الكتلة التاريخية
من سقوط النخب إلى صحوة الشباب
"الحاجة تدعو اليوم إلى تحالف وطني على شكل كتلة تاريخية تضم جميع القوى الفاعلة في المجتمع، والتي من مصلحتها التغيير لتحقيق الأهداف الوطنية"
محمد عابد الجابري
لقد أدت الثورات المعلوماتية إلى تغيير جذري في منظومة القيم لدى مجتمعاتنا العربية جميعها، ففي الوقت الذي اعتدنا فيه السلطة الرمزية للمثقف وريادة النخبة في قيادة الجماهير، أمسينا اليوم نرى العكس تماما، فقد ولى دور النخب التنويري وتراجَع أمام وعي الجماهير المتزايد الناتج عن سرعة نقل المعلومة ويسر الحصول عليها بعيدا عن وساطة النخب.
فلا أحد كان ينتظر الصحوة الجماهيرية التي أدت إلى ثورتي "الفل والياسمين"، حتى إن أكثر المتفائلين بصحوة الشباب لم يرقب ما وصلوا إليه انطلاقا من العوالم الاجتماعية الافتراضية، في الوقت الذي كانت تنظر النخبة إلى هذه الوسائل الافتراضية المستجدة في الغالب بابتذال في علاقتها بتنمية الوعي، إذ هي تعطيل له وتضييع للوقت وملهاة للأفراد دون الخوض في العلم والسياسة.
إن الواقع الافتراضي بيَّن بما لا يدع مجالا للشك أن زمن النخب ولَّى وخاب وأصبح من الماضي، مرد ذلك إلى عدم مواكبة النخب نفسها لهذا الحراك المعرفي التقني أولا، فأغلبهم "أميون معلوماتيا"، وثانيا إلى الرغبة في التملك في السياسة وغيرها، أو نهج إستراتيجية الهروب والتخفي.
كل هذه المثبطات التي تعرفها النخب اليوم لم يكن الرادَّة الأُوَل يطمئنون إليها في عصورهم، بل كان وجود النخب يلزم عنه كشف المستور ولجم السياسي والرفع من الوعي الجماهيري، إذ كانت تقودهم وتنزل إلى سدتهم، وتقرب الهوة في الوعي، لكن العكس ما حصل اليوم وسيحصل أمام نهاية النخب، حيث إن الجماهير هي التي تقود النخب، بينما تتوارى هذه الأخيرة وراء الشباب.
فقد تعودنا أخيرا أن نسمع في تورثي الفل والياسمين الشبابيتين كثيرا من العبارات من قبل نخب متعددة المشارب من رجال الدين وسياسيين وأدباء و علماء وغيرهم، من مثيل: "نحن وراء الشباب"، و"نحن مع هؤلاء الشباب"، و"الشباب يريد ونحن نريد ما يريد" وهلم جرا من العبارات التي تفصح عن هذا النكوص المشؤوم للنخبة أمام الصحوة المثمرة للجماهير الشعبية.
لم تعد اليوم النخبة تلك الفئة من المجتمع المنتجة للمعرفة والحاضنة للوعي والتغيير، بل عوضها "الشباب المعلوماتي"، الذي لا يؤمن بالتحجيم ضمن تيار فكري معين، بل يبحث عن الكتلة التاريخية التي دافع عنها المرحوم محمد عابد الجابري مرارا، ولم تجد قبولا في الممارسة من لدن النخب، وهي تعثر على موطئ قدم لها يسيرة بين أحضان الشباب الذين تخلوا عن كل ما يجعلهم مختلفين سواء كان اعتقادا أم انتماء طبقيا أم اختلافا في النظر إلى العالم والأشياء. فقد كشفت بالفعل ساحة التحرير في قلب عاصمة أرض الكنانة وفي ساحات أرض قرطاج عن هذا الاتحاد والتكتل، مادام المبتغى واحد: التغيير المنشود.
لقد برهنت المواقع الافتراضية التي يغمرها الشباب عن تفوقها التاريخي الناجز على نكوص النخب واضمحلالها، فهي التي استطاعت أن تغير، وتصل إلى الكتلة التاريخية التي لا يمكن التقدم إلا بوساطتها في المجتمعات العربية درءا للتشرذم وابتغاء للتنمية والانتقال إلى الديموقراطية الحق.
تعتبر الكتلة التاريخية التي خلدها الشباب اليوم وكتبها بمداد الفخر قائمة على نكران الذات والتحلي بالروح الجماعية والوطنية خدمة للوطن في الآن والمآل، مما غير من الصورة الذهنية المنطبعة أحكاما قيميا مردودة عن الشباب المعلوماتي، وشكلت قوالب جاهزة منذ عقدين من الزمن أو ما يزيد.
يمكن أن نطرح نهايةً سؤالا إشكاليا مفاده: كيف تستعيد النخب قيمتها في ظل هذا الترهل والنكوص والقهقرى والنرجسية التي تعرفها؟ فلا مثقف يمكنه أن يكون فاعلاً، كما علمتنا دروس التاريخ، وهو أناني نرجسي. إن المثقف شمعة تموت لتضيء الطريق للآخرين، فمن محنة ابن حنبل إلى نكبة ابن رشد وابن خلدون والغزالي، كل هؤلاء وغيرهم خلدوا أنفسهم بنكران الذات، والتسلح بالفضح، والكشف، والتعرية خدمة للمجتمع والوطن.
إن الكتلة التاريخية الحقيقة التي ننشدها في بلادنا العربية، لا يمكن أن تكون فاعلة إلا بإعادة النظر في منظومة القيم الفردية والجماعية والوطنية، وعلى رأسها استعادة الرأسمال الرمزي للنخبة، باعتبارها الكفاءة التي يمكنها أن تقود المجتمعات العربية إلى التطور وتجاوز التأخر التاريخي الصارخ وضمان استمرار الكتلة التاريخية ونجاعتها.
المصدر: مجلة عود الندالعدد 57
لقراءة النص من المصدر المرجو النقر هنا http://www.oudnad.net/57/amelabed57.php
التعليقات (0)