلق لهم مع كل استدارة للأرض حول محورها، بل والأكثر من ذلك أنه سبحانه يريدنا أن نفهم هذه الحقيقة جيداً: وهي إننا مدينون لهم بإيماننا، بعقيدتنا وبخلاصنا، وأن عبادتنا بل وأهم أركان عبادتنا لا تكتمل إلا بصلاتنا عليهم، وأن شهادة أن لا إله إلا الله ليس لها أي قيمة في ميزان حسناتنا ما لم نلحقها بـ "اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم".
إنها المرجعية الإلهية التي أراد الله بواسطتها ضبط السلوك الإنساني وتقويم الانحراف الفكري والثقافي وتصحيح مسار البشرية كلما حادت عن طريق الفطرة، مرجعية لا تخضع للنص بل يخضع النص لها، لا تقيدها تلك الأحرف والكلمات المتجمدة التي طالما حاولنا استنطاقها واستفتاءها واستشارتها وطيّها وليّها وعصرها بكلّ ما أوتينا من قوة علّها تجود علينا بقطرات من نور الحقيقة وروح الإرادة الإلهية، ولكن دون جدوى، فالحبر لا ينطق إلا بألسنتنا، والكلمة المكتوبة لا تعبّر إلا عن إرادة من يفسّرها. إن كلمة الله ليست ميّتة، وإرادته لم ولن تكون أسيرة لأهوائنا وتأويلاتنا، أو رهينة بقدرة ذكائنا على الفهم والاستنباط. لقد خلقنا الله بعقول ماديّة صرفة لا يمكنها استيعاب إلا ما ترى وتلمس وتعاين من مادة حسية ذات خواص فيزيائية، ذكاؤنا محدد بقانون السببية، فهو القانون الذي بواسطته فقط يتمكن العقل المادي من إدراك الأمور، إذاً فكل ما وراء المادة هو خارج عن حدود صلاحيات ذلك العقل، لذلك فقد كان الفشل الذريع حليفنا على مدار التاريخ في كل مرة يحاول عقلنا فيها استنباط المعاني المجرّدة من النصوص الصامتة دون الاستعانة بنموذج حسي متجسد وحركي لتلك المعاني. إن النص المقدّس -مهما كان مقدساً- لا يستطيع وحده أن يكون مرجعاً يعبّر عن إرادة الله، والذكاء البشري -مهما كان حاداً- لا يمكنه التبجح بقدرته على فهم تلك الإرادة ما لم يعاينها تمشي أمامه على قدمين.
 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات