أكاد أجزم أن الحدث العربي الأكثر إثارة واستئثارا بالاهتمام الذي تستعدّ سنة 2009 لتسجيله ضمن حصادها سيكون من نصيب كرة القدم...
وبما أنّ النّحس وسوء الطّالع يأبى أن يتزحزح من "برج"حاضر العرب فإنّه لا بارقة أمل في الاستمتاع بحظّ سعيد حتى إن تسلّل عن طريق تمريرة كروية أهّلت منتخب الجزائر ليُمثّل العرب في "منديال" جنوب إفريقيا...ليس المقصود،طبعا،حرمان الجزائر من هذا التّمثيل،إنّما المقصود "الطّعم المرّ" الذي صاحب هذا التّرشّح والذي تجرّعتْه الجماهير العربية...وهو طعم شغلنا عن نخوة شرف التّمثيل في محفل رياضي عالمي بل قلّل من أهمّيته،إن لم نقل غيّبه،قياسا بالنّيل من "العرْض العربي" الذي لا تنقصه طعنات...
ومع أنّي أتّفق مع من يُندّد بالعنف "المادّي" ولا يُبرّره ،مهما كان مصدره ومأتاه،حتى الذي يأتيه طيش شبابي معزول نتيجة أجواء رياضية مشحونة،فإنّ هذا العنف يهون أمام "عنف" بعض الأجهزة الإعلامية العربية التي ضخّمت الحدث وهوّلته ليطغى على الأخطار الحقيقية التي تستهدفنا والأوبئة التي تفتك بنا...ومع أنّي لا أجادل من يُدافع عن هذا الإعلام من زاوية الانحياز والغيرة على حرّية الرّأي والتعبير التي هي الأخرى تُعاني من شتّى أنواع العلل والتضييقات فإنّي أجادل في القدر من المسؤوليّة الذي يتحمّله كلّ طرف إزاء التّبعات التي تنجرّ عن التّهويل إلى حدّ قرع طبول الحرب في حوادث شغب ليست لها من خلفيّات سوى مزاج شبابي وجد فسحة من الحرّية لترجمة تعطّشه للانتصار وتأكيد ولائه لوطنه ،وهو ولاء لا يتنافى مع إيمانه بعروبته بل يُثريها بخصوصيات تبدو تفاصيل غير ذات أهمّية،والحال أنّها مقوّم من المقوّمات الأساسية في المشهد العربي ككلّ والذي يأبى الاختزال،فقط،في المشترك من اللغة والدّين والامتداد الجغرافي-على أهمّيته- ويُحيل إلى الإقرار بهذه الخصوصيات التي لا تُنفّر ولا تُفرّق متى أجدْنا فهمها وعملنا على توظيف إيجابياتها فيما يُعزّز المشروع القومي العربي ببعديه الوجداني والعقلاني...
بالرّغم ممّا طفا من مظاهر التّشنّج والتّعصّب لهذا المنتخب الكروي العربي أو ذاك فإنّ الموضوعية،فضلا عن الحكمة،تقتضي أن يتنزّل هذا السّلوك في إطاره الحقيقي والذي لا يمكن أن يُترجم عن "حقد" بين الشعبين الجزائري والمصري ولا عن "كراهيّة" أحدهما للآخر...وفي كلّ الأحوال فإنّ البحث عن تفعيل هذه المشاعر البغيضة قد تجد مبرّرا لتغذيتها لدى من لهم مصلحة في ذلك...والشعوب العربية تُدرك جيّدا،بحدسها قبل عقلها،أنّ مصلحتها في وحدة صفّها...وللتّدليل على ذلك فإنّه ليس من مجانبة الصّواب،مثلا،المراهنة-والحال على ما هي عليه اليوم من "دسّ للسّمّ في الدّسم" على أنّه لو دُعي الشعبان المصري والجزائري إلى استفتاء لأيّ صيغة من صيغ المصير المشترك لجاءت النتيجة حاسمة لفائدة هذا التلاحم والتّقارب ولخابت آمال المراهنين على شرخ خُيّل لهم أنّهم حبكوا مؤامرته بدهاء مستغلّين فيه حماسة فطريّة-رغم كلّ تشنّجاتها-لا تعدو أن تكون عرضيّة وعابرة،تجد جانبا مهمّا لتفسيرها في لعبة كرة القدم،في حدّ ذاتها،من حيث أنّها لعبة شعبية متاح للجميع-بما في ذلك المخمورون و"البلطجية"- الاستمتاع بفرجتها واستباحة مغازلتها وتحليل فنونها ومدح نجومها أو شتمهم بهامش واسع من الحرّية يُفتَقد في سواها...
إنّ الجماهير العربية،خصوصا الشابّة،محتاجة إلى رموز تنبهر بها وتعشقها،وهي إذ لا تجد أين تصرف فائض مشاعرها الوطنية الضّخم تتحيّن أيّ فرصة متاحة لتُفجّر المكبوت من هذه المشاعر...أجل قد يُفجّرها البعض في الانتصار لقضية وطنية أو قومية او إنسانية،لكنّ هذه القضايا محفوفة بالمحاذير والمحرّمات والمنزلقات فلا يجرؤ على ركوبها غير فرسان قُدّتْ طينتهم من معدن صلب...
وعليه فإنّ نجما في الطّرب جزائريا أو مصريا أو من أيّ بلد عربي آخر،فضلا عن نجم له صيت عالميّ، يمكن أن يأسر وجدان شبابنا العربي ويجرّه إلى الاستمتاع بالطرب إلى حدّ الانتشاء فيفقد البعض صوابه في رقص هستيري أو في تدافع تنجرّ عنه حوادث مفجعة وأليمة...تُرى هل هذا الصّنيع هو عنوان "همجيّة وبربرية" وفعل "إرهابي" وترجمة عن مشاعر عدائية دفينة؟.ا..
لا أحد يثشجّع العنف المادّي أو يُبرّره بتعلّة الحماس المفرط لمنتخب وطني،لكنّ إدانته لا يجب أن تتحوّل إلى إدانة شعب...أو إلى مطيّة يركبها من لا يجوز أن نُصنّفهم،أحبّوا أم كرهوا،ضمن من تحكمهم نزوة طائشة...لأنّ عنفهم ليس ماديا بل هو معنوي،وهو عنف أعمق أثرا وأشدّ إيذاء...
وإذا كنّا نعتب في هذا السياق على التّهويل الإعلامي الذي استدرجتْه الإثارة إلى إثمها فما عسانا نقول للقادة الحكماء بحكم موقعهم ونفوذهم وسلطة القرار التي بحوزتهم؟..أليس من حقّنا أن نُعوّل على حنكتهم ودرايتهم وخبرتهم في معالجة أحداث عرضية لمباراة رياضية بين منتخبي شعبين شقيقين؟.ا..ألم يُعوّدونا على رحابة صدرهم وتسامحهم باحتواء استفزازات واعتدءات من الأعداء بسابق إصرار منهم وصلف وعنجهيّة واستخفاف،فما بالك بحوادث هيجان كروي بين أشقّاء شبيهة بما يحدث بين أفراد ينتمون لوطن الواحد...
إننا لا نستطيع أن نقول لهم إلاّ ما يليق بمرتبتهم الرّفيعة ومسؤوليّاتهم التاريخية، مُتجاهلين ردود الفعل التي قد تُوحي بالتّشنّج لأننا قد نجد لها مبرّرا وهي صادرة عن أناس عاديين من العامّة لكن نعجز عن تبريرها إن صدرت عن نخبنا...فقط نذكّر بأنّ:
-مقابلة كرة القدم التي استضافتها السودان قد أوفت بوعودها من حيث أنّها أمّنت عرضا فرجويا ممتعا أثبت من خلاله لاعبو منتخبي مصر والجزائر،على حدّ السواء،أنّهم كانوا على قدر عال من المسؤولية والروح الرياضية.
أنّ المقابلة أصبحت من الماضي.
_أنّ ما حدث من تجاوزات ارتكبها هذا الطّرف أو ذاك ليست بالكارثية،كما يُخيّل للبعض... وأنّه يجب أن تتوقف عند الحدّ الذي انتهت إليها...وأنّها تضع اليوم على المحكّ النخب والقادة لاختبار قدرتهم على احتواء آثارها السلبية وإخماد ما تبقّى من هيجان مفتعل لا يُمكن أن يتستّر بأيّ تعلّة لها علاقة بأجواء المقابلة وما حفّ بها في حينها...
-إنّ ما قد يتفاعل من أحداث سلبية مستقبلا،لا قدّر الله،يجد تفسيره في "الجدّ لا في اللعب" و"الجدّ" لا يهمّ إلا البلد الذي يكون مسرحا لهذه الأحداث (مع تكرار لا قدّر الله)...أي تقريبا وفقا لما ورد في بلاغ مصري دعا المحتجّين إلى:"ألاّ يتركوا المجال لكلّ من يُبادر باستثمار الموقف لإثارة الشغب أو تحقيق أهداف خاصة."
أما إذا تبقّى قدر من الإحساس بالمرارة لنتيجة كرة قدم منحت تأشيرة عبور "لمنديال" جنوب إفريقيا لهذا الفريق العربي أو ذاك،فإنّه علينا أن نعتبر من مقابلة لنفس الغرض وفي تفس الأسبوع دارت بين فريقين اوروبين (إيرلندا/فرنسا)،كان فيها التّرشّح لفرنسا نتيجة هدف في "شباك الحكم" بما أنّه لم يتفطّن لهفوة أو غشّا أتاه لاعب فرنسي قاد إلى انتصار غير مستحقّ،ومع ذلك لم تخرج ردود الفعل عن دائرة المألوف في مثل هذه الأجواء الكروية...
وإن نُحجم عن القول بأنّ الكرة اليوم في شباك "حكامنا" فإننا نراها بوضوح في ملعب السياسيين...لنهوّنْ الأمر ولا نُعدّه من قبيل :"الذكريات الأليمة التي لا يُجدي فيها دواء إلا الزّمن.."،ولنثق في "قدرات خاصة للحكماء."...آملين ألاّ تزداد الأوضاع تعكّرا فنضطرّ إلى الاستنجاد برمز عربي قد نتوهّمه في جامعة عربية منهكة بالهموم العربية لنقول:أين عصى موسى يا عمرو؟..
إننا نقبل أن يحتلّ أيّ حدث عربي مهما كان مؤلما ومشينا صدارة الأحداث التي تدوّنها لنا سنة 2009 ما عدى حدث عداوة بين دولتين عربيتين مرموقتين من أجل...لا ندري.ا..
التعليقات (0)