الكتاب العرب التوراتيون..أحمد الرمح نموذجا
تعتبر قصة تحريف التوراة من القصص الرائجة في العالم الاسلامي، وكثيرا ما يلجأ اليها الكتاب والباحثون العرب ليدحضوا الحق اليهودي في ارض اسرائيل (فلسطين). لكن الملفت في الأمر ان هؤلاء الكتاب، لدى خوضهم في سرد تاريخ ارض اسرائيل (فلسطين)، لا يجدون في الغالب مرجعا تاريخيا يستندون اليه لتأييد مزاعمهم، سوى التوراة ذاتها..؟!
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل من المصداقية والنزاهة العلمية في شيء ان يعتمد الباحث مصدرا تاريخيا يعتبره محرفا..!!؟ ألا يعتبر هذا النوع من البحث والدراسة انتقائيا ونمطيا؟؟ علما ان هؤلاء الباحثين ينتقون من التناخ (التوراة والأنبياء وكتوفيم) فقط ما يتماهى مع آراءهم ومواقفهم المسبقة فيما ينزعون صفة المصداقية عن الروايات التوراتية التي لا تتماشى مع هذه المواقف ؟!
ولو تأملنا في احدى المقالات للباحث السوري الشيخ أحمد الرمح بعنوان "الصراع على فلسطين ... أكذوبة الإدعاء اليهودي في فلسطين"، نشرت على موقع الفرات بتاريخ 19 -10 -2008 ، لوجدنا ان الكاتب يستهل مقالته بالعبارات التالية:
[ لا يمكن تاريخياً أن تكون فلسطين أو القدس لليهود فإبراهيم عليه السلام رغم عدم وجود أية علاقة له بهم ؛ جاء إليها لاجئاً بعد وصول اليبوسيين العرب بأكثر من ألفي سنة ؛ وهم دخلوها لأول مرة في عهد يوشع بن نون عليه السلام الذي تولى قيادة بني إسرائيل بعد وفاة موسى عليه السلام في التيه أي في بداية القرن الثالث عشر قبل الميلاد ، فلا إبراهيم ولا اسحق ولا يعقوب ملكوا شيئاً في أرض فلسطين أثناء إقامتهم فيها ، أما موسى فما وطأت قدماه أرضها قط ]
غني عن القول إن السرد التاريخي اعلاه له مصدر تاريخي واحد لا غير، هو التوراة .. فهل من الأمانة العلمية والبحثية في شيء ان يستشهد صاحبنا بالتوراة وحدها لأثبات مزاعمه، علما ان العرب والمسلمين لا يجيزون ذلك لليهود، بمعنى انهم لا ينفكون عن الادعاء بأن اليهود يستشهدون بتوراتهم "المزيفة" لأثبات "مزاعمهم" التاريخية في (فلسطين) ارض اسرائيل !!؟ فكيف يجيز شيخنا الجليل لنفسه ما ينكره على غيره !؟ وهل تصبح التوراة مصدرا تاريخيا معتبرا حين يستشهد بها علماء المسلمين، فيما تعتبر محرفة ومزورة عندما يستشهد بها اليهود !!؟ أليست هذه إزدواجية معايير فاضحة ؟؟ الا يدل لجوء هؤلاء الى التوراة وحدها كمصدر تاريخي على إفلاسهم وعجزهم عن إقامة الدليل التاريخي دون الاستعانة بالتوراة !؟
واذا كان العرب لا يجدون نقشا او مخطوطة او وثيقة واحدة باللغة العربية دُوّنت في (فلسطين) ارض اسرائيل خلال عصور ما قبل الغزو الاسلامي، فمن أين يعلم شيخنا العلاّمة أحمد الرمح ان اليبوسيين الذين عاشوا في (فلسطين) ارض اسرائيل قبل آلاف السنين كانوا عربا ..!!؟ هل ثمة نقوش بالعربية تعود الى الحقبة اليبوسية ؟؟ هل يكفي ان يهتف مشايخ المسلمين بعروبة اسماعيل (علما ان كاتب المقالة الشيخ احمد الرمح هو داعية اسلامي وخطيب مسجد)، حتى تصبح عروبة اليبوسيين والكنعانيين ناصعة !؟
ويستردف شيخنا بالقول :
[ يتحدث الدكتور أحمد سوسة في كتابه القيم (العرب واليهود في التاريخ ) مفنداً الإدعاء اليهودي بقوله : (إن أرض فلسطين باعتراف التوراة ذاتها كانت أرض غريبة بالنسبة إلى آل إبراهيم وآل اسحق وآل يعقوب إذ كانوا مغتربين في أرض فلسطين بين سكانها الأصليين ، والتوراة تتحدث عنهم بصفتهم غرباء وافدين طارئين على فلسطين.....وإن أبناء إسرائيل الاثني عشر ولدوا كلهم باعتراف التوراة في منطقة حران.....ويعني ذلك أن مولدهم ونشأتهم كانا خارج فلسطين ]
ونكرر السؤال ذاته : كيف يفند الدكتور أحمد سوسة الإدعاء اليهودي علما انه يستند في "تفنيده" الى التوراة دون غيرها !!؟ اما كان يتوجب على الدكتور ان يتحفنا بمصدر تاريخي واحد على الأقل يؤيد ما ورد في التوراه !؟ هل يكفي ان يستدل الدكتور على أقواله بكتاب ديني لا يعترف به أصلا !؟ واذا كان القرآن يجبّ ما قبله وقد جاء مهيمنا على التوراه ومصححا لها، حسب مزاعم المسلمين، فلماذا يستشهد الباحثون العرب بالتوراه معتبرين ما ورد فيها حقائق علمية دامغة! "تدحض مزاعم اليهود" !!؟ وما هي الحقائق القرآنية التي تصحح المعلومات التوراتية "المحرفة" التي تتحدث عن تاريخ الكنعانيين واليبوسيين ؟؟
وما زال الحديث عن مقالة (الباحث) الشيخ أحمد الرمح حيث يقول متابعا :
[ ودعونا نحتكم في ذلك إلى التوراة ذاتها ، حيث جاء في سفر التكوين أن الله أمر إبراهيم أن يخرج من العراق ؛ ويذهب إلى فلسطين ؛ وعندما دخلها كان عمره خمسة وسبعين عاماً .ولما بلغ عامه المئة ولد له اسحق عليه السلام ، ثم ماتت سارة زوجته ، ولم يكن يملك شبراً في فلسطين ؛ بدليل أنه طلب من العرب أن يسمحوا له بأن يدفن سارة في فلسطين ؛ فقد جاء في التوراة وفي سفر التكوين الإصحاح الثالث والعشرين : ( فأتى إبراهيم ليندب سارة ويبكي عليها ، وقام إبراهيم من أمام مَيْتَهُ وكلم بني (حِث) قائلاً : أنا غريب ونزيل عندكم أعطوني مُلك قبر لأدفن ميتي أمامي) فسمحوا له بدفن سارة ومات إبراهيم عليه السلام وقد بلغ من العمر (175) عاماً ولم يمتلك شبراً من فلسطين .وعندما بلغ اسحق عليه السلام عامه الستين ولد له يعقوب (إسرائيل) ومات إسحق وعمره ( 147 ) عاماً ولم يملك شبراً أيضاً فيها . ثم رحل يعقوب بذريته إلى مصر ؛ ليلحق بولده يوسف عليه السلام وعاشوا فيها (430 عاماً) حتى خرجوا مع موسى هرباً من فرعون . كما تؤكد ذلك التوراة في سفر الخروج ]
وما زلنا نكرر السؤال ذاته مثنى وثلاث ورباع: لماذا يحتكم شيخنا في (بحثه) الى التوراة دون سواها !؟ واذا كان شيخنا (الباحث) مولعا بالكتب الدينية، فكيف يفسر سكوت القرآن المطبق عن تاريخ فلسطين بما في ذلك تاريخ الكنعانيين واليبوسيين، فيما يسهب (القرآن) في الحديث عن تاريخ بني اسرائيل دون غيرهم من الأقوام السالفة التي سكنت (فلسطين) ارض اسرائيل !؟
ويواصل شيخنا في سرد "الحقائق التاريخية" قائلا :
[ ولم يدخل اليهود القدس إلا في السنة الثامنة لحكم داود عليه السلام يقول الدكتور حسن ظاظا في كتابه (القدس مدينة الله أم مدينة داود): المدينة المقدسة ظلت إلى عهد داود لليبوسيين (العرب) سكانها الأصليين من شعب فلسطين ؛ ومعروف أن داود عاش حوالي سنة ألف قبل الميلاد .... وبقيت تقاوم التسلل الإسرائيلي ، والمطامع اليهودية ]
نقول : كيف أصبح (معروفا) أن داود عاش حوالي سنة ألف قبل الميلاد اذا كان المصدر التاريخي الوحيد الذي يسرد سيرة داوود هو التناخ (كتاب اليهود) ..!؟ هل الدكتور حسن ظاظا ايضا غارق حتى النخاع في (الأساطير) التوراتية ..!؟ ثم ما هذا الخلط الغريب بين المعتقدات الدينية والدنيوية، فاذا كان داوود يعتبر في الاسلام نبي الله الذي جاء يدعو الناس، ومن ضمنهم اليبوسيين، الى الحق والهداية، فكيف يعلو حق اليبوسيين الوثنيين على الحق السماوي الممثل بالنبي داوود، كما يستشف من قول الكاتب ..!!؟ هل نسي شيخنا الجليل ان داوود يعتبر نبيا مسلما حسب العقيدة الاسلامية !؟ فكيف يفسر تفضيله لليبوسيين الوثنيين، لمجرد اعتقاده بعروبتهم، على قوم داوود الموحدين..!؟ الا يحق لنا القول، وفقا لهذه القاعدة، إن قريش أنصع حقا من محمد وأتباعه وأولى منهم بالجزيرة العربية ..!؟
وينضم الدكتور أحمد عثمان الى جوقة الكتاب العرب التوراتيين، فها هو يتحدث في كتابه ( تاريخ اليهود ) قائلاً :
[ لم يكن لبني إسرائيل وجود أيام داود لا في أي موقع بالساحل الفلسطيني ولا في الجليل بشمال فلسطين ، بخلاف موقع صغير عند تل القاضي ، ولا في صحراء النقب في الجنوب ، وكان وجودهم منحصراً في بعض المواقع الجبلية في المنطقة الممتدة من دان ( تل القاضي ) في الشمال إلى بئر السبع في الجنوب ]
لماذا يعتبر الدكتور هذه (الأسطورة التوراتية) حقيقة تاريخية ساطعة مع العلم انه لم يقارنها مع مصادر تاريخية أخرى كما هو متبعا في الدوائر البحثية ..!؟
ويأبى الشيخ معز عبد الستار الا ان ينضم هو الآخر الى قائمة الكتاب العرب التوراتيين، فها هو يقول في كتابه (اقترب الوعد الحق يا إسرائيل) :
[ لو جمعت كل السنوات التي عاشوها في فلسطين غزاة مخربين ، ما بلغت المدة التي قضاها الإنجليز في الهند أو الهولنديون في اندونيسيا فلو كان لمثل هذه المدة حق تاريخي لكان للإنجليز والهولنديين أن يطالبوا به مثلهم ]
كيف أحصى شيخنا الجهبذ السنوات التي عاشها اليهود في (فلسطين) ارض اسرائيل، علما انه كمن سبق ذكرهم آنفا اعتمد في سرده هذا اعتمادا كليا على التوراة دون مقارنتها مع اي مرجع تاريخي آخر ..؟!! كيف اكتسبت الروايات التوراتية التاريخية كل هذه القدسية لدى شيخنا الفاضل، علما ان خطاباته المنبرية والجماهيرية طافحة باتهام اليهود بتحريف التوراة ..!!؟؟
ويتابع الكاتب أحمد الرمح قائلا :
[ وأما دعوى الوعد الإلهي : فقد ادعى اليهود أن الله قطع عهداً على نفسه بأن يملِّك اليهودَ أرض العرب في فلسطين ، فقد جاء في سفر التكوين الإصحاح السابع عشر : «وقال الرب لأبرام : وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهداً أبدياً ، لأكون إلهاً لك ولنسلك من بعدك ، أرض غربتك كل أرض كنعان ملكاً أبدياً ؛ وأكون إلههم ». هذا هو نص الوعد الإلهي الذي يتمسك به اليهود في أرض فلسطين وعلى هذا الأساس ادعوا بأن فلسطين هي أرض الميعاد . ورغم اعتقادنا الجازم بأن العدل الإلهي لا يمكن أن يعطي عهداً ؛ يظلم فيه شعباً لمحاباة شعب آخر ]
من الملاحظ هنا ان شيخنا حاد عن نهجه السابق، فنراه هنا يعترض على الرواية التوراتية كونها تصب في مصلحة اليهود ولا تتفق مع آراءه المسبقة ..؟! فهل يمكن ان نسمي هذا الأنتقاء بحثا علميا نزيها ..!؟ ما الذي دعا شيخنا ان يعتقد هذه المرة "جازما" ان الرواية التوراتية خاطئة، فيما الروايات التوراتية السابق ذكرها والتي تتساوق مع طرحه اعتبرت ذات مصداقية عالية ..!؟
وهذه مفارقة أخرى غريبة في قول الكاتب :
[ اليهود أبناء اسحق ونحن العرب أبناء اسماعيل واسماعيل واسحق أخوة لأب واحد هو إبراهيم فلماذا تكون فلسطين لذرية اسحق ولا تكون لذرية اسماعيل ]
غريب ان شيخنا العارف نسي ما قاله في ذات المقال ( إن ابراهيم والد اسماعيل جاء إلى فلسطين لاجئاً بعد وصول اليبوسيين العرب بأكثر من ألفي سنة ).. فكيف يكون اسماعيل (اب العرب) قد جاء بعد "أجداده العرب اليبوسيين" بألفي عام ..!!!؟ او بعبارة أخرى: كيف يمكن ان اليبوسيين (العرب) عاشوا قبل اسماعيل جد العرب بألفي عام ..!؟ من هم أجداد العرب اذن اسماعيل ام اليبوسيين ..!؟ فاذا كان اسماعيل هو (العربي الأول) طبقا لأقوال الكاتب، فلا يمكن ان يكون قد سبقه عرب سواء اليبوسيين او غيرهم..؟! أليس كذلك يا شيخنا ..!؟
التعليقات (0)