كمثل نبي اضطهده أهله، يقف الطفل الذي فينا على التلة المجاورة لحضاراتنا، يرمق قُراها بالعين ذاتها، بالدهشة التي لا تكبر، يخط على الأرض حكايات للصفصافة واللقلق الأشيب وأرنوب وحديدان وبحيرة الجنيات... ونحن في غفلة عنّا نلبس هموم الحياة كل صباح، وننصرف غير آبهين بنا وبالطفل الذي فينا.
لذا فقد توقف الطفل في مرحلة ما عن مرافقتنا، واقتعد حَجَرا جنب الطريق أو حائطا خفيضا، فيما واصَلنا الطريق ـ نحن - نراكم العمر على أكتافنا.. بعضنا كان يرجع إليه ويراقب الكون بعينيه، ببراءته وشغبه؛ وآخرون ـ مثل برنارد شو- فقدوا طفولاتهم منذ زمن، وبقوا هناك ينتظرون عودة الطفل كي يكملوا الحكايات معا.
الذين رجعوا خطُّوا سُبل التواصل مع الأطفال من حولهم فكتبوا نشيدا وقصيدة وحكايات للأطفال... لكن البعض استطاع بحق أن يكتب (كطفل) للأطفال، لأنه استطاع أن يلج حضرة الحرف ليس كواعظ، بل كآخِذٍ يتعلم حكمة الصغار ودهشتهم واكتشافهم المستمر للعالم: الاكتشاف الذي لا يحده غير الأفق الضيق للبالغين، والذي عبّر عنه أكثر من ألفَي طفل حين توجّه الروسي مكسيم غوركي في رسالة مفتوحة للأطفال يسأل عمّا يودون قراءته فقالوا كل شيء. لذا فإن كان الطفل هكذا لا يحدّه أفق في التلقي والاتساع والدهشة فإن تشكيل ثقافته يتطلّب مهارة لاعبي السيرك، وأناة علماء التربية وعلم النفس، ورهافة لغة الشعراء الكبار... وأيضا الكثير من الجنون الخارق غير المعتاد (عبد الجبار السحيمي).
وأن تكتب للأطفال يعني أنك تنطلق من افتراض معرفة الكثير عن العلاقة بين نمو الطفل وخصوصية التعلم (صبيحة فارس)، لكن أن تكتب كطفل يعني أن تُشبك يدك بيد الطفل الذي فيك وترحلا معا للاتجاهات كلها، تختارا ترتيبا للعالم والذات والمحيط، وترسما ملامح جديدة للمعرفة والبسمة مختلطتين، وتؤثثا النص بالدهشة التي لا تنتهي.. أو ـ باختصار ـ تشبك يدك بيده، وتنطلقا بلا افتراق.
ما عُدّ اليوم أول كتاب يُطبع للأطفال لم يكن كذلك في الأصل؛ المجموعة الخرافية المنسوبة إلى إيسوب (حكيم يوناني ولد عام 620 ق.م.) كُتبت للراشدين بين عامي 1476 و1480، لكن إقبال الأطفال عليها ظلّ كبيرا. لماذا؟
لأن الطفل الذي في الداخل لم يتوقف عن مراقبة الكاتب، ولأن الكاتب حتى وهو يتوجه للراشدين ظل يكتب كطفل فيفتح أفقا واسعا للتواصل مع الصغار.
ولـِ كليلة ودمنة أيضا سيرة تشبه سيرة مجموعة إيسوب، أُلّفَت للكبار ـ عمرا وطبقةً - وهي الآن تستهوي الأطفال لأن طفلا ما كان يوجه خطوطها ومنحنياتها.
لذا فالكتابة كطفل لم تكن يوما درجةً وعلماً يوجهان الموهبة ـ عكس الكتابة للأطفال - لأن الكثير من النصوص الموجهة للأطفال هي تعليم وتوجيه عانى منه كتّاب كبار، فهذا توفيق الحكيم حين بدأ يسجل بعض الحكايات للأطفال عام 1977 يقول: من الصعب أن أنتقي وأتخير الأسلوب السهل الذي يُشعر السامع بأني جليس معه ولست معلّما له، وهذه مشكلتي مع أدب الطفل.
أدب الطفل الذي بدأ في الوطن العربي متأخرا ـ عند مطلع القرن العشرين - كان قد بدأ في مجال الترجمة، وتحديدا في مجال الشعر. نشر محمد عثمان جلال (1838- 1898) العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ، وهو مجموعة ترجمات للافونتين إلى جانب حكايات عربية؛ ثم جاءت كتابات أحمد شوقي، و ابراهيم العرب، و الأب نقولا أبو هنا المخلصي و محمد الهرادي... فيما لم تظهر القصة الموجهة للطفل إلا في مطلع الثلاثينيات؛ ثم صار التدفق يتواصل في ارتباط أكبر مع أنماط الفكر التي تمركز الطفل في مستويات معينة من الاهتمام من جهة، وفي ارتباط بالتربية القرائية وعلاقة الحرف غير المدرسي بالأسرة والمدرسة والشارع والاعلام من جهة أخرى.
تمعن الأرقام في التعذيب. وتمعن التقارير في الإيقاظ. ويمعن الفكر العربي في رسم الخط نفسه في النشر والقراءة والمتابعات وتحقيق الجودة والإبداع في الأشكال الطباعية.. فيما يمعن الطفل الذي فينا في التحديق فينا من على التلة المجاورة لحضارتنا.
الحق أن كل المعاملات داخل معادلة نسبة القراءة هي معاملات مختلة وليس حجم الإصدارات وحدها، فمعدل القدرة على فك الشفرة لقراءة اللغة الأم في الوطن العربي تصل إلى السنة العاشرة في العمر، فيما هي أقل بسنتين في مجتمعات متقدمة، ومعدل عدد النسخ في الطبع لا يتجاوز 5000 نسخة عند تضافر الجودة والتمويل والاهتمام والحظ والدعوات الصالحة من الوالدين والأقارب؛ هذا الرقم الذي حين نصله نكون قد قلصنا الفارق مع أمريكا إلى 20 ألف نسخة في الطبع !! فهل نحزن؟
المعادلة: (عدد الإصدارات عدد النسخ عدد الأطفال الذي يحسنون القراءة = نصيب كل طفل من الكتب سنويًّا.) تتخمنا الجرائد المهتمة والتقارير بسوداوية نتائجها السنوية.
والأكيد أن الخلل ليس نقطة سوداء معينة، وإنما هو نتاج تركيب بنيوي من الاختلالات، مبدؤها نظرتنا تجاه الطفل في الأسرة والشارع والمدرسة، ومنتهاها مستوى الجدية في التخطيط للعقل العربي القادم. وبينهما أزمة قراءة وأزمة نشر وأمية وأوضاع اقتصادية وأمة تفتقر للانجازات التربوية ولقوة إعلامية وإشهارية تصنع الرمز والقيم... وليست الأزمة إطلاقا ـ الآن - أزمة إبداع كما يعتقد الكثيرون. فالإبداع ـ للكبار والصغار- على السواء لا يمكن الجزم فيه في ساحة تتيح إصدار الكتاب للبعض دون الآخر وفق شروط وإمكانات معينة لها ارتباطات عديدة ليس من ضمنها في عدد من الحالات الارتباط بالمستوى الإبداعي. أضف إلى ذلك أن أقل الإبداعات حظا من المتابعات النقدية والقراءات المتخصصة هي الكتابة الموجهة للطفل.
التوجهات الاستهلاكية العامة في المجتمع هي نتاج أعمال القوى الاعلامية والتي ليست إلا إحدى الاختيارات الاقتصادية التي صارت تبني القيم تحديدا. لنتصور أنه إلى وقت قريب كان المثقف علامة متقدمة في سلم القيم الإيجابي، بحيث يصير التأثير ممتدا لكل ما له علاقة بالثقافة والكتاب من خلال تأثير المثقف نفسه. الآن صار تأثير الرياضيين أقوى بتجاور مع نجوم السينما والفن، فيما لم نصادف من يقلد قـَصّة شَعر أو لباس أو حديث المثقف إلا من باب التنكيت.
وفي تجربة لاستضافة المبدعين الكتّاب داخل المدرسة كانت لوحة موجهة للتلاميذ عليها سؤال: كيف تتخيل القاص أو الشاعر أو الروائي... فلان (الضيف)؟ ولم تغير الأجوبة صورة المثقف المنفوش الشعر، وذي النظارات السميكة، والقبعة، والكلام الكثير، والغرابة عموما إلا في أحايين قليلة.. لماذا؟
طبعا هناك أزمة قراءة عامة، وبالتالي أزمة تواصل لكن أيضا ما يعانيه أدب الطفل ـ المنشور- من الهيمنة التعليمية والتأديبية يمنح إحساسا بالجفاف لدى المتلقي، فيما تقابله حيوية الفنانين والفنانات في الجهة الأخرى. ولكي تتغير نظرة الطفل للكتابة والحرف والنظرة تجاه العالم وضرورات التحول لا بد أن يتغير تواصلنا مع الطفل الذي فينا، ولا بد أن يغدو الطفل الذي فينا نبيّنا نحو عقول وسلوك الصغار.. ونبياًّ لم تضطهده اختلالاتنا الحضارية.
التعليقات (0)