الكتابة الصحفية والإبداع
بقلم: خليل الفزيع
هناك من يقول: إن العلاقة بين الكتابة الصحفية والإبداع مبتورة، وليست بينهما صلة، ويعتمد أصحاب هذا الرأي على الفارق في الشروط الفنية للكتابة الصحفية والكتابة الإبداعية، واختلاف الأدوات التكنيكية بينهما، وبالمقابل فإن هناك من يؤكد هذه العلاقة اعتماداً على أن فكر الكاتب وأسلوبه هما العامل المشترك في هذه العلاقة، فإذا كتب الأديب - سواء كان شاعراً أو قاصاً أو ناقداً - المقالة الصحفية، فإن فكره وأسلوبه لابد أن يطفوان على السطح، إذ لا يمكن تجريد كتاباته وإن تنوعت من فكره وأسلوبه. ومن البديهي أن المنتج الإبداعي يتخذ في بداياته الأولى من الصحافة قاعدة انطلاق، وكثيرون أولئك الأدباء الذين بدءوا بالصحافة قبل أن يفكـروا في جمع إنتاجهم الإبداعي بين دفتي كتاب.
ولعل الذين يصرون على الاعتقاد بعدم العلاقة بين الكتابة الصحفية والإبداع يتذرعون بأن المبدع قد يستمر طويلاً في ممارسة الكتابة الصحفية.. مع ندرة كتاباته الإبداعية، وهذا صحيح لأن لكل لون من الكتابة شروطه ومناخاته الخاصة، لكن لا ننسى أن العامل المشترك هو الكاتب ذاته بفكره وأسلوبه، وكثيرون أولئك الذين يكتبون للصحافة بأسلوب يرتقي إلى مستوى الإبداع، ثم أن الكتابة الصحفية المتميزة هي نوع من الإبداع الذي يجد فيه المتلقي الفائدة والمتعة في الوقت نفسه، وقد اعتمد بعض الروائيين الغربيين على الأسلوب الصحفي في كتابة رواياتهم الشبيهة بالريبورتاج الصحفي، ومن أبرز أولئك الروائيين أرنست همنجواي الذي استفاد من تغطياته الصحفية لبعض الأحداث الهامة مثل الحرب الأهلية الأسبانية، أو رحلاته إلى أفريقيا، ليقدم لنا أعمالاً روائية رائعة، وهمنجواي وأمثاله في ذلك لم يتجاهلوا شروط كتابة الرواية.. ولكن وفق فهم جديد للإبداع، وهذا الأمر يسجل لصالح العلاقة بين الكتابة الصحفية والإبداع .
وإذا كانت آفة الصحافة تتمثل في ازدحام أروقتها بأصحاب المواهب المتواضعة، فإن آفة الإبداع أيضاً أن ميدانه مليء بهذا النوع من ( الكتبة ) الذين لا تتوفـر لديهم أدنى موهبة، ومع ذلك يصرون على إغراق السوق بمطبوعات هزيلة يسمونها شعراً أو قصة أو رواية، دون أن تملك الحد الأدنى من شروط الإبداع، بل دون أن تملك الحد الأدنى من شروط الكتابة الصحفية، من حيث سلامة الأسلوب واستقامة اللغة، فالأسلوب المعوج واللغة العرجاء لا يمكن أن يقام عليهما بنيان عمل صحفي ناجح أو عمل إبداعي متميز.
ونحن هنا لا نتحدث عن تداخل الأجناس الأدبية لأن كل لون أدبي له شروطه التي تحدد ملامحه، وتؤكد انتسابه إلى لون أدبي دون سواه، لكننا نتحدث عن العلاقة الوثيقة جداً بين إنتاج الكاتب الواحد إذا مارس أجناساً أدبية مختلفة، فهذا الكاتب يكتسب بالمران صفات تلقي بظلها على جميع كتاباته، والقارئ الجاد يميز أسلوب كاتبه من بين مختلف الكتاب، وبأي لون أدبي يقدم نفسه.
ورغم كل ما في الكتابة الصحفية من إيقـاع سريع ومباشر، وما يفترض أن تتسم به الكتابة الإبداعية من تأمل وتأنٍ وابتعاد عن المباشرة، فإننا في النهاية نتفق على أن الكتابة المميزة هي التي تحظى بعناية المتلقي.
وما أكثر المبدعين الذين يطلون على قرائهم من منابر صحفية وربما بشكل يومي، ولم يمنعهم تعاملهم مع الصحافة من التمسك بنفس الأسلوب الذي عرفوا به، واتسمت به أعمالهم الإبداعية.
والحديث عن الكتابة الصحفية لا يعني أننا نتحدث عن شروط الخبر الصحفي أو التغطيات الميدانية لبعض الأحداث، ولكننا نتحدث عن الكتابة الصحفية بصفة عامة، والصحافة كما هو معروف تستوعب مختلف اهتمامات قرائها، ولذلك فهي تحتضن كتاباً عديدين تختلف كتاباتهم باختلاف اهتمامات الصحيفة وحرصها على كسب أكبر عدد من القراء، لكن الناجحين من أولئك الكتاب هم الذين يعتنون بأساليبهم وأفكارهم ويلبسونها الثوب الذي يليق بها لتبدوا في أجمل شكل وأجمل مضمون. أما أولئك الذين يكتبون أعمالهم الصحفية بلغة التقارير الإدارية، فإنهم يزجون بها إلى القارئ في هيئة مزرية غير لائقة تستهين بوعي القارئ، ولا تلبي طلبه للمعرفة، ولا تستجيب لنهمه للمتعة الفنية الراقية، وما يميز كاتباً عن آخر هي مكوناته الثقافية وروافدها المتعددة، وهذا يعني أن هناك من يستطيع الجمع بين الأسلوب الصحفي والأسلوب الإبداعي في الوقت نفسه، مما يؤكد ما ذهبنا إليه عن العلاقة بين الكتابة الصحفية والإبداع ، أما الصحفيون الذين لا يحرصون على الإبداع والتميز فيما يقدمونه لقرائهم، فهؤلاء لا يتعاملون مع مهنة الصحافة بحب يدفعهم إلى التميز والإبداع، وما هي بالنسبة لهم سوى مصدر رزق، يؤدون أعمالهم وفق مفاهيم بيروقراطية يمكن أن تنجح في أي عمل آخر، ما عدا العمل الصحفي، الذي يحتاج دوماً إلى التفوق على الذات، والسعي المتواصل لتقديم المفيد والممتع للقراء.. كل القراء .
فهل يمكننا القول بعد ذلك كله أنه لا توجد علاقة بين الكتابة الصحفية والإبداع؟ وما قيمة الكتابة الصحفية إذا خلت من الإبداع، وتُرك الحبل على الغارب، لتكون الصحافة مهنة من لا مهنة له ؟.
التعليقات (0)