متابعة بلادي اليوم
في مساء يوم 11 نيسان 2003، قامت مروحيتان من سلاح الجو الملكي البريطاني من طراز شينوك CH47 بالتحليق فوق الصحراء الغربية العراقية من أجل الوصول إلى نقطة التقاء بجانب الطريق السريع المؤدي الى الحدود الأردنية. وقد ابلغ طاقم المروحيتين أن عددا من المعتقلين العراقيين كانوا تحت حراسة مسلحة على جانب الطريق السريع. حيث تم اعتقالهم بعد حلول الظلام ونقلوا الى معسكر اعتقال. ولكن ما أعقب هذا الاعتقال كان مثيراً للتساؤل: ففي تلك الليلة لقي أحد المعتقلين حتفه على متن واحدة من طائرات الهليكوبتر، بعد أن تعرّض للضرب حتى الموت على يد أفراد سلاح الجو الملكي البريطاني.ولكن هذا الحادث دخل في نفق مظلم من السرية، ولم تتحدث عنه وزارة الدفاع البريطانية إلا عندما اطلعت صحيفة الغارديان عليه وبدأت في طرح الأسئلة. وقد مارست وزارة الدفاع درجة غير عادية من العرقلة والتشويش، والتهرب من الأسئلة ليس فقط لأيام بل لأسابيع وأشهر. وعلى إثر ذلك أطلقت شرطة سلاح الجو الملكي البريطاني تحقيقا يحمل الاسم الرمزي الجراف (Operation Raker)، ولكن هذا التحقيق انتهى من دون أن يكشف عن أي من الحقائق المهمة التي بقيت مدفونة عميقا، ولم يواجه الجناة المزعومين أي تهم.
المقدم ميرسر يدلي بشهادته
وعندما سؤلت وزارة الدفاع البريطانية عن الوجهة التي تم اقتياد المعتقلين اليها فقد أشارت في البداية أنهم كانوا في طريقهم إلى معسكر لأسرى الحرب تتم زيارته وتفقده بشكل منتظم من قبل الصليب الأحمر الدولي. ولكن أصبح واضحا في وقت لاحق أن هذا لم يكن صحيحا: فقد تم نقل الأسرى إلى مكان سري تماما، وهو الأمر الخطير الذي يثير بعض التساؤلات حول مشروعية بعض عمليات القوات البريطانية التي نفذت بتعاون وثيق مع حلفاء الولايات المتحدة. وقد وردت الاشارات الأولى الى أن أمرا مقلقا قد حدث على متن طائرة من طراز شينوك تابعة لسلاح الجو الملكي البريطاني بعد ست سنوات عندما قام المقدم (نيكولاس ميرسر) بالادلاء بشهادته في التحقيق العلني في وفاة بهاء موسى، موظف الاستقبال في فندق ابن الهيثم في البصرة الذي تعرض للتعذيب حتى الموت على يد القوات البريطانية في سبتمبر في تلك السنة. فقد قال ميرسر، والذي كان يحمل منصب المحامي الأقدم للجيش البريطاني في العراق، بأنه حتى قبل وفاة بهاء موسى فقد لقي عراقيون آخرون حتفهم في السجون العسكرية البريطانية في العراق. وعندما طولبت وزارة الدفاع البريطانية بتوضيح موضوع الوفيات الغامضة للأسرى العراقيين، فقد أشارت الى شخص يدعى Tanik Mahmoud (والاسم الصحيح هو طارق محمود)، وقالت انه تعرض لاصابة قاتلة بينما كان على متن مروحية سلاح الجو الملكي البريطاني. ولكن الوزارة أضافت بشكل يدعو للحيرة أن سبب وفاته لا يزال مجهولا، وعندما سؤلت الوزارة كيف كانت متأكدة أنه كان قد تعرض لاصابة قاتلة ولكنها لم تعرف سبب وفاته، فقد استغرق رد وزارة الدفاع على هذا التساؤل خمسة أسابيع..! في نهاية المطاف، اعترف مسؤولون بأن سلاح الجو الملكي البريطاني قد تلقى شكوى من مصدر مجهول، وقالوا ان (ثلاثة من أفراد فوج سلاح الجو الملكي البريطاني على متن المروحية قاموا بالركل والاعتداء على السيد محمود مما أدى إلى قتله غير المشروع). وقد أثار هذا الاعتراف أسئلة كثيرة أخرى، وظهرت وزارة الدفاع البريطانية في بعض الأحيان مترددة في الإجابة. وكان إحد الأسئلة التي أجابت عنها الوزارة على الفور - في غضون ساعات – أن المعتقلين كانوا في طريقهم الى معسكر بوكا قريبا من ميناء أم قصر، وهو المعتقل الذي كان تحت إشراف المحامين العسكريين وجرى الكشف عليه بشكل منتظم من قبل الصليب الأحمر.. ثم تبين لنا بعد ذلك أن هذه المعلومة كانت كاذبة..! وقد نشرت وثائق مؤخرا في أستراليا كشفت المزيد من المعلومات حول الحادث، فقد كان الشخص المقتول (طارق محمود) واحدا من 64 رجلا اعتقلوا عند حاجز طريق أقامه جنود من القوات الجوية الخاصة الاسترالية تعمل جنبا إلى جنب مع وحدة تابعة للقوات الجوية الامريكية، وكان 20 جنديا استراليا في مهمة للقبض على ما يسمى بـ(أهداف ذات قيمة عالية)، والتي يقصد بها أشخاص رفيعي المستوى من أعضاء النظام المخلوع يحاولون الفرار من البلاد.كان جميع المعتقلين البالغ عددهم 64 شخصا في حافلة واحدة متوجهة الى الحدود السورية، بعضهم كانوا سوريين، ويشتبه أن ثلاثة من السجناء على جانب الطريق السريع كانوا من المسؤولين من حزب البعث الحاكم. وكان هناك أيضا أربعة إيرانيين بحوزتهم مبالغ ضخمة من المال تقدر بأكثر من 600،000 دولار. وما تبقى من الأسرى يبدو أن وقعوا تحت الشبهة لأنهم كانوا يسافرون معا، وكان الهدف من اعتقالهم على ما يبدو التحقيق معهم حول مكان وجود صدام حسين. لم يكن أي من المعتقلين الـ 64 مسلحين، ولم يكن أحد منهم يرتدي الزي العسكري. وكان بعضهم في الأربعينيات أو الخمسينيات من العمر، بينما كان أحدهم شديد الإعاقة. على الرغم من كل هذا، فقد تم اعتقال الرجال كأسرى حرب من الأعداء، وتم نقلهم في طائرات من طراز شينوك في مجموعات من ثمانية أشخاص ونقلوا إلى معسكر الاعتقال.وفي أسلوب تحايل قانوني، لم يتم تسجيل الرجال كسجناء لدى الجنود الاستراليين الـ 20 الذين قاموا باعتقالهم، ولا حتى على الورق على الأقل، إذ ادعوا أن جنديا أمريكيا واحدا قام باعتقالهم. وهذا يعني أن الحكومة الاسترالية قد تعد نفسها غير ملزمة بشروط اتفاقية جنيف التي يتوجب عليها أن تطالب بعودة أي أسير نقلته إلى الولايات المتحدة إذا ما أصبح واضحا أن القوات الأميركية لم تكن تتعامل معهم وفقا للاتفاقية.
شكوى مجهولة المصدر
في هذه المرحلة من التحقيقات لصحيفة الغارديان، تم تسريب تقرير مكتوب من قبل قائد السرب 2 من فوج سلاح الجو الملكي البريطاني. وأظهرت هذه الوثيقة التي أعدت كجزء من التحقيق الميداني الوجيز الذي قام به الجيش الأمريكي حول الحادث أن الاستراليين قاموا بتقييد الأسرى بربط أصابع إبهامهم معا قبل تسليمهم، وهذا يؤكد مسؤوليتهم المباشرة في عملية الاعتقال. وبعد تسليمهم للبريطانيين قام جنود سلاح الجو الملكي بوضع أكياس خيش في رؤوس الأسرى ثم اقتيادهم على متن طائرات من طراز شينوك، وذلك على الرغم من الحظر المفروض على تغطية الرأس والتي فرضت على القوات المسلحة في المملكة المتحدة قبل أكثر من أربعة عقود. وقد تم إجبار كل أسير على الانبطاح على أرضية الطائرة، أما أولئك الذين (رفضوا تبني وضع الجلوس المطلوب) فقد أجبروا على الانبطاح على الأرض بينما وضع جنود ركبهم عليهم. بعد أن وصلت طائرات هليكوبتر إلى وجهتها، فقد وجدوا أن 2 من السجناء عديمي الحركة (غير قادرين على الاستجابة)، وفقا لقائد سرب، في حين (كان هناك بعض الاضطرابات في الجزء الأمامي من الطائرة)، لأن سجينا ثالثا وهو الشاب المعاق قد انفصلت لسبب ما ساقيه الاصطناعيتين.تم تحميل الأسيرين الذين كانا عاجزين عن الاستجابة في الجزء الخلفي من سيارة همفي، حيث ألقيا فوق بعضهما، في حين وضع الرجل المعاق من دون ساقين في مقعد الراكب الأمامي. تم اقتياد الأشخاص الثلاثة الى (موقع اعتقال) حيث أعلن عن وفاة أحد الأسرى، وقاموا بقص غطاء الرأس بعد أن لم يتمكنوا من فتحه بسبب إحكام إغلاقه حول الرأس. وخلص التحقيق الذي أجرته الولايات المتحدة أن وسائل (مناسبة) تم اتباعها للسيطرة على الرجل الذي توفي. ولكن سلاح الجو الملكي البريطاني لم يقم بأية محاولة للاتصال بأقرباء الشخص المتوفى لاطلاعهم على وفاته، ولولا الشكوى مجهولة المصدر لبقي هذا الأمر طي الكتمان الى الأبد..! ومن المعروف أن الشكوى قد قدمت من قبل أحد أفراد طاقم المروحية، والذي لم يكن راضيا على ما شاهده يحدث في الطائرة المروحية، وبعد تلقي الشكوى فقد تحركت شرطة القوة الجوية البريطانية ببطء شديد. فبحسب وزارة الدفاع، فقد انتظروا أكثر من عام بعد الوفاة ليسألوا الطبيب الشرعي الخاص بسلاح الجو الملكي البريطاني ما إذا كان ينبغي إخراج الجثة وفحصها. وعندما سؤلت وزارة الدفاع عن سبب هذا التأخير، إدعت بأنه (لم يكونوا يعرفون مكان الدفن للسيد طارق محمود). ولكن عندما تم الكشف عن موقع دفن المتوفى من قبل الجيش الأمريكي، قال المسؤولون في وزارة الدفاع أنه (جرت مناقشات بشأن إمكانية الحصول على رفات السيد طارق محمود، واخذا في الاعتبار المخاوف الأمنية الخطيرة، والحصول على إذن من الإمام المحلي)، وبحسب وزارة الدفاع فإن الطبيب الشرعي قد قرر أنه (نظرا لطبيعة المناخ ودرجة التحلل منذ الوفاة، فإنه سيكون من الصعب للغاية تحديد سبب الوفاة)، ونتيجة لذلك، لم تقم الجهات التحقيقية بتشريح الجثة على الاطلاق. ولكن نصيحة الطبيب الشرعي هذه قد فاجأت أحد كبار الأطباء الشرعيين العاملين في القطاع المدني، والذي قال بأن معرفة حالة التحلل للجثة لا يمكن إلا بعد استخراجها والكشف عليها. وقال ديريك باوندر، أستاذ الطب الشرعي في جامعة دندي، والذي لديه خبرة في عمليات استخراج الجثث والفحوص بعد الوفاة في الشرق الأوسط - بما في ذلك حالات الوفاة في أثناء الاحتجاز، وقال: (إن توصية الطبيب الشرعي التابع لوزارة الدفاع مخالفة لتوصية أي عالم في الطب الشرعي في المملكة المتحدة يقوم بالتحقق في ادعاء بالاعتداء يؤدي إلى الموت)..! ويقول هذا الطبيب أن فحص الأنسجة الصلبة ربما تكون قد كشفت عن أدلة على وجود اعتداء أدى الى وفاة هذا السجين، وكان بالامكان الكشف عن الأضلاع، على سبيل المثال، حيث أن كسرها في بعض الأحيان تظهر شكلا مميزا متسببا عند الركل. وعندما سؤلت وزارة الدفاع البريطانية لتقديم نسخة من نصيحة الطبيب الشرعي، قالت لم يمكن العثور على نسخة في ملفاتها. وبعد أن تلقت وزارة الدفاع هذه التوصية من طبيبها الشرعي فقد بادرت الى إغلاق القضية لعدم توافر أدلة كافية، وقرروا أن إجراء مزيد من التحقيقات لا طائل منه. وتم توجيه السؤال الى وزارة الدفاع عن سبب اعتقال هؤلاء الرجال بصفة (أسرى حرب أعداء) وهم لم يكونوا مسلحين وكانوا جميعا يرتدون ملابس مدنية، فقد جاءت الاجابة عرجاء، حيث قالوا: (قوات المملكة المتحدة لم تقم باحتجاز هؤلاء الأفراد، وينبغي توجيه هذا السؤال إلى بلد الاحتجاز)..!.
http://www.beladitoday.com/index.php?aa=news&id22=3165
التعليقات (0)