الكافرون...
( فإذا نقر في الناقور . فذلك يومئذ يوم عسير . على الكافرين غير يسير . ذرني ومن خلقت وحيدا . وجعلت له مالا ممدودا . وبنين شهودا . ومهدت له تمهيدا . ثم يطمع أن أزيد . كلا إنه كان لأياتنا عنيدا . سأرهقه صعودا . إنه فكر وقدر . فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر. ) سورة المدثر .
إن لفظة الكافرون والتي أطلقت على أهل مكة الذين ناصبوا الدين الجديد العداء السياسي والاجتماعي كانت قد وضعت في مقابل كلمة المؤمنون أو المسلمون ، ان هذا المقطع السابق العنيف والملتهب الذي تثار به في بكل وضوح مناقشة سياسية واجتماعية جرت في زمن النبي ـ لكنها سرعان ما تحول وتقلب الى صراع بين الله و الانسان ، ويخلع عليها لباس التعالي والعمومية الشاملة هذه هي الخصيصة الأساسية للخطاب القرآني .
أما المؤمنون فهم على العكس يشكلون القوة السياسية الجديدة التي سوف تؤكد نفسها في المدينة كما أكدته وثيقة المدينة وهي وثيقة تاريخية لا تقدر بثمن . تكشف لنا الوثيقة كيف أن محمدا قد لجأ من أجل توسيع قاعدته السياسية الى عقد الأحلاف مع القبائل اليهودية والعربية ونتج عن ذلك أن الذين يدخلون في الحلف يشكلون فيما بينهم اتحادا تحالفيا . أي أمة ، لكن بالمعنى القبلي الذي سيتطور فيما بعد بفضل الخطاب القرآني ليأخذ مفهوم الأمة بالمعنى الروحي فوق التاريخي . يلتزم جميع أعضاء الحلف بأن يحمي بعضهم بعضا وأن يضمن كل واحد منهم الأمان للآخرين إنه عقد سياسي اجتماعي بالمفهوم التاريخي .
من جهة أخرى نجد أن مفردات مثل : معروف ـ طائفة ـ منافقون ـ مسلمون والتي سوف تتخذ فيما بعد في القرآن معاني وتحديدات دينية قد حافظة في صحيفة المدينة على
معانيها التي كانت سائدة في المجتمع العربي الذي لم يلامسه التبشير الجديد . يمثل هذا الانشطار بين المؤمنون والكافرون المرسخ في القرآن نوعا من التسامي والتصعيد الديني للتوتر الاجتماعي السياسي الحاصل بين الذين يطيعون السلطة الجديدة، وأولئك الذين يرفضون هذا الخضوع . وهنا تتعدد المصطلحات وتتخذ المفاهيم شكلا مغايرا ،راح يكرسه الخطاب النبوي في الممارسة اليومية المعاشة داخل هذا البناء الذي يراد له أن يحرك المجتمع حركة تصاعدية أي أن يسمو به نحو أبعاد لم يعرفها من قبل وأن يشع نوعا من القيم التي تأخذ هنا طابعا سماويا أي طابعا متعاليا على التاريخ .ثم ترسخ نموذجا تندرج في داخله قيم معنوية . للطاعة والعصيان تاريخ فوري يزيد في قيمة الوعد والوعيد أو التهديد بالموت والعقوبة الأبدية ، يهدف هذا الرهان الى تقوية وحماية الأتحاد التحالفي للأمة الذي كان قد شكل في المدينة من جماعة الأنصار والمهاجرين وذلك من أجل تحقيق هدف محوري هو أخضاع مكة ، كان فتح مكة يعتبر أمرا أساسيا ليس فقط من اجل تصفية حكم قائم فيها وإنما ايضا وخصوصا من أجل أن يضمن للمسلمين قاعدة أرضية مقدسة تبقى المدينة بدونها مصطحا أرضيا وسياسيا هشا .
في الواقع إن المعاني التي كررت ورددت دون ملل أو تعب في القرآن قد أوجدت ورسخت سيادة عليا ومتعالية سيادة الله الواحد الحي ، المتكلم الى البشر وهذه السيادة هي التي ستسوغ وتشرع السلطة السياسية للنبي ولخلفائه من بعده .
ينبغي على التحليل أن يتفحص هنا العلاقات الحساسة التي نسجت وحيكت بين السيادة العليا التي تعتمد في حقيقتها على تماسك المعنى المقترح من قبل الخطاب القرآني وبين السلطة السياسية التي راحت ترسخ نفسها على أرض الواقع في المدينة على صيغة أحلاف مع قبائل مختلفة ، أو على شكل حملات عسكرية ،هذا بالإضافة الى نشاط تشريعي للدولة الجديدة التي هي في طور التشكل ، واذا كانت الصياغات القرآنية قد ركزت كثيرا على مسألت اعتماد السلطة السياسية ولا استقلاليتها بالقياس الى السيادة العليا الإلهية ، فإن العلاقة العكسية الني تتلخص في معرفة دور المبادرات السياسية للنبي في ترسخ سيطرت التحديدات والآيات القرانية، على وعي البشر، لم تؤخذ بعين الاعتبار . ذلك أن الله نفسه ينخرط مباشرة ، حتى في المعارك العسكرية ضد أعدائه ، ثم راحت الفاعلية التأويلية أو التفسيرية مع كتابة التاريخ المتأخرة تزيد من صرامة والتحام العلاقة السابقة بين السيادة العليا والسلطة السياسية وذلك بإخفاء أو حجب الدوافع الواقعية للتاريخ ثم القيام بعملية انتقائية للظروف الملائمة التي طاب لله أن بنتجها وذلك من أجل بيان رغباته ونصرته لحزب المؤمنين حزبه .
من الضد الى الضد
سوف أسلط الضوء على مقطعين من القرآن من أجل أن أبين كيف أن السلطة السياسية التي كانت في طور الظهور والتشكل راحت تبحث عن سند أو دعامة لها في السيادة العليا للإله ، لقد اعترف الشارحون فيما يخص كلا المقطعين أن الأمر يتعلق بقصة المجاعة التي عانى منها المكيون عندما أمر النبي بعد هجرته الى المدينة بقطع الطريق على القوافل القادمة من الشام الى مكة .
( وإن الذين لا يومنون بالآخرة عن الصراط لناكبون. ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجو في طغيانهم يعمهون . ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ) المؤمنون 73ـ 75
إن الضر الذي بهم والعذاب الواردين في المقطع السابق يشير كلاهما حسب المعلقين الكلاسيكيين . الى المجاعة التي حدثت نتيجة الحصار . أكثر من ذلك فإن الطبري يورد أن أبا سفيان ربما كان قد ذهب الى محمد لكي يقول له :
أنت تدعي أن الله قد بعثك رحمة للعالمين في الحقيقة أنك تقتل رجالنا بالسيف وتجعل أطفالهم يموتون من الجوع .
في المقطع الثاني نلاحظ أنه في الوقت الذي يشار فيه الى المجاعة بسكل أكثر صراحة . فإن الحدث يدمج في المثال المعروف المألوف للمدينة التي عصت ربها فعاقبها ويفقد بذلك صفة التاريخية لكي يتخذ شكل العبرة أو العظة المرتبطة بزمن معين :
( وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) النحل 111
من الممتع أن نلاحظ أن الشارحين والمعلقين الكلاسيكيين يتصرفون بطريقة معاكسة تماما للخطاب القرآني : ففي الوقت الذي يمارس فيه هذا الخطاب الغاء التفاصيل المادية والتسميات الصريحة والحكايات المحسوسة ـ الواقعية لكي يهتم ويفضل على كل ذلك تعددية معاني اللغة الدينية ( أي المجازات ـ الأمثال ـ الحكم ـ مفردات الخطيئة ـ مفردات العمل العادل الخ ) نجد أن علم التفسير يضاعف من المطابقات بين الأسماء الصريحة للأشخاص والأمكنة ، والتدقيقات الزمنية واعادة تشكيل الظروف التاريخية لأسباب النزول ، يدل هذا الموقف على خصيصة ثابته ومستمرة للوعي الديني الذي لا يستطيع التفريق بين الاسطورة والتاريخ أو الخيالي والعقلاني كما سوف يفعله العلم الحديث ، وإنما على العكس من ذلك يربط بشدة بين كلا المستويين من الوعي والمعنى .
إن التدخل الفعلي للإله في التاريخ ـ حبس المطر أرسال الكوارث النكبات للشعوب التي عصت التصفية الجسدية لأحج المعارضين أو لسعب بأسرة . أو تطبيق العقوبات النموذجية ..... منتظر ومتوقع كأنه حدث طبيعي ونظامي ، لكن في الوقت نفسه متعال وبالتالي فهو اجباري قسري .
أن يتجسد كلام الله في لغة بشرية ، أن تكون تدخلاته تخص مباشرة أنواعا من السلوك والمجتمعات والأشخاص والأمكنة المعروفة التي يمكن التحقق منها بواسطة التجربة المحسوسة ، إن تنظيم أوامره ونواهيه مسيرة التاريخ الأرضي ـ الواقعي لكل الأزمنة الآتية ، فإن كل هذه الأشياء تشكل في آن واحد معطيات طبيعية وفوق طبيعية ، ترسخ بدورها نوعا من النظرة للوجود ونوعا من التشكل السيكلوجي للوعي ، وهي بالتالي تشكل اسلوبا في عمل الإحساس والتوصيل والفهم . من المهم هنا أن نحدد وجهة نظر تاريخية ظهور ذلك الشيء الذي يفرض نفسه طيلة قرون عديدة باسم العقل الإسلامي ، نعني الاستراتيجية الدقيقة للسيطرة على التاريخ ، بواسطة النماذج المعنوية والتشريعية والتجريبية الكبرى التي وصلت الى مرحلة التمام والاتقان منذ تجسداتها الأولى في تاريح الأمة ، والتي حفظت في لغة إلهية لا يمكن تقليدها كما سوف تعلمنا المدرسانية الاسلامية فيما بعد فهي إذن لغة مقدسة تمام التقديس ومتعالية على الى الواقع ولا يمكن مسها او الاقتراب منها ، سنرى ضمن أية ظروف تاريخية وثقافية سوف تبلور الاساليب والممارسات التقنية التي يستخدمها هذا العقل تم تختزل وتقلص الى ترديدات تقليدية متحجرة في العصر المدرسي اللاحق ، لنتذكر هنا أنه منذ أن غاب الرئس المهاب للأمة محمد النبي فإن نموذج العمل التاريخي الاسلامي كان قد فرض نفسه بالشكل الكافي من الوضوح والرسوخ على جماعة المعتنقين للدين الجديد لدرجة أنه قد أتيح لعقل دولة ما ، متجاوز للروح القبلية أن ينتصر تحت اسم الخلافة على النظام القديم للعصبية والانساب العربية ، اتيح لنظام ألعصبية القبلية أن يعود مرة أخرى جراء مقتل الخلفاء الثلاث ثم بواسطة الانتصار السياسي للفرع الأموي على الفرع الهاشمي الذي سيعود مع العباسيين لاحقا .
التعليقات (0)